د. محمد البرادعي يكتب: سنوات الخداع.. الحلقة (6) | الموجز
د. محمد البرادعي يكتب: سنوات الخداع.. الحلقة (6)
Fri, 09/21/2012 - 11:30
مع حلول عام 2002 كان المشهد الأمنى فى العالم قد تغير بشكل ملحوظ، فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة أصبح واضحا لدى الجميع أن الجماعات المتطرفة لديها قدرة كبيرة على القيام بعمليات انتحارية معقدة، بل إنه اتضح بعد ذلك أن هذه الجماعات المتطرفة ترغب أيضا فى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وردّا على ذلك كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبذل جهدا كبيرا لمساعدة الدول على تأمين المواد النووية التى بحوزتها للحيلولة دون استخدامها على نحو غير مشروع.
وفى هذا الوقت كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد حققت تطورا مهمّا فى أدائها بالنظر إلى التجارب التى اكتسبتها من خلال التعامل مع ملفات مثل الملف العراقى وملف كوريا الشمالية، إضافة إلى ذلك أن الوكالة كانت قد طورت قدراتها القانونية والتكنولوجية الخاصة بالتحقق.
كان المشهد قد تغير كذلك بسبب النهج الذى تبنته إدارة جورج دبليو بوش بشأن التسلح النووى حيث اتخذ الرئيس الأمريكى فى ديسمبر من عام 2001 قرارا أحاديّا بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية بينها وبين روسيا، وكانت تلك المعاهدة واحدة من أهم الأسس التى تم بناء عليها التهادن الأمريكى السوفييتى منذ عام 1972.
وحتى عندما قام بوش ونظيره الروسى بوتين بتوقيع اتفاقية جديدة فى مايو 2002 المعروفة باسم معاهدة الحد من القدرات الهجومية الاستراتيجية، فإن هذه الاتفاقية كانت محل تهكم كبير فى الأروقة الدبلوماسية بالنظر إلى أنها لم تكن تتضمن: 1- وسيلة للتحقق من التخفيض الذى تم التعهد به فى الترسانات النووية. 2- أنها كانت ذات طبيعة مؤقتة حيث كان ينتهى العمل بها فى ديسمبر 2012، وبالتالى لم تكن تُلزم أيّا من الطرفين باستمرار العمل بها بصفة دائمة. 3- أن الانسحاب من هذه الاتفاقية لم يكن يتطلب إلا أن يقوم الطرف الراغب فى الانسحاب بتقديم إخطار مسبق لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر. وبالنسبة إلى خبراء السياسات النووية كان من الواضح أن هذه المؤشرات لا تعبر عن أى جدية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ التزاماتها المتعلقة بخفض الأسلحة النووية، وهى الالتزامات المقررة حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بل على العكس من ذلك، حيث كان باديا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم الاحتفاظ بترسانتها النووية أو تعزيزها، وفى ذات الوقت كانت تريد أن ترى فيه شدة أكبر فى التعامل مع أى احتمالات لانتشار أسلحة الدمار الشامل بين الدول الأخرى.
كان هذا هو السياق القائم فى أواخر 2002 عندما بدأ التركيز على العراق.
وإضافة إلى ذلك بدأ البعض يتحدث فى الصحافة والتليفزيون عن صلات ما تربط صدام حسين بتنظيم القاعدة، بل عن يد خفية للرئيس العراقى فى هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، مع استمرار الاتهامات لبغداد بالاحتفاظ ببرامج لأسلحة الدمار الشامل. وكان يعنينا بوجه خاص ما تذكره الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أن لديهما أدلة قاطعة على أن الزعيم العراقى لم يفكك أسلحته للدمار الشامل. وكانت الوكالة متغيبة عن العراق منذ مغادرتنا له على عجل فى 1998 قبيل عملية ثعلب الصحراء، مما حدّ كثيرا من قدرتنا على الاطلاع على مجريات الأمور هناك خلال هذه السنوات الأربع.
وكان الرئيس بوش قاطعا فى تأكيداته فى هذا الشأن. فقد ألقى خطابا فى مدينة سينسيناتى بولاية أوهايو فى 2 أكتوبر 2002 يمثل ذلك خير تمثيل:
منذ أحد عشر عاما كان مطلوبا من النظام العراقى، كشرط لإنهاء حرب الخليج الفارسى، أن يدمر أسلحته للدمار الشامل، والتوقف عن كل تطوير لمثل هذه الأسلحة، والتوقف تماما عن دعم الجماعات الإرهابية. وقد انتهك النظام العراقى كل هذه الالتزامات؛ فهو يمتلك وينتج أسلحة كيماوية وبيولوجية ويسعى للحصول على أسلحة نووية. لقد قدم للإرهاب المأوى والمساندة، بل يمارس الإرهاب ضد شعب العراق نفسه. لقد شهد العالم كله خلال أحد عشر عاما تاريخا من التحدى والخداع وسوء النيات».
ثم يقول فى الخطاب نفسه:
«إن الأدلة تفيد أن العراق يُعيد تشكيل برنامجه للتسلح النووى. لقد عقد صدام حسين اجتماعات عديدة مع العلماء النوويين العراقيين الذين يطلق عليهم اسم (المجاهدين النوويين)؛ أى المحاربين النوويين فى الحرب المقدسة. وتدل صور الأقمار الاصطناعية على أن العراق يعيد بناء المنشآت فى المواقع التى كانت جزءا من برنامجه النووى فى الماضى. لقد حاول العراق شراء أنابيب الألمنيوم شديد الصلابة وغيرها من المعدات اللازمة لأجهزة الطرد الغازية التى تستخدم فى تخصيب اليورانيوم لصنع الأسلحة النووية».
وقد أصبح واضحا من هذا النوع من التصريحات التى كان بها كثير من المعلومات المغلوطة والمضللة أو التى تحتاج إلى التحقق؛ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت فى التحرك باتجاه الضغط من أجل تغيير النظام فى العراق، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن تحقيق مثل هذا الأمر سواء من خلال الاستمرار فى فرض العقوبات العسكرية على العراق أم من خلال استخدام العمليات العسكرية، كما كانت الحال بالنسبة إلى أفغانستان. وبدا أن الضغط على العراق يؤتى ثماره، فبينما كان صدام حسين ينفى ما تقوله واشنطن إلا أنه أرسل خطابا للأمم المتحدة يدعو فيه إلى عودة المفتشين. وبعد كثير من النقاش تبنى مجلس الأمن قراره رقم (1441) فى 8 نوفمبر 2002 حيث صرح بعودة المفتشين للقيام بجولة جديدة من جولات التفتيش فى العراق.
كان العمل الذى يجرى وراء الكواليس أقل تناسقا وأكثر إفصاحا عن الوضع. والمثال على ذلك كان عملية صياغة القرار (1441) الذى لم تنشر مسودته الأولى التى صاغتها الولايات المتحدة، والتى كانت تريد أن تضع الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن فى موضع القيادة لعمليات التفتيش. وكانت تسعى من خلاله لأن يكون عمل المفتشين مصحوبا بوجود مرافقين مسلحين، وأن يقوم المفتشون بتقديم إفادات عن نتائج عملهم إلى الدول التى تطلب تفتيش موقع معين؛ وهو ما مثل رغبة فى استعادة منهج وأسلوب عمل الأنسكوم الذى تسبب فى فقدانها مصداقيتها.
وقبل اعتماد القرار (1441) بأسابيع، وفى مطلع أكتوبر 2002 توجهت مع هانز بليكس، رئيس لجنة «الأنهوفيك» التى خلفت «أنسكوم»، والتى كانت بالتالى مكلفة بالتفتيش عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وكذلك الصواريخ، لمقابلة كولين باول وزير الخارجية الأمريكى بناء على دعوته، وقد حضرت اللقاء كوندوليزا رايس؛ مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى، وبول وولفوتز نائب وزير الدفاع، ولويس ليبى رئيس مكتب نائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى. وكان جو اللقاء متوترا، وبدا واضحا أن الأمريكيين فى خلاف داخلى حول أفضل السبل للتعامل مع العراق، فبينما كان باول يريد أن تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على الأمم المتحدة للقيام بعملية التفتيش كان وولفوتز وغيره من المتشددين يرغبون فى أن تعتمد أمريكا على نفسها وتتجاوز بالكامل الأمم المتحدة، أما رايس فكانت تقترح اعتماد آلية تكون فيها الأمم المتحدة فى الواجهة بينما تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى الطرف الفاعل الرئيسى. وفى هذا فقد اقترحت رايس أن تتولى شخصية أمريكية مسألة متابعة المعلومات الاستخبارية التى يقوم عليها عمل «الأنموفيك»، لأن الأمريكيين كما قالت «يثقون فى رجالهم». ولقد استاء بليكس من هذا الطرح وأصر على أنه تم ترشيح شخصية كندية لتولى هذه المهمة بالفعل. كان هدفهم من الاجتماع محاولة إقناعنا بقبول بعض بنود مشروع القرار، التى كنا قد رفضناها. وكان بليكس صريحا للغاية، وقد أخبر رايس بأنه لن يقبل أن تكون مهمته مجرد واجهة لعملية تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان الأمر كذلك فعليهم أن يفعلوا مثل ما فعلوا فى الحرب الكورية فى الخمسينيات، وأكد أن كل أفراد الفريق العامل معه سيخضعون لإشراف وتعليمات الأمم المتحدة دون غيرها، ودون أى تنازل فى هذا الشأن، وذلك بالرغم من الآراء التى قدمتها رايس حول أحقية الولايات المتحدة الأمريكية والأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن بالتدخل بوصفها عضوا دائما فى مجلس الأمن، وكادت تصل فى حديثها إلى حد المساواة بين دور وحقوق مجلس الأمن ودور وحقوق الولايات المتحدة الأمريكية.
أما نائب وزير الدفاع الأمريكى فقد تعامل مع اللقاء بأكمله، وربما مع فكرة إشراك الأمم المتحدة، على أنه مضيعة لوقته. وفى الكلمات القليلة التى نطق بها نظر إلى بليكس بصورة تفتقر إلى اللياقة وقال له: «سيد بليكس، أنت تعلم أن العراقيين لديهم أسلحة للدمار الشامل، أليس كذلك؟».
تعثرت المناقشة ولم تصل إلى شىء. بل إنَّ باول أخبرنا بصراحة تفتقر إلى الكياسة -حتى إن كانت النية منها إزاحة المسؤولية عن كاهلنا- بأنه فى حال ما تقرر استخدام القوة ضد العراق فإن ذلك سيكون قرارا يتخذه رؤساء الدول لا بليكس وأنا.
ورغم أننا تمكنا فى النهاية من إقناع واشنطن بالتنازل، فى مشروع قرار مجلس الأمن، عن بعض الأفكار المستفزة، فإنهم أصروا على بعض تلك الأمور منها أن يتم استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، وأن يغادروا إلى البلاد مقر الاستجواب مع أُسرهم حتى لا يكونوا تحت وطأة صدام حسين ونظامه، وذلك بالرغم من الشروح الكثيرة التى قدمتها حول أن مفهوم العائلة فى الشرق الأوسط أوسع بكثير منه فى السياق الغربى، وأنه فى ضوء ذلك سيكون من الصعب منع الأذى الذى قد ينال أقارب العلماء العراقيين، إضافة إلى ما أكدناه من أنه ليس هناك أى دليل على رغبة العلماء أنفسهم فى مغادرة العراق للمثول أمام الاستجواب. ولكن كان باديا أن مثل هذه الأمور المتعلقة بحقوق الإنسان ليست لها الاعتبار الكبير بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية فى ما يتعلق بالتعامل مع ملف العراق.
وبعد ذلك بأسابيع وبينما التفاوض لا يزال مستمرّا فى مجلس الأمن حول تفاصيل عمل فِرق التفتيش تمت دعوتنا -بليكس وأنا- للتوجه لزيارة بروتوكولية إلى البيت الأبيض. وقبيل لقائنا مع الرئيس الأمريكى استقبلنا نائبه تشينى، وكان ذلك أول لقاء يجمعنا به. ومن خلف مكتبه تحدث تشينى بصورة مباشرة ودون أى مقدمات أو مجاملات، ليؤكد لنا أن «واشنطن لا مانع لديها من التعاون مع المفتشين الدوليين، ولكنها فى الوقت نفسه لن تتردد فى تقويض مصداقية عمليات التفتيش بهدف ضمان نزع أسلحة العراق».
وبعد ذلك التحذير جاء اللقاء مع بوش الذى كان فى الحقيقة أشبه ما يكون بمجرد جلسة استماع لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذى كرر أكثر من مرة أنه متشرف بلقائنا دون أن تكون لديه النية للاستماع لأى شىء من قِبلنا فى حضرة مستشارة الأمن القومى رايس، ورئيس مكتب بوش. وتحدث بوش بصورة مباشرة قائلا إنه يحبذ أن يكون هناك حل سلمى للملف العراقى، وإنه ليس راعى بقر من تكساس مدججا بالأسلحة التى يخرجها الواحد تلو الآخر للتصويب على خصومه، ولكنه أشار فى الوقت نفسه أنه لو لم يتمكن من نزع أسلحة العراق بالسبل السلمية فإنه سيقود «تحالفا من الدول الراغبة» لاستخدام القوى العسكرية لنزع أسلحة صدام حسين.
وقد خرجنا من اللقاءين بانطباع أن الولايات المتحدة الأمريكية راغبة فى تسيير الأمور حسب إرادتها، وهو ما كان واضحا من مواقف أخرى كانت واشنطن تتخذها فى ذلك الوقت، بما فى ذلك محاولة صياغة القرار (1441) بلغة تسمح باستخدام القوة مباشرة ضد العراق إذا ما خرق مقتضيات هذا القرار وهو ما لم يكن مقبولا لكثير من الدول الأعضاء فى مجلس الأمن. وتم التوصل إلى صيغة توافقية تفيد بأن مجلس الأمن سيجتمع لينظر فى الخطوات التالية فى حال ما ثبت أن العراق يخرق مقتضيات القرار (1441).
بعد غياب أربع سنوات عن العراق أصبحت الأبواب مفتوحة ثانية أمام المفتشين الدوليين للعودة إليه. وكانت نقطة البداية بالنسبة إلينا هى مخزون معلوماتنا عن العراق والخاصة بقدراته ومنشآته النووية السابقة. كانت كل المنشآت المتبقية من التسعينيات والخاصة بدورة الوقود النووى أو بالأسلحة النووية قد تم تفكيكها، كما أن جميع المواد التى يمكن استخدامها فى التسلح كانت قد نقلت خارج العراق منذ فبراير 1994، ولم يعد فى حوزة العراق سوى القليل من اليورانيوم منخفض التخصيب الذى لا يمكن أن يستخدم فى تطوير سلاح نووى، ولكن بالطبع فإن أى برنامج للتفتيش لا يمكن أن يزيل الخبرة العلمية والفنية التى يتمتع بها العلماء؛ ففى فترة حرب الخليج الأولى كان هؤلاء العلماء لا يزالون بعيدين عن صنع سلاح نووى، ولكنهم قد توصلوا، على المستوى المختبرى، لمعرفة بعض أساليب التخصيب وتقنيات صنع الأسلحة، وبالتالى فلقد كانت مهمة المفتشين لدى عودتهم إلى العراق هى الاطلاع على ما حدث من تغيير، والتأكد من أن هذه الخبرة لم تستخدم، مع ما كان قد تبقى أو ما يمكن أن يكون العراق قد حصل عليه خلال السنوات الأربع التالية لعام 1998، فى تطوير منشآت أو مواد نووية يمكن أن تستخدم فى تصنيع أسلحة نووية. وكان ذلك يتم من خلال زيارة المواقع المعروفة والجديدة ونُظم الاستطلاع والرصد البيئى، ومن خلال برنامج موسع للمقابلات مع العلماء العراقيين وغيرهم من المعنيين بالأمر.
كانت خبرة وكفاءة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عبر هذه السنوات قد تنامت، كما أنهم لم يكونوا يعملون فى العراق لأول مرة، وبالتالى كان لديهم من الفهم بثقافة العراق والمعرفة بمدى منشآته النووية ما يؤهلهم للعمل بكفاءة. وبالطبع فإن أحدا لا ينكر أن عمل المفتشين فى كل الأحوال يتأثر بصورة غير مباشرة وإلى حد ما بما يمكن أن يُكنه أحد المفتشين من مشاعر تعاطف أو عداء تجاه البلد الذى يعمل فيه، ومن جانبى فقد كنت دوما أحث كل الفريق على توخى الحيادية والدقة من الناحيتين الفنية والقانونية، والعمل على الاستماع لمجموعة واسعة من التوجهات والآراء المختلفة لخبراء الوكالة.
ولقد عهدت إلى عالِم الفيزياء الفرنسى المتميز جاك بوت، الذى كان يتولى إدارة مكتب التحقق النووى فى العراق، والذى كان يعمل من قبل فى البرنامج النووى الفرنسى، وبفضل قدراته الإدارية الممتازة عهدت إليه بإعداد خطة للعمل فى العراق تضمن سلامة التفتيش ومراعاة الحساسيات الثقافية، مع الأخذ فى الاعتبار حُسن التنسيق بين المفتشين، وهو ما قام به جاك بكفاءة وبراعة تتسق مع سمعته الطيبة وحسن علاقته بالجميع وحساسيته الثقافية.
وقد كان من المفيد جدّا أن يجد المرء من بين زملائه من يعهد إليه بمهام بالغة الحساسية والدقة فى تلك الأوقات المشحونة التى صاحبت بدء مهام التفتيش رسميّا فى 13 نوفمبر 2002، والتى كان ينبغى أن تتم فى سرعة وحسم بالنظر إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية الذى كان يحيط بالملف العراقى فى حال عدم التيقن من خلو العراق من أى برامج أو إمكانات لتطوير أسلحة دمار شامل. وهذا الأمر بدا واضحا بشدة فى تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والذين بدَوْا غير راضين عن أى شىء يقوم به العراق فى إطار التعاون مع عمليات التفتيش. فى الوقت نفسه كانت الصحافة الغربية تقدم تغطية بالغة الإثارة لادعاءات امتلاك العراق معدات أو مواد يمكن أن تستخدم فى تطوير أسلحة نووية، ولكن ما إن يكشف مفتشو الوكالة عن عدم صحة هذه المعلومات فإن التغطية الصحفية كانت تتراجع ولا تعطى أى اهتمام حقيقى بما كشف عنه المفتشون.
فى الوقت نفسه، فإن التعامل مع الجانب العراقى لم يكن دوما سهلا، بل إنه كثيرا ما كان يتعرض لكثير من الصعوبات سواء تمت هذه اللقاءات فى بغداد أم نيويورك أم فيينا. من هذه الصعوبات ما يتعلق بالصفات الشخصية لبعض العلماء والمسؤولين الذى كان علينا استجوابهم، مثل ما قام به كبير المسؤولين السابق عن البرنامج النووى العراقى الدكتور جعفر ضياء جعفر. كان قد تحدث مع جاك بوت بصورة غير لائقة، إلى حد أن قال له فى إحدى المحادثات إن لغته الإنجليزية لم تتحسن إلا عند زواجه من سيدة بريطانية، وهو ما اضطررت معه إلى أن أُذكّره بأن العراقيين ليس لديهم كثير من المصداقية بالنظر إلى الخداع الذى مارسوه بحق المفتشين لسنوات طويلة. واستدعى الأمر تدخل عامر السعدى للتهدئة، وقال إن ما قام به العراقيون لم يكن خداعا وإنما حيطة فى تقديم المعلومات!
والحقيقة أن جعفر كان يومها مستاء للغاية لأن تلك المقابلة، التى جرت فى نيويورك، جاءت وسط غضبه من عدم تمكنه من تسلم حقائب سفره القادم بها من العراق، وهو ما حال دون تبديل ملابسه بعد رحلة طويلة مرهقة. وقد كانت قناعة جعفر أن هذه عملية مدبرة من جانب الاستخبارات الأمريكية، وقد أعاد ذلك إلى خاطرى ما كان جعفر والسعدى وغيرهما من المسؤولين العراقيين يُكثرون من الشكوى منه لى حول تتبع عملاء المخابرات الغربية لهم ومحاولة استدراجهم وتجنيدهم خلال سفراتهم للخارج.
وفى المجمل فإن عمليات التفتيش كانت معقدة وحذرة بالنظر إلى سابق التجربة مع العراقيين وخداعهم للمفتشين فى الماضى، وكثيرا ما طالبت أنا وبليكس العراقيين بتقديم مزيد من الأدلة والمعلومات؛ وهو ما كان يجعل السعدى يبدو متوترا فى مرات لأنه كان يُصر أن هذه المطالب تضع العراق أمام تحدى توفير وثائق أو معلومات ليست بحوزته، وبالتالى فكان العراقيون يُصرون ويلحون أن علينا أن نصدقهم وأن نثق بأن العراق لم يعد لديه برامج لأسلحة الدمار الشامل أو إمكاناته، لكننا لم نكن بالطبع قادرين على الاعتماد فقط على ما يقولونه بالنظر إلى سابق خبرتنا معهم قبل حرب الخليج الأولى عام 1991.
بالإضافة إلى ذلك فإن التعامل مع المسؤولين العراقيين، خصوصا السعدى واللواء حسام أمين، لم يكن دوما أمرا يسيرا بالنظر إلى أن عمليات اتخاذ القرار فى العراق كانت شديدة المركزية وكان عليهما دوما أن يحصلا على إذن من جهة أعلى، فى الوقت نفسه فإن وزير خارجية العراق؛ ناجى صبرى الحديثى، لم يكن يتدخل بشكل مباشر فى عمليات التفتيش، ولم يكن يقدم أى إجابات عن أى من الأسئلة التى نطرحها عليه، وبقى فى حالة من الابتعاد عن تفاصيل العمل الذى كنا نقوم به.
وبالمقابل كان طه ياسين رمضان؛ نائب الرئيس العراقى، يتابع عن كثب تفاصيل عملية التفتيش. وتبنى رمضان منذ أول لقاء لنا معه فى مقر عمله، فى 20 يناير 2003، موقفا عدائيّا من عمليات التفتيش، واتهم المفتشين بالإساءة إلى صورة العراق، وبإثارة مشكلات غير مسببة، وبالافتقار إلى الحيادية.
وردّا على ما قاله تحدثت بالعربية، بالرغم من وجود مترجم فى اللقاء، وأخبرته بلغة لا تحتمل التأويل: «إننا هنا لمساعدتكم، ولكننا لا نستطيع مساعدتكم إذا لم تتعاونوا معنا»، مضيفا أن إلقاء الاتهامات جزافا فى وجه المفتشين الدوليين واتهامهم بالتجسس على العراق لن يفيد العراق فى شىء. وأنه بدلا من ذلك لا بد أن تظهروا مزيدا من التعاون والشفافية لحل المسائل المعلقة. وبدا لى أن الرسالة وصلت إلى رمضان، خصوصا أن درجة التوتر التى كانت تسيطر على حديثه قد تراجعت، وفُهم أننا فى العراق لتنفيذ مهمة عهد إلينا بها مجلس الأمن، وأن التعاون من جانبهم هو السبيل الوحيد للمأزق الذى وضعوا أنفسهم فيه لتنفيذ تلك المهمة بنجاح. وقد كان رمضان ودودا للغاية معى عندما صافحته فى نهاية الاجتماع قائلا لى: «بارك الله فيك».
وفى ذلك اللقاء، كما فى كل تفاصيل الملف العراقى، كنت دوما أتصرف من مقتضى واجباتى كموظف دولى عليه مسؤوليات محددة فى ما يتعلق بالحياد والنزاهة والمهنية مع كل الدول دون استثناء، وذلك بالرغم من الادعاءات التى حاول أن يروج لها البعض عن أن هويتى؛ كونى عربيّا ومصريّا ومسلما، يمكن أن تؤثر على مواقفى وقراراتى لصالح العراق، وما حاول أن يروج له البعض الآخر من أننى فى سعيى لعدم الاتهام بمحاباة العراق أبالغ فى التشدد فى التعامل مع الملف العراقى. ولم يكن لأى من الفريقين نصيب من الصحة فى ما قالوا به، وأظن أنه مع مُضى الوقت أصبح جليّا للعراقيين أننى لن أحابيهم فى شىء، وأصبح جليّا لغيرهم أننى لا أفعل ذلك، كما أننى لا أفعل عكس ذلك.
وفى كثير من المرات حاولت الحكومة العراقية، حسب ظنى، أن تكتشف مدى التزامى بالحياد، ومن ذلك أنه لدى وصولى أول مرة إلى العراق فى نوفمبر 2002 تلقيت اتصالا هاتفيّا على غرفتى فى الفندق من شخص يدّعى أنه محامٍ يريد مغادرة البلاد، فما كان منى إلا أن أخبرته بأننى لا أستطيع معاونته فى ذلك، وأننى وبليكس نقصر عملنا على المهمة الموكولة إلينا وهى التفتيش.
وفى زيارة أخرى اتصلت بى سيدة لتخبرنى بأنها مواطنة عراقية كردية، وأنها تعمل مع بعثة الأمم المتحدة فى العراق، وأن لديها مشكلة ما تخص عقدها، وقد أخبرتها بأننى لا أستطيع مقابلتها، ولكنها تستطيع أن تكتب طلبا وأتولى نقله إلى المسؤولين المعنيين؛ وهو ما لم تفعله بالرغم من ادعائها الاتصال من داخل الفندق، بل إنها لم تعاود الاتصال بى ثانية، وبالطبع فإن الأمر لا يتطلب ذكاء خارقا ليعرف المرء أن مثل هؤلاء ما كانوا ليتجاسروا على الاتصال بى هاتفيّا، خصوصا من بهو الفندق، إلا لو كانوا تابعين للحكومة العراقية؛ لأن أى مواطن عادى سيفترض أن هواتف الفندق مُراقبة.
وتطور الأمر لأكثر من ذلك عندما خاطبنى وزير الخارجية العراقى؛ ناجى صبرى، فى إحدى المرات على هامش أحد اللقاءات ليخبرنى أنه يستطيع مساعدتى أو أى من أقربائى للقيام بعمليات تجارية بالتعاون مع شركات البترول العراقية، وبالطبع فقد تجاهلت العرض!
وفى خلال أول شهرين من التفتيش حققت الوكالة تقدما كبيرا فى إعادة فهم قدرات العراق النووية. وكانت أغلب أعمالنا تتم فى المنشآت الصناعية الحكومية أو الخاصة، ومراكز البحوث والجامعات مع تفقد المنشآت القديمة وما يشتبه فى استحداثه من منشآت، كذلك قام مفتشو الوكالة بتمشيط البلاد طولا وعرضا بأساليب مختلفة، فتعقبوا «البصمة» البيئية للمواد المشعة، وقاموا برصد مجارى الأنهار والترع والبحيرات للكشف عن النظائر المشعة الأساسية. أجرينا كذلك مسوحات موسعة للإشعاع باستخدام أجهزة دقيقة محمولة يدويّا أو فى السيارات، كما فحصنا المواقع الصناعية وغيرها من المواقع بحثا عن المواد النووية وغيرها من المواد المشعة. استجوبنا عديدا من العلماء والفنيين، فى أماكن عملهم ودون إخطار مسبق، للحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن البرامج السابقة والحالية.
وبالتوازى مع ذلك كان المحللون فى مقر الوكالة فى فيينا يقومون بفحص المعلومات الجديدة التى قدمها العراق ومقارنتها بما كنا جمعناه فى الفترة من 1991 حتى 1998، وكذلك المعلومات التى جمعناها عن طريق الرصد عن بُعد خلال سنوات الغياب الأربع عن البلاد. وكانت البيانات المقدمة من العراق متماشية مع ما كنا نعلمه عن البرنامج النووى العراقى قبل 1991. ولكن كان هناك أمور تتطلب استكمال الاستيضاح، وهذا ما كانت الوكالة تسعى إليه.
وفى خلال الـ60 يوما الأولى تم تفقد 106 مواقع وإجراء 139 عملية تفتيش، ولم يتم العثور على ما يفيد بسعى العلماء العراقيين بأى صورة لاستئناف نشاط برامج الأسلحة النووية. ولكن فى الوقت نفسه كان هناك أمران يسيطران على النقاش النووى فى ذلك الوقت بغية التعجيل بالحرب: الأول هو استيراد العراق أنابيب من الألمنيوم شديد الصلابة يفترض أنها تستخدم فى تصنيع أجهزة تخصيب اليورانيوم، وهو ما قالت به رايس بصورة قاطعة فى مقابلة مع قناة «سى إن إن»، والأمر الثانى هو الادعاء باستيراد العراق كميات من اليورانيوم من النيجر.
وقد أشار كثير من المسؤولين الغربيين مرارا إلى أن أنابيب الألمنيوم دليل قاطع على عودة العراق إلى تطلعاته النووية. وأشاروا تأكيدا على ذلك إلى شحنة الأنابيب التى تم ضبطها فى الأردن فى يونيه 2001، والتى كانت متجهة إلى العراق. وقبيل عودة المفتشين إلى العراق ظهرت كوندوليزا رايس على شبكة «سى. إن. إن» لتقول إن هذه الأنابيب لا تصلح إلا لبرامج الأسلحة النووية، وكان تصريح رايس هذا مضللا؛ لأن خبراء وزارة الطاقة الأمريكية نفسها قد أعلنوا أن هذه الأنابيب تستخدم كذلك وبصورة أفضل فى صنع صواريخ دفاعية.
ولم يكشف عمل المفتشين الدؤوب عن أى محاولة من أى نوع من قِبل العراق لاستخدام هذه الأنابيب فى تصنيع أجهزة للطرد لتخصيب اليورانيوم، وهو ما أخبرت به مجلس الأمن فى 27 يناير 2003 لدى تقديم تقرير مبدئى حول مهمة التفتيش فى العراق، بل وأضفت: «إن هذه الأنابيب، تتفق مع الغرض الذى أوضحه العراق من استخدامها، وأنه ما لم يتم إدخال تعديلات عليها فإنها لا تصلح لتصنيع أجهزة الطرد الخاصة بتخصيب اليورانيوم».
كان رد الفعل الأمريكى أو بالأحرى انعدامه ملفتا للنظر. ففى اليوم التالى وفى خطاب حالة الاتحاد الذى يلقيه سنويا الرئيس الأمريكى، والذى حظى فى ذلك العام بأعلى درجات المشاهدة، عاد الرئيس بوش ليكرر مرة ثانية أن العراق يستورد أنابيب من الألمنيوم تصلح لتصنيع الأسلحة النووية، دونما أى إشارة إلى الرأى المخالف الذى أعربت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو إلى الرأى الذى كثيرا ما أعرب عنه خبراء وزارة الطاقة الأمريكية أنفسهم.
وبعد أسبوع من ذلك ألقى كولين باول خطابه الدرامى أمام جلسة مجلس الأمن فى 5 فبراير 2003، حيث توقع المتابعون لتلك الجلسة أن يقدم وزير الخارجية الأمريكى معلومات لا تقبل الدحض حول برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل، خصوصا أن باول بدأ حديثه بكل ما يتمتع به من قوة حضور وكاريزما، بالتأكيد أن كل ما يدلى به تم التيقن منه عبر عمل جاد ومحقق لخبراء أمريكيين. ولكن عندما تطرق الأمر إلى مسألة أنابيب الألمنيوم قال باول إن الأمر به «آراء مختلفة»، مشيرا فى الوقت نفسه إلى ما وصفه باتفاق معظم الخبراء الأمريكيين على أن هذه الأنابيب تم استيرادها لتصنيع أجهزة طرد تستخدم فى تخصيب اليورانيوم.
وفى لقاء لاحق أخبرنى باول بأنه أمضى أسبوعا فى مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يطرح أسئلة مفصلة للتحقق من صحة المعلومات بغرض الإعداد لمداخلته أمام مجلس الأمن فى ذلك اليوم، وأنه لو كان استخدم كل ما قدم له فى ذلك اليوم لاستمرت مداخلته أمام المجلس لساعات طويلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق