د. محمد البرادعي يكتب: سنوات الخداع «9» | الموجز
د. محمد البرادعي يكتب: سنوات الخداع «9»
Mon, 09/24/2012 - 10:45
رغم أن التقديرات لعدد الوفيات من العراقيين جراء تلك الحرب أشارت إلى أن ما يقرب من 800 ألف عراقى قد قضوا فى الأعوام الثلاثة الأولى للغزو مباشرة، فإن هؤلاء لم يحظوا إلا بقليل من الاهتمام من الإعلام الغربى، واستمروا غير معروفة أسمائهم أو وجوههم، ناهيك عن الملايين ممن تعرضوا للتشويه وعاهات دائمة ومن فقدوا منازلهم وأسباب استقرار حياتهم. ويمكن القول إن الأمر نفسه ينطبق على الحال فى أفغانستان، وإن كان بدرجة أقل. فى الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بصفة عامة كان لديهم حصر دقيق بعدد جنودهم الذين يلقون حتفهم فى العراق.
وكيف لا يمكن لقادة الدول الغربية أن يفهموا الشعور بالغضب والظلم والمهانة والمرارة الذى سببته هذه الحرب، إلى جانب الجراح الثقافية التى نجمت عنها والتى يُرجّح أن تظل قائمة لجيل كامل على الأقل.
فى يناير 2005 التقيت موفق الربيعى على هامش أعمال منتدى دافوس، وكان الربيعى مستشارا للأمن القومى فى العراق، ورغم أنه كان يعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية فإنه أبلغنى أن الطريقة التى تدير بها أمريكا الأمور فى العراق هى طريقة «إجرامية». ومن ذلك أخبرنى الربيعى أنه عندما دخلت القوات الأمريكية الفلوجة وقامت بقتل المئات من العراقيين هناك، اتصل بالجنرال «جورج كيسى» قائد القوات العسكرية الأمريكية فى العراق ليخبره أن هذه الطريقة لا تتسم بأى قدر من الإنسانية، فما كان من الأخير إلا أن أجاب عليه بكل برود: «أنا من المارينز، وهذه هى الطريقة التى يتصرف بها المارينز».
ولقد رأى كثيرون فى الطريقة التى تتصرف بها الولايات المتحدة فى العراق، أو على نطاق أوسع فى ما سمته الحرب على الإرهاب، إرهاصات لصِدام بين الحضارات وتبريرا ممتازا يستعمله المتطرفون لتجنيد أتباع لهم. والأمثلة الصارخة على ذلك تبدو فى عمليات ترحيل المسجونين بواسطة الـ«CIA» ليتم تعذيبهم، والتى يطلق عليها «Rendition». وفى عمليات الاعتقال المهينة التى قامت بها فى سجون مثل جوانتانامو وأبو غريب، وكانت مشاهد الذل والإهانة اليومية التى تتناقلها قنوات التليفزيون عما يجرى فى العراق وفى أفغانستان، سببا فى تنامى الشعور بالمهانة عربيا وإسلاميا والقناعة بأن سياسات الولايات المتحدة تقوم على الاحتقار لحقوق الإنسان، والتفرقة الثقافية الصارخة، وتجاهل القواعد الدولية المعمول بها فى الحروب (مثل حماية المدنيين واستخدام القوة بغير تمييز).
فى الوقت نفسه، فإن ما كانت تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية فى العراق وأفغانستان نال من قيم الديمقراطية والحرية الأمريكية، وهى القيم التى تعرفت عليها بنفسى ولمستها وقدرتها خلال سنوات دراستى فى نيويورك، وبالتالى نالت من تقدير الشعوب العربية والإسلامية للدعوة الأمريكية لنشر الديمقراطية ونالت من مصداقية مواقف الولايات المتحدة الأمريكية فى احترام الكرامة الإنسانية. لقد روجت الولايات المتحدة وحلفاؤها للعنف وللفرقة الثقافية التى أعادت العالم إلى مراحل مبكرة من التاريخ الإنسانى.
لكننى بوصفى مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية كنت أشعر بالقلق الشديد من تشويه صورة المنظمات الدولية بما فى ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتبعية. كنت أخشى أن ينظر إلى هذه المنظمات على أنها أصبحت أداة طيعة فى يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، لكن أكثر ما كان يصعب علىّ قبوله هو تيقنى من أن الولايات المتحدة وحلفاءها القريبين لم يكن فى نيتهم أبدا أن يأخذوا نتائج التفتيش بجدية إلا إذا كان من شأنها أن تدعم الدعوة إلى تغيير النظام بالقوة المسلحة.
ومنذ مطلع التسعينيات كنت أدرك أن نظام حظر انتشار الأسلحة النووية قد دخل مرحلة جديدة تقوم على رغبة بعض الدول فى تطوير برامج تسلح نووى سرية لتحقيق مكتسبات سياسية وأمنية، وإمكان استخدام أساليب الخداع فى تحقيق ذلك، وما تعلمته من الحرب على العراق أن هذا الخداع المتعمد لم يكن بالضرورة مقصورا على دول صغيرة تحكم بصورة ديكتاتورية. وفى ظل هذه المتغيرات الجديدة فإن حيادية الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقدرتها على التزام المهنية والاستقلالية والتحقق من المعلومات وتوثيقها لأقصى درجة ممكنة أصبحت أكثر أهمية من أى وقت مضى.
تطرح علينا الحرب على العراق عددا من الأسئلة الصعبة، فإذا كان المجتمع الدولى يريد أن يعيش فى ظل حكم القانون فلا بد له من تحديد ما ينبغى عليه القيام به إذا ما قام البعض بخرق القانون الدولى بصورة تتسبب فى خسائر كبيرة فى الأرواح بين المدنيين وحول مَن ينبغى أن يتحمل مسؤولية شن حروب بالمخالفة لميثاق الأمم المتحدة خاصة عندما يثبت أن هذه الحرب شُنت على أساس معلومات خاطئة وانتقائية، بل وعلى أساس من تضخيم لهذه المعلومات غير الصحيحة.
وحسب ميثاق الأمم المتحدة فلا يحق لأى دولة أن تستخدم القوة ضد دولة أخرى إلا فى حال الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت للهجوم، كما زعم البعض أنه يمكن القيام بالشىء نفسه وقائيا فى حال ما كان هناك خطر داهم محدق على دولة ما، خاصة فى عصر الأسلحة النووية. أما الرغبة فى تغيير الأنظمة فلا يمكن أن يعد سببا مشروعا لشن حرب من دولة ضد أخرى. وفى كل الأحوال فإنه عندما تُشَن الحروب فإن اتفاقية جنيف الرابعة واضحة فى تأكيدها على ضرورة حماية المدنيين، كما أن القانون الدولى الإنسانى يؤكد عدم جواز الاستخدام العشوائى للقوة.
وفى مقال نشره فى مجلة «نيوزويك» تحت عنوان «إشكالية الانشقاق» ثم قام بتطويره بعد ذلك فى كتاب تحت عنوان «حرب ضرورة وحرب اختيار»، يقول «ريتشارد هاس» إنه تناقش مع «رايس» فى يولية 2002 فى مسألة الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق، وإنه فى ذلك الحين قالت له «رايس» إنه لا داعى للنقاش مطولا لأن الرئيس «بوش» قد عقد العزم فى ما يخص العراق، وكان واضحا من إجابتها أنه قرر شن الحرب.
ولم يكن «هاس» الوحيد الذى أدلى بشهادة كتلك، فقد قام بذلك العديد من المصادر القريبة من دائرة صنع القرار بمن فيهم سفير بريطانيا لدى الولايات المتحدة الأمريكية «كريستوفر ماير» الذى قال إن قرار الحرب اتخذه «بوش» و«بلير» فى قمة جمعتهما فى كامب ديفيد فى عام 2002. كما أشارت تقارير أخرى إلى أن المحافظين الجدد كانوا ينادون بحسم بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر بإنزال العقاب على دولة عربية ومسلمة، وأن كثيرين اقترحوا أن تكون العراق الهدف لذلك وطبقا لتلك التقارير فإن حرب العراق كانت حربا مبنية على إيديولوجية خيالية تهدف إلى تحويل العراق إلى واحة للديمقراطية كنموذج يحتذى ويُغيّر من شكل الخريطة الجيو سياسية فى الشرق الأوسط.
ولم يُخفِ «بلير» و«بوش» أن تغيير النظام فى العراق كان من أهدافهما الرئيسية، بغض النظر عما ساقاه من مبررات لشن الحرب على العراق. وهناك الكثير من الشهادات التى تشير إلى تعاون بينهما فى التجهيز لذلك من خلال تضخيم ادعاءات حول برامج لأسلحة الدمار الشامل لم يكن لها وجود فى الواقع. وكان من اللافت أنه بعد الحرب وفى شهر سبتمبر 2003 اضطر نائب الرئيس الأمريكى (تشينى) إلى الاعتراف بأنه أساء الحديث قبل الحرب، وبأن أمريكا لم يكن لديها أبدا دليل على امتلاك صدام حسين لأسلحة نووية.
لقد أدلى «بوش» و«بلير» بتصريحات لم يكن لها أساس من الصحة بما فى ذلك المعلومات المضللة حول استيراد العراق لشحنات من اليورانيوم عالى التخصيب من النيجر، وحديث «بلير» على أن العراق بحوزته أسلحة كيميائية يمكن تفعيلها للهجوم فى خلال 45 دقيقة، وفى ذلك لم يعبأ أى من الاثنين كثيرا بالأرواح التى أُزهقت جراء هذه الحرب والتى كانا يشيران إليها بأنها عمليات قتل غير مقصود مما يقع فى أثناء العمليات العسكرية.
ويبقى السؤال حول ما يجب فعله، هل يجب على الأمم المتحدة أن تطلب الرأى القانونى من محكمة العدل الدولية حول مدى قانونية الحرب على العراق، وإذا ما جاءت الفتوى بأن الحرب غير قانونية، وكذلك إذا ما أخذ فى الاعتبار مئات الآلاف الذين أزهقت أرواحهم فى تلك الحرب، فى هذه الحالة ألا يجب على المحكمة الجنائية الدولية أن تحقق فى ما إذا كان ما حدث يمثل جريمة حرب وأن المتسبب فيها يجب توقيفه ومحاكمته؟ وهل يمكن للعراق أن تطالب بالتعويض عن الأضرار التى لحقت بها بالمخالفة للقانون الدولى ومن جراء حرب شُنت على أساس معلومات غير صحيحة؟
إننا إذا ما أردنا أن نعيش فى عالم يحكمه القانون فلا يمكن أن نقصر المقاضاة على جرائم الحرب على الخاسرين أمثال «سلوبودان ميلوسوفيتش» أو عمر البشير اللذَيْن عاشا فى مناطق تعرضت للقمع لفترات طويلة، لأننا إذا ما أردنا أن تكون لقواعد القانون شرعية فيجب أن تطبق بالمساواة على الجميع، وإلا فإننا كمجتمع دولى سنكون مدانين بتطبيق معايير مزدوجة.
ويبقى سؤال أخير: هل لدينا كمجتمع دولى القدرة والشجاعة على اتخاذ التدابير اللازمة التى تحول أن لا تتكرر مأساة حرب العراق مرة أخرى أبدا؟
كوريا الشمالية: 2003 وما بعدها
عضو جديد فى النادى النووى
كان عام 2002 يقترب من نهايته، وبعد أقل من شهر من عودة مفتشى الأمم المتحدة إلى العراق، وجد العالَم نفسه مرة أخرى فى مواجهة الملف النووى لكوريا الشمالية.
ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا تبقى كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهات لا تنتهى. أحيانا تقترب هذه المواجهة من حافة الهاوية، وأحيانا أخرى تبتعد عنها ليعود الصراع عند الحافة مرة ثانية.. وهكذا. وملف التفاوض حول البرنامج النووى الكورى يتأرجح بين الحركة والسكون بناء على مواقف تتخذها كوريا الشمالية أو الولايات المتحدة، بينما العالم يتابع دون أن يستطيع أن يؤثر كثيرا أو قليلا على تفاعلات هذه القضية النووية.
كانت الشعلة النووية قد انتقلت منذ فترة طويلة إلى «كيم جونج إيل»، ابن «كيم إيل سونج»، دون تغيير يُذكر. وكان الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة يحدد خطوات معينة كمحاولة للتوصل إلى حل للتوترات القائمة، منها أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مفاعلَيْن نوويَّيْن يعملان بالماء الخفيف مقابل تجميد كوريا الشمالية لعملياتها النووية المعروفة. غير أن شعورا بالإحباط كان يسود فى كوريا الشمالية بسبب تأخر الولايات المتحدة فى تسليم هذين المفاعلين. وكان الأمريكيون يشعرون كذلك بالإحباط لأن النظام لم يَنْهَر ولا هم عرفوا أكثر مما كانوا يعرفون عن الأنشطة النووية السابقة لكوريا الشمالية.
وبين هذا وذاك حاولت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قدر استطاعة مفتشيها الموجودين على الأرض فى «يونج بيون» التأكد من تجميد نشاط المنشآت النووية لكوريا الشمالية المحددة فى الاتفاق الإطارى، لكن دون أن يكون لدى الوكالة ومفتشيها القدرة على التحقق من أى أنشطة نووية أخرى قد تكون موجودة فى أماكن أخرى فى كوريا الشمالية.
وفى وقت من الأوقات لاحت فى الأفق احتمالات لتحسن العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث استَقبلت وزيرة الخارجية الأمريكية «مادلين أولبرايت» بحفاوة، قرب نهاية ولايتها، مبعوثا عن الزعيم الكورى الذى كان بدوره قد تقدم بالدعوة للرئيس الأمريكى لزيارة بلاده، بل إن «كيم جونج إيل» نفسه استقبل «أولبرايت» بحرارة بالغة خلال زيارتها لكوريا الشمالية. وبعد ذلك أبدى وزير الخارجية الجديد «كولين باول» نيته فى استمرار الحوار مع كوريا الشمالية، وأعلن عن ذلك بقوله إن إدارة الرئيس «جورج بوش» (الابن) «تنوى الاستمرار فى الحوار الذى بدأته إدارة الرئيس كلينتون مع بيونج يانج».
غير أن الرئيس «بوش» (الابن) كانت له رؤية أخرى، فأعلن لدى استقباله زعيم كوريا الجنوبية «كيم داى جونج» فى أعقاب حصول الأخير على جائزة نوبل للسلام لاتباعه سياسة الشمس المشرقة للحوار والتقارب مع كوريا الشمالية أن واشنطن غير راغبة فى الحوار مع النظام الكورى الشمالى. وبعد أشهر قليلة كان «بوش» (الابن) قد وضع كوريا الشمالية مع العراق وإيران فى ما وصفه بـ«محور الشر»، بل إنه وصف زعيم كوريا الشمالية بالطفل المدلل وبأنه قزم.
وبعد أشهر من ذلك الحديث، ظهرت علامات، ولو محدودة، لحدوث تحسن ما مع البدء فى بناء أحد المفاعلَيْن اللذَيْن كانت واشنطن وعدت بتقديمهما لـ«بيونج يانج» لإنشاء برنامج نووى سلمى، رغم تأخرها فى ذلك عدة سنوات. وفى أعقاب تلك الخطوة استقبلت «بيونج يانج» رئيس وزراء اليابان «يونيشيرو كيوزومى» فى ما وصف وقتها بأنه اختراق دبلوماسى. وفى خلال تلك الزيارة أعلن الزعيمان الكورى واليابانى عن اعتزام بلديهما تطبيع العلاقات فى ما بينهما.
ولكن حدث تحول مفاجئ جراء معلومات أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا «جيم كيلى» فى تقرير أعده لواشنطن بناء على لقاءات أجراها مع كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. وحتى يومنا هذا لم يتكشف الكثير مما جاء فى هذه اللقاءات، ولكن يبدو أن «كيلى» قد وجه خلالها اتهاما لكوريا الشمالية بإدارة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم. وحسب ما نقله «كيلى» إلى واشنطن فإن ما أثاره حول البرنامج السرى الكورى لتخصيب اليورانيوم قد قوبل بإقرار من الجانب الكورى، غير أن ذلك تم دون أن تظهر تفاصيل فى ذلك الوقت حول طبيعة هذا البرنامج أو مداه.
وطالبت الولايات المتحدة الأمريكية بالتفتيش على البرنامج المذكور، وهو الأمر الذى تسرب للصحافة مصحوبا باتهامات لكوريا الشمالية بخرق الاتفاق الإطارى القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاف برنامجها النووى مقابل حصولها على مفاعلَيْن نوويين للأغراض السلمية. وبدلا من أن تسعى للحصول على المزيد من المعلومات حول برنامج التخصيب السرى ومعالجتها فى نطاق الاتفاق الإطارى، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية تأثيرها على «كيدو» وهى منظمة كان قد تم إنشاؤها من قِبل واشنطن وسيول وطوكيو لتنفيذ الاتفاق الإطارى لوقف عمليات شحن الوقود النفطى الثقيل إلى كوريا الشمالية. وبالفعل تم وقف مفاجئ لهذه الشحنات التى كانت بيونج يانج تعتمد عليها كثيرا فى توليد الطاقة.
وجاء الرد عنيفا من كوريا الشمالية التى أعلنت انتهاء العمل بالاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة الأمريكية، لوقفها شحنات الوقود. كما أعلنت بيونج يانج اعتزامها إعادة العمل بمفاعل يونج بيون، بل إنها هددت بطرد مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف نشاط نووى متقدم وصولا إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ولم يكن الأمر مجرد تهديد، بل شرعت بالفعل كوريا الشمالية فى مطالبة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية برفع الأختام وأجهزة الاستطلاع عن منشآت يونج بيون.
وقد أجرينا اتصالات عديدة مع المسؤولين فى كوريا الشمالية لمحاولة إقناعهم بمراجعة موقفهم. كان ذلك فى عطلة أعياد الميلاد، وكنت أتابع الأمر من فندق كنت أقضى فيه عطلة نهاية العام مع أفراد أسرتى فى أحد منتجعات سريلانكا. وأتذكر أننى أدليت بحديث لقناة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية حول هذا الشأن من غرفتى بالفندق، معتمدا على ترتيبات قام بها ابنى مصطفى. فى الوقت نفسه كنت على اتصال دائم بأعضاء مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا. وقد حاولت مع زملائى فى فيينا إبداء كل ما يمكن من حجج لإثناء بيونج يانج عن القيام بأى تصرف متسرع.
فى السادس والعشرين من ديسمبر أدليت ببيان أدنت فيه الخطوات التى اتبعتها كوريا الشمالية، معتبرا هذه الخطوات مدعاة للقلق من انتشار التسلح النووى، بل إننى ذهبت إلى أبعد من ذلك واتهمت كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية فى ما يتعلق بالانتشار النووى. لكن كل ذلك لم يؤثر فى قرار كوريا الشمالية التى أصر المدير العام لإدارتها للطاقة النووية على أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسحب مفتشيها فورا، وهو ما اضطرنا للامتثال له.
وفى اجتماع عاجل لمجلس المحافظين تمت إدانة قرارات ومواقف كوريا الشمالية، ومطالبتها بإعادة العمل بالتدابير المقررة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبعد هذا الاجتماع بأربعة أيام أعلنت كوريا الشمالية انسحابها من معاهدة حظر انتشار السلاح النووى، وقام فنيون كوريون بإيقاف عمل كل أجهزة المراقبة التى كانت الوكالة قد قامت بوضعها ثم تبع ذلك إصلاحات أجراها الفنيون من قِبل كوريا الشمالية لإعادة تشغيل المفاعل، حيث بدؤوا بنقل قضبان الوقود إلى المفاعل، واتخذوا عدة خطوات للبدء فى إعادة معالجة الوقود المستنفد.
وقمت بمطالبة بيونج يانج بصورة علنية بالعودة عن هذا القرار، معربا عن اعتقادى بأن الخطوات التى تتخذها لا تسهم فى تحقيق السلام والاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية. وعُقدت بعد ذلك لقاءات على المستوى الوزارى بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية للبحث عن مخرج دبلوماسى من هذه الأزمة. على أنه كان من الواضح أن الضرر قد وقع فعلا، على الأقل فى المدى القصير.
وكان الفريق المتشدد من المحافظين الجدد فى واشنطن يشعر بالارتياح لما حدث لأنهم كانوا يرون أن مجرد الحوار مع النظام الحاكم فى كوريا الشمالية هو أمر لا يمكن القبول به، بل إنهم كانوا يرون فى الاتفاق الإطارى الخاص بوقف النشاط النووى لكوريا الشمالية مقابل حصول بيونج يانج على مفاعلَيْن للأغراض السلمية هو بمثابة مكافأة لكوريا الشمالية عما قامت به من خرق لتعهداتها المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ومع أنه يمكن القول بالفعل إن هذا الاتفاق كان يتضمن الكثير من النقائص، إلا أن البديل عنه كان أسوأ بكثير من الاتفاق نفسه.
وبطبيعة الأمور قام مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الأمر إلى مجلس الأمن، ولكن المجلس لم يتخذ أى إجراء، حيث كان المجلس مشغولا حينئذ، كبقية العالم، بالكارثة التى كانت فصولها تتداعى فى العراق. لكن السبب الحقيقى فى ذلك كان موقف الصين، التى لها حق الفيتو والتى كانت تصر على أن حل ملف كوريا الشمالية وغيره من الملفات المماثلة يتطلب الحوار والتفاوض وليس المواجهة. وفى إبريل من عام 2003 استضافت الصين مباحثات مباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، فى محاولة للجوء إلى الدبلوماسية وراء الأبواب المغلقة، لكن هذه المباحثات لم تُحرز سوى تقدم محدود، أعقبها إبداء المطالب والاتهامات العلنية ورفض العروض.
وبعد تلك المباحثات بفترة قصيرة أعلنت كوريا الشمالية تخليها عن آخر تعهداتها فى ما يخص منع انتشار الأسلحة النووية، وهو اتفاق بينها وبين جارتها الجنوبية لإبقاء شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية وهو الاتفاق الذى كان قد تم توقيعه بين الكوريتين فى 1992. ولكن ذلك لم يَحُل دون استمرار الصين فى جهودها الهادفة للتوصل إلى حل تفاوضى للأزمة فى كوريا الشمالية، فدعت للمفاوضات السداسية، وهى سلسلة ممتدة من المفاوضات تجمع كوريا الشمالية والصين وكلا من الولايات المتحدة واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية.
ولم يكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية أى دور فى المحادثات السداسية. والواقع أن السنوات التى أعقبت خروج كوريا الشمالية من معاهدة حظر الانتشار فى 2003، كانت، من الناحية العملية، معتمة تماما من وجهة نظر الوكالة، حيث لم تصلنا أى معلومات عما يجرى ولم يكن لدينا أى وجود فى كوريا الشمالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق