فى الغداء الخاص، الذى استضافه الأمين العام للأمم المتحدة عقب جلسة مجلس الأمن تحدث وزير الخارجية الفرنسى «دومنيك دوفليبان» وهو دبلوماسى من الطراز الرفيع وقارئ متميز للتاريخ إلى «باول»، بينما بدا أنه نبوءة تحققت فى ما بعد حيث أخبره بأن الأمريكيين لا يفهمون العراق «أرض هارون الرشيد التى يمكن للأمريكيين أن يهدموها فى شهر، لكن إعادة بنائها وإحلال السلام فيها هى مهمة ستتطلب سنوات طويلة». ولقد أثار تعليق الوزير الفرنسى حفيظة «باول» الذى أجاب: «ومن الذى يتحدث عن استخدام القوة؟!»، وكان ذلك تعليقًا غريبًا بالنظر إلى أن كل ما قاله فى الجلسة التى انتهت لتوها لمجلس الأمن كان يفضى فى هذا الاتجاه.
وبعد الحرب على العراق بعام أو نحو ذلك نشرت صحيفة «النيويورك تايمز» تحقيقًا صحفيًّا أفاد بأن «باول» وقبل يومين من خطابه، تلقى معلومات من المخابرات الأمريكية تفيد بأن الأنابيب المستوردة من قِبل العراق تتطابق مواصفاتها مع الأنابيب المستخدمة فى تصنيع الصواريخ من قِبل مصانع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لم يقله «باول»، الذى أصر على أن مواصفات هذه الأنابيب تتجاوز مواصفات الأنابيب التى تستخدمها المصانع الأمريكية لتصنيع الصواريخ.
أما فى ما يتعلق بالخمسمئة طن من اليورانيوم، التى تحدث «بوش» فى خطاب حالة الاتحاد عن تمكن بريطانيا من الحصول على معلومات تفيد بشراء صدام حسين لها فى نهاية التسعينيات وحتى 2001 من النيجر، فقد سعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية للحصول على الوثائق ذات الصلة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولم تتم الاستجابة إلى المطالب المتكررة للوكالة فى هذا الصدد إلا صبيحة الخامس من فبراير يوم انعقاد جلسة مجلس الأمن. ولم تكن تلك الوثائق سوى مجموعة من الخطابات المتبادلة بين مسؤولين عراقيين ونظراء لهم من النيجر، وبعد ساعات قليلة من العمل من قبل «جاك بوت» وفريقه اتضح أن هذه الوثائق مزيفة وليست حقيقية. ومن ذلك أن خطابًا يفترض أنه موجه من رئيس النيجر «مامادو تنديا» كان مليئًا بالأخطاء وممهورًا بتوقيع واضح التزوير. كما أن خطابًا آخر كان يفترض أنه موجه من وزير خارجية النيجر فى أكتوبر 2000 حمل توقيع «اليلى حبيبو»، الذى كان قد ترك منصبه كوزير لخارجية النيجر منذ 1989.
وفى الحقيقة فإن فكرة الصفقة نفسها كانت عبثية لأن النيجر بوصفها واحدة من أكبر منتجى اليورانيوم فى العالم، كانت تبيع اليورانيوم إلى اليابان وفرنسا وإسبانيا، حيث تعتمد المفاعلات النووية لهذه البلدان بدرجة كبيرة، على ما تستورده من النيجر وهو ما كانت تخضع معه النيجر لمراقبة دقيقة لعمليات تصدير اليورانيوم سواء على المستوى المحلى أم على المستوى الدولى. وبالتالى فإن مجرد الحديث عن قيام النيجر بتصدير كميات من اليورانيوم الطبيعى (الكعكة الصفراء) بما يكفى لتصنيع مئة قنبلة نووية دون أن يدرى أحد بذلك كان محض عبث.
ولعل الأغرب من ذلك هو أن هذه الأمور لم تفطن لها المخابرات البريطانية أو الأمريكية، بينما اكتشفها أحد علماء الوكالة باستخدام محرك البحث «جوجل» والمنطق. وبمواجهة المسؤولين فى هذه الأجهزة من قبل «جاك بوت»، لم يقم أى واحد منهم بمعارضة ما خلص إليه خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفى الطائرة إلى نيويورك تشاورت مع «جاك بوت» و«لورا روكوود»، مساعدتى للشؤون القانونية، حول كيفية نقل ما خلصت إليه الوكالة إلى مجلس الأمن دون أن يكون فى ذلك إحراج قاسٍ لواشنطن ولندن. وفى النهاية توصلت إلى قرار بالقول إن الخطابات التى تم الاعتماد عليها لادعاء أن هناك صفقة يورانيوم بين النيجر والعراق «ليست حقيقية»، وكانت رسالتى واضحة: أن هذه الصفقة المزعومة والتى كانت أحد الأسباب الرئيسية لادعاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن العراق قد أعاد مرة أخرى بناء برنامجه للتسلح النووى كانت افتراءً مبنيًّا على عملية تزوير.
وبالفعل أبلغت مجلس الأمن بذلك، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى المعلومات حول ملف أنابيب الألمنيوم، وهو ما أثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدرجة التى دفعت «باول»، وهو المعروف عنه احتفاظه دائمًا بالهدوء وحسن المعشر، إلى الرد على ما ذكرته قائلًا بنوع من الضيق فى صوته: «إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت غائبة بينما كان العراق فى سنة 1991 يقوم بتطوير أسلحة نووية».
وكان رد فعل وسائل الإعلام مؤسفًا حيث تجاهلت الصحف الأمريكية الرئيسية، بما فى ذلك «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أهمية المعلومات المتعلقة بالخطابات المزورة التى بنى على أساسها القول بسعى العراق لشراء يورانيوم عالى التخصيب من النيجر، بل وإن هذه الصحف وصفت أمر هذه الصفقة بأنه غير أساسى بين دلائل تورط صدام حسين فى السعى لامتلاك أسلحة نووية، واتهمتنى «وول ستريت جورنال» «بإثارة ضجة غير مبررة حول أمر عديم الأهمية» فى ما يتعلق بدلائل سعى صدام حسين لتطوير أسلحة نووية. ولم تُعن أى من الصحيفتين بالإشارة إلى أنه قبل ذلك بشهرين كانت صفقة بيع النيجر لليورانيوم من الأهمية بالنسبة إلى رئيس الولايات المتحدة إلى حد إبرازها فى خطابه عن حالة الاتحاد. وقامت «النيويورك تايمز» بتغطية الموضوع على نحو مماثل. رغم أنها أوضحت التزوير بشكل أكثر تفصيلًا فى عددها التالى، لكنها نشرته فى صفحاتها الداخلية.
ولاقت الجهود الدبلوماسية أيضًا مصيرًا مشؤومًا كذلك. فعلى الجانب العربى فإن التحركات لم تكن أكثر إيجابية، حيث عُقدت قمة عربية قبيل الحرب على العراق فى شرم الشيخ فى 2 مارس 2003، لكنها تمخضت عن خلافات رخيصة وتلاسن بالأسماء، على الرغم من أن هذه القمة كان أمامها عدد من المقترحات الجادة للخروج من المأزق الخاص بالعراق، كإرسال وفد إلى العراق لإيجاد حل لتفادى الحرب. البعض كان يريد حث صدام حسين على الاستقالة. واقترح الشيخ زايد آل نهيان تقديم ملاذ آمن لصدام حسين لمساعدته فى الحصول على مخرج كريم، إلا أن هذا الطرح وغيره تم تجاهله. ولم يكن هذا غريبًا بالنظر إلى أن عددًا من القادة العرب كانوا يبغضون صدام حسين ويودون لو أن عملية غزو تقع لتخلصهم منه. ولم يتم وضع مقترح الشيخ زايد على جدول أعمال القمة. وفى النهاية تم إغفال أى فكرة حول إرسال وفد للعراق، ووقعت الحرب بتسهيلات عربية من عواصم كانت تمقت صدام حسين. بمثل هذه المشاعر، وبغير موقف موحد، لم يكن للقادة العرب أى دور أو تأثير فى حرب تشن فى قلب منطقتهم، اللهم إلا تقديم القواعد والتسهيلات فى بعض الحالات للقوات الأمريكية.
وفى بداية عمليات التفتيش التقيت الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى كان باديًا أنه يبغض صدام حسين بصورة شخصية، حيث أخبرنى أن الرئيس العراقى خدعه أثناء حرب الخليج الأولى بعد أن قام بغزو الكويت على الرغم من التعهد الذى أبداه للرئيس المصرى بعدم القيام بذلك. وفى ذلك اللقاء أخبرت الرئيس المصرى عن نشاطات التفتيش الذى كنا نقوم به فى العراق، ثم وجهت دفة الحديث إلى جهة أخرى، حيث حثثته على أن يقود حملة للتحديث والاعتدال فى العالم العربى من خلال البدء بمصر، وقلت له: «لو أن مصر قامت بهذا فإنها ستلقى دعمًا كبيرًا سواء كان سياسيًا أم اقتصاديًا من كل جهة فى العالم».
وفى حديث لاحق طلبت من مبارك مرة أخرى أن يحث صدام حسين على بذل المزيد من التعاون مع فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة لتجنب احتمال حرب ضد العراق، وقد رد مبارك متهكمًا أنه تلقى رسالة من صدام حسين فى هذا الصدد يخبره فيها أنه ليست هناك مدعاة للقلق، وأن كل شىء سيكون على ما يرام، وكان واضحًا من لهجة مبارك أنه لا يصدق أى شىء يقوله له صدام بعد أن خدعه قبل غزو الكويت. وفى ذات الحديث أخبرنى مبارك أنه على علم أن «صدام حسين لديه أسلحة بيولوجية، وأنه يقوم بإخفائها فى المقابر». وكانت تلك أول وآخر مرة أسمع فيها هذه الشائعة.
لكن ينبغى القول أيضًا إن بعضًا من أهم وأقدر الساسة فى العالم مثل الرئيس الفرنسى «جاك شيراك» لم يتمكن من إثناء الرئيس الأمريكى «بوش» عن التعامل مع القضايا الدولية من منطلق عقيدة أن «مَن ليس معى فهو ضدى» التى كان الرئيس الأمريكى يعتنقها.
وفى أحد اللقاءات التى جرت بين «شيراك» و«بليكس» وبينى فى قصر الإليزيه الرئاسى بباريس أخبرناه بأننا لا نحصل على معلومات كافية من أجهزة المخابرات الغربية حول برامج أسلحة الدمار الشامل فى العراق، فما كان من «شيراك» إلا أن قال بكل صراحة: «هل تعلمون لماذا لا تحصلون على المعلومات منهم؟ السبب هو أنه ليس لديهم أية معلومات فى الأصل».
ولم يتردد «شيراك» أن يضيف فى ذات الجلسة، التى عقدت بحضور رئيس جهاز المخابرات الفرنسى الذى سبق أن أفضى إلى «بليكس» بأن جهازه لديه معلومات تفيد باحتفاظ العراق بكميات صغيرة من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية أن أجهزة المخابرات كثيرًا ما تصل إلى قرارات دون وجود أدلة كافية ثم تسعى بعد ذلك للحصول على الأدلة. كان رئيس جهاز المخابرات الفرنسى فى أثناء ذلك ينظر إلى الأرض.
وأضاف «شيراك» أن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تهديد مجلس الأمن لاستصدار قرار بالحرب على العراق وأن لا تفقد الأمم المتحدة دورها وأهميتها هو أمر عبثى لأنه لو قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب على العراق دون تفويض من الأمم المتحدة فإنها هى وليست الأمم التى سينظر إليها كدولة خارجة على القانون.
وكان أمرا يدعو إلى السعادة أن أسمع «شيراك» يتحدث بمثل هذه الصراحة وبنفس تفكيرنا فى الوكالة. ومع الأسف فإن الموقف الفرنسى إزاء مسألة الحرب على العراق كان محل تهميش بل وازدراء فى أمريكا.
وبعد هذه المقابلة بفترة وجيزة، وفى مطلع فبراير، توجهت مع «بليكس» إلى لندن للقاء «تونى بلير» فى المكتب المتواضع لرئيس الوزراء البريطانى، وفى سابقة غير معتادة بالنسبة إلى بليكس ولى قرر «بلير» أن يعقد لقاءاته معنا كل على حدة.
وبعد لقائه مع «بليكس» خرج «بلير» من مكتبه وقد تخلى عن سترة بذلته، ثم دعانى للدخول ممازحًا بقوله: «الزائر التالى»، فى استدعاء لمشهد يقع فى عيادات أطباء الأسنان.
وفى خلال اللقاء أكدت على «بلير» أن شن حرب على العراق سيخلق توترًا شديدًا فى المنطقة بأكملها، وأن الرؤية فى المنطقة أن التركيز على العراق ليس بسبب أسلحة الدمار الشامل، وإنما بسبب كونها دولة عربية مسلمة، وبالتالى لا تستطيع مثل إسرائيل تملّك هذه الأسلحة، وأضفت شيئًا مما كان «شيراك» قد قاله وهو أن تلك الرغبة العارمة فى شن حرب على العراق ستتم مقارنته فى المنطقة بعدم وجود أى حراك سياسى إزاء تسوية النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، كما أشرت إلى النقد الذى أسمعه فى كثير من أنحاء العالم عن الفارق فى التعامل مع ملف العراق وملف كوريا الشمالية. وأبدى «بلير» تفهمًا لما قلت خاصة ما يتعلق بالشأن الفلسطينى، وأكد لى أن «بوش» وعده أنه سيتحرك نحو تسوية هذا الأمر فور الانتهاء من «تسوية أمر العراق».
وفى لقاء مع «جاك سترو» وزير الخارجية البريطانى شرح لى منطق لندن والقائم على أن بريطانيا تقدم كل الدعم العلنى للولايات المتحدة الأمريكية بغية أن يكون لها القدرة على ممارسة التأثير على القرار الأمريكى فى الإطار غير المعلن. والحقيقة أننى لم أجد أى أثر لتأثير بريطانيا على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكم «بلير»، واقتصر الأمر حسبما رأيته على أن بريطانيا تقوم بالترويج للسياسات الأمريكية وتفسيرها وأحيانًا إبداء الاعتذار عنها.
وبينما لم يكن لدى أمريكا ولا بريطانيا ما يفيد بوجود سلاح نووى عراقى غير الادعاءات الخاصة بأنابيب الألمنيوم وفشل قصة شراء اليورانيوم من النيجر كان هناك إصرار من جانب عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين على أن العراق لديه فى مكان ما كميات من الأسلحة البيولوجية والكيميائية. فى الوقت نفسه كان البعض فى واشنطن يتقدم باقتراحات، لم أكن أتصورها جادة، حول سبل حصول مفتشى الوكالة الدولية على معلومات عن البرنامج النووى العراقى، ومن ذلك ما اقترحه «جون وولف» مساعد وزير الخارجية الأمريكى من التحفظ على كل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالعلماء العراقيين واستخراج أى معلومات قد تكون مخزنة عليها حول البرنامج النووى العراقى، أو ما اقترحه «توم لانتوس»، السياسى الديمقراطى البارز فى مجلس النواب الأمريكى، من أن نصحب العلماء العراقيين فى رحلة بحرية لمدة أسبوعين نحصل من خلالها على معلومات قيمة حول برنامج العراق النووى.
وفى كل مرة ازددت اقتناعا بصواب وجهة نظر «شيراك» بأن أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية لم يكن لديها معلومات دقيقة يمكن أن تثبت أن العراق لديه أسلحة دمار شامل حسب الاقتناع البريطانى والأمريكى. وفى واقع الأمر فإن المعلومات المقدمة من الولايات المتحدة وغيرها من أجهزة المخابرات إلى الوكالة الدولية والأنموفيك خلال تلك الفترة كانت قليلة جدًّا بالمقارنة بسيل المعلومات المقدم إلى الوكالة وإلى «الأنسكوم» فى التسعينيات.
وفى ضوء غياب المعلومات، فإن الآمال الأمريكية انعقدت على ما يمكن أن يدلى به العلماء العراقيون فى حال خروجهم عن رقابة الحكومة العراقية، وعلى هذا كان الإصرار الأمريكى على استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، ولكن العلماء العراقيين بالطبع لم يفعلوا ذلك، بل أصروا على أن يكون استجوابهم فى العراق وبحضور مسؤول عراقى وبتسجيل يدون كل ما يقولون ليتفادوا أى سوء فهم لما يقوله أحدهم. لم يكن بوسعنا أن نجبرهم على مغادرة البلاد، ولم نكن حتى نرغب فى استجوابهم فى الخارج، على الرغم من السلطة المخولة لنا بمقتضى قرار مجلس الأمن «1444»، لما قد يكون لذلك من آثار عليهم وعلى أُسرهم من قِبل النظام.
وبالنسبة لنا كنا نثق فى قدرات وعمل مفتشينا على الأرض، وأن تلك القدرات فى ذاتها كافية للإفصاح عن حقيقة أسلحة الدمار الشامل العراقية إذا ما أتيحت لها المهلة الزمنية الكافية. كان مفتشو الوكالة يعرفون جيدًا قدرات العراق العلمية والتكنولوجية وتضاريسها المختلفة. وحتى بعد غياب السنوات الأربع لم يستغرق الأمر كثيرًا من الوقت ليسترجع مفتشو الوكالة معرفتهم بقدرات العراق النووية.
ومع ذلك تم تجاهل هذه القدرة ذات المصداقية. فقد قررت «القوى المؤتلفة»، التى أعلنت نفسها كذلك، أن تتجاهل خبراتنا. ورغم علم مفتشينا بالواقع على الأرض فإننا كنا نخسر المعركة الإعلامية فى الصحافة الغربية وإلى حد ما فى نظر الجمهور. فقد كانت البيانات الصادرة عن الوكالة وعن «أنموفيك» يتم تجاهلها، أو يشار إليها بصورة انتقائية، رغم أننا كنا أكثر من يعرف الحقيقة باعتبارنا عيون وآذان المجتمع الدولى.
وكانت الحرب تبدو حتمية بصرف النظر عن الحقائق، وكانت قوافل الجنود تتوافد على الخليج، وكان الوقت ينفد.
وفى 12 مارس تقدم «تونى بلير» و«جاك سترو» بمسودة قرار إلى مجلس الأمن فى محاولة يبدو أنها تهدف إلى منع الحرب. وقد تطلب المشروع أن يقوم صدام حسين بتسليم ما يعتقد الأمريكيون والبريطانيون أنه فى حوزته من المواد المستخدمة فى تطوير الأسلحة النووية والبيولوجية والكيمائية، وكذلك الصواريخ المحظورة، حتى يتفادى الحرب ويتمكن من البقاء فى منصبه رئيسًا للعراق، إضافة إلى السماح للعلماء العراقيين بالخضوع لاستجواب خارج العراق.
وقد منحت مسودة القرار العراق خمسة أيام للإذعان لمطالب ستة صاغتها أمريكا وبريطانيا، شملت، إضافة إلى ما سبق، اعترافًا علنيًّا من صدام حسين على الهواء بأنه يمتلك أسلحة للدمار الشامل، وأنه يلتزم بالتخلص من هذه الأسلحة.
ولم يتم تبنى هذا القرار من قِبل مجلس الأمن، وحتى لو تم ذلك فسيكون من المستحيل على صدام حسين الالتزام بما جاء فيه لأنه لم يكن بوسعه الاعتراف بملكية أسلحة دمار شامل لم تكن فى حوزته، كما لم يكن فى وسعه أن يسلم موادّ لم تكن فى حوزته لتصنيع أسلحة دمار شامل، بما فى ذلك الآنثراكس الذى كانت بريطانيا تعتقد أنه موجود لديه.
ويتعارض بشدة ما جاء فى هذا المشرع من إمكانية بقاء صدام حسين فى السلطة مع ما قال به تونى بلير فيما بعد من أن الإطاحة بنظام صدام حسين كان سببًا كافيًا لشن الحرب على العراق.
ومع حلول عطلة نهاية الأسبوع من 14 – 16 مارس كان البريطانيون يسعون حثيثًا لإيجاد مخرج دبلوماسى، ويتمثل فى جملة من الأنشطة التى يكون قيام صدام حسين بها دليلًا أو «موقفًا فارقًا» على أن العراق عازم على التعاون، واقترحت بدورى أن نقوم، «بليكس» وأنا، بزيارة لبغداد للحديث مع المسؤولين العراقيين حول هذا الأمر، وهو ما رحب به البريطانيون بشدة. وفى الوقت ذاته طالبت السعدى، بأن يتم ترتيب لزيارة تجمعنى أنا و«بليكس» مع صدام حسين، وبالفعل جاء خطاب الدعوة فى يوم السبت الخامس عشر من مارس، وعندما أُجريت اتصالات بالمسؤولين الفرنسيين والبريطانيين للحصول على تأييد لهذه الزيارة كقناة دبلوماسية للتعامل مع الأمر، قال البريطانيون إنه من الأفضل أن يأخذ الفرنسيون المبادرة فى هذا الأمر.
ولكن فرنسا وألمانيا لم تكونا متحمستين، بل كان لديهما الانطباع بأن قرار الحرب قد اتخذ بالفعل فى واشنطن، وبالتالى فقد كانتا تظنان أن فشل المهمة الدبلوماسية المطلوب منهما دعمها سيساعد فى توفير الأعذار لعمل عسكرى سيقع حتمًا. وكذلك ذكر لى «بليكس» أنه غير راغب فى القيام بهذه المهمة لأنه كان يشعر أنه قد فات أوانها.
كنا «بليكس» وأنا فريقًا جيدًا، وكنا نعمل بصورة طيبة معًا، وعلى الرغم من خلافاتنا التى كانت حادة فى بعض الأحيان، فإنها لم تكن تطفو على السطح.
ومن أكثر النقاط التى اختلفت مع «بليكس» حولها عدم توافقه مع رغبتى فى طلب مدة إضافية لمزيد من التفتيش للتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، ولعل السبب فى ذلك هو التباين بين مستوى المفتشين عن الأسلحة النووية الذين كنت أعمل معهم، والذين كانت لديهم قدرات عالية وأيضًا خبرة جيدة بملف العراق، وبين المفتشين عن الأسلحة الكيمائية والبيولوجية الذين كان «بليكس» يرأسهم فى «الأنموفيك» والذين كانوا يتمتعون بكفاءة فنية عالية، ولكن لم تكن لديهم الخبرات المتراكمة التى يتمتع بها مفتشو الوكالة، بل إن كبير معاونى «بليكس» الفنيين كان «ديمتريوس بريكوس»، الذى عمل طويلًا فى الوكالة وكان يتمتع بثقة «بليكس»، ولكن مجال تخصصه وخبرته الطويلة كان الأسلحة النووية لا الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية. أما مفتشو الوكالة، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى بلد يعرفونه وأشخاص يألفونهم، فإنهم كانوا أكثر ثقة بأنفسهم وبتقديراتهم.
كما كان لدى «بليكس» الكثير من الهواجس إزاء التعامل مع العراق جراء تجربته معهم فى التسعينيات وخداعهم له عندما كان يرأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالى فعندما طلب العراقيون عقد جلسات عمل فنية مع «الأنموفيك» والوكالة قبيل استئناف التفتيش فى 2002 رفض «بليكس» ذلك بشدة على أساس أنه كان يعتقد أن هذه الجلسات وراءها أسباب مراوغة فى ما يتعلق بالقضايا والملفات التى ستكون محل عمل فرق التفتيش، وأصر أنه لا نقاش قبل أن يصل مفتشوه فعليًّا إلى العراق.
وبينما امتنع «بليكس» عن عقد تلك اللقاءات عقدت الوكالة لقاءاتها مع العراقيين، وكانت هذه الجلسات مفيدة للغاية فى تيسير العمل فى ما بعد. ولكن «بليكس» لم يستمع إلى ما قلته من أنه يمكن أن يذهب إلى هذه اللقاءات ويقيم فائدتها دون أن يخشى أى مراوغة من الجانب العراقى، لأنه فى النهاية القرار هو قراره كرئيس للأنموفيك.
وقد اتهمنى بليكس إحدى المرات بمحاباة الجانب العراقى، وذلك خلال لقاء جمعنى وإياه و«كوفى أنان» الأمين العام للأمم المتحدة فى أحد فنادق فيينا قبيل البدء فى عمليات التفتيش، عندما كررت وجهة نظرى بفائدة عقد لقاءات فنية مع العراقيين حتى قبل بدء التفتيش. وقد استوجب اتهام بليكس لى تدخل «أنان» الذى قال لـ«بليكس» إن اتهاماته لى هى اتهامات «غير عادلة»، وقال له: «لماذا نعقد إذن هذه الاجتماعات مع العراقيين إذا لم تكن تريد أن تناقش معهم ما تبقى من قضايا نزع السلاح؟»، ولكن «بليكس» بقى على رفضه.
والحقيقة أن مهمة «بليكس» و«الأنموفيك» لم تكن سهلة لأن العراقيين، وعكس ما كانت تدعيه بعض أجهزة المخابرات، لم يحتفظوا بالسجلات الخاصة بما تم تدميره من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية فى التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى.
وقد تعرض «بليكس» لانتقادات شديدة من العراق جراء ما قاله فى أحد تقاريره لمجلس الأمن من أن العراق «لم يتخذ حتى الآن قرارًا استراتيجيًّا حول نزع التسلح»، وهو الأمر الذى أساءت استغلاله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتدفع فى اتجاه الحرب. ولم أكن قد رأيت مسودة هذا التقرير لأننا فى هذه المرة لم نلتزم بما اعتدنا عليه من تبادل مسودات التقارير التى نعرضها على مجلس الأمن. وأعتقد أننى كنت أفهم سبب عبارة «بليكس»، ذلك أن إحدى المكاتبات العراقية وصفت عمليات التفتيش بأنها «ما يسمى بقضايا نزع السلاح». ولقد قرأ «بليكس» هذه العبارة على أنها دليل على العجرفة وعدم الجدية من قِبل العراق، ولم يلتفت أحد إلى ما قاله «بليكس» فى نفس التقرير من أنه ليس لديه دليل على أن العراق لا يزال يمتلك أسلحة الدمار الشامل، ومن سخرية القدر أنه ثبت بعد ذلك أنه لم تكن هناك حينئذ قضايا نزع سلاح فى العراق.
ولقد برر «بليكس» رفضه للمشاركة فى طلبى من مجلس الأمن إعطائى مزيدًا من الوقت بأن هذا الطلب يمكن أن يفسر على أنه التزام بالتوصل إلى نتائج محددة فى توقيت محدد، وهو الأمر الذى لم يكن واثقًا من إمكان قيام «الأنموفيك» بتحقيقه، ولكنه قال لى إنه لو سُئل إذا ما كان يحتاج إلى المزيد من الوقت فإنه سيجيب بنعم.
وفى السادس عشر من مارس، قبل أربعة أيام من وقوع الحرب، استضاف رئيس الوزراء البرتغالى «خوزيه مانويل باروسو»، الرئيس الأمريكى «بوش» ورئيس الوزراء البريطانى «بلير» ونظيره الإسبانى «خوزيه ماريا آزنار» فى لقاء جمعهم فى جزر الآزوروس. وبحسب ما علمت عن هذا الاجتماع فإنه شهد مطالبة بريطانيا وإسبانيا إتاحة المزيد من الوقت للعمل الدبلوماسى، ولكن بوش لم يكن يود أن ينتظر وأصر على أن أسلوب التعامل والذى سيتقرر بمقتضاه مصير العراق لا بد أن يتحدد فى اليوم ذاته.
وفى اليوم ذاته، كان «تشينى» قد اتهمنى على الهواء فى برنامج «واجه الصحافة» بأننى «مخطئ» فى تقديرى أن العراق لم يُعِدْ بناء برامج التسلح النووى، مضيفًا أن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن صدام حسين لديه برنامج للتسلح النووى. وأضاف نائب الرئيس الأمريكى فى نفس البرنامج الادعاء بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها تاريخ من الإخفاق فى تقدير القدرات النووية، خصوصا ما يتعلق بالعراق. وعندئذ تذكرت تحذير تشينى لبليكس ولى قبل بدء عمليات التفتيش بأن واشنطن قد تلجأ إلى النيل من مصداقية عمليات التفتيش.
ولم يكن بوسعى فى ذلك الوقت، كما أنه ليس بوسعى الآن، أن أتصور طبيعة المعلومات التى كانت متاحة لدى «تشينى» عن التسلح العراقى، ولكن «تشينى» كان يعلم على وجه اليقين الأسباب التى تقتضى إضفاء المزيد من المصداقية على نتائج عمل الوكالة بشأن العراق فى 2003 بالمقارنة بما كانت قد توصلت إليه فى 1991. كان يعلم، كما كان الجميع يعلمون، أنه فى التسعينيات لم يسمح لنا بالتفتيش إلا على ما أبلغتنا به حكومة صدام حسين. ولم يكن لدينا صلاحية السفر إلى أى مكان آخر داخل العراق أو البحث عن منشآت سرية أو تتبع أى معاملات غير قانونية فى المواد النووية. ومن المؤكد أنه كان يدرك تمامًا أن الزمن قد دار دورته. فمنذ ذلك الحين كانت الوكالة قد تنقلت فى البلاد طولًا وعرضًا، وتوفر لها من الصلاحيات ما يسمح لها بالذهاب إلى أى مكان فى أى وقت وباستجواب كل العلماء النوويين فيها. لقد أتلفنا المعدات وصادرنا السجلات، ووضعنا أختام الوكالة على ما تبقى من المواد النووية، وهدمنا منشآت إنتاج السلاح النووى فى منطقة الأثير. لذا فإن مقارنة نتائج 2003 بنتائج 1991 كان تشويهًا متعمدًا للحقائق، ولكن الأمر كان فى ما يبدو قد تقرر فى اتجاه غزو العراق.
وفى الواحدة من صباح السابع عشر من مارس بتوقيت فيينا تلقيت اتصالًا من «كين بريل» سفير واشنطن لدى الوكالة، يخبرنى بأن حكومته تنصح بسحب المفتشين من بغداد، وأنها رأت أن تخبرنا مبكرًا بذلك حتى نتمكن من حمايتهم. وعلى الفور اتصلت بـ«بليكس» الذى كان قد تلقى مكالمة مماثلة. واتصلت أيضًا بـ«كوفى أنان» الذى كان قد حاول كثيرًا أن يجعل المنطق الدبلوماسى يسود وأن يحول دون استخدام بعض الدول لمجلس الأمن بأى صورة لتحقيق أغراضها الخاصة، وهو ما دفعه قبل ذلك بشهر ليعلن أن القرار فى ما يخص العراق «ليس قرار أية دولة بعينها ولكنه قرار المجتمع الدولى بأكمله». كما قال إنه عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة من أجل ما يفترض أنه حماية للأمن والسلم الدوليين فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك بصورة قانونية هى أن يتم عبر مجلس الأمن.
وكان «أنان» قد تعرض لنقد شديد فى 1998، حيث وصفه البعض حينئذ بأنه ساذج، عندما قال بعد إقناع صدام حسين فتح عدد من القصور الرئاسية أمام المفتشين إنه عندما يسأل إذا كان يمكنه الوثوق فى صدام حسين فإن إجابته هى: «أظن أننى أستطيع أن أصل إلى اتفاقات محددة من خلال التفاهم معه، وأنا لا أشعر بنفس التشاؤم الذى يشعر به البعض فى هذا الشأن».
كنت أتمنى أن يتكلم «أنان» بأسلوب أكثر قوة وصراحة فى موضوع العراق فى ذلك الوقت، لا سيما بعد الاتهامات التى وجهها «بوش» فى نوفمبر بأن الأمم المتحدة ليس لديها العزيمة اللازمة، وأنها ستصبح غير ذات جدوى.
كان لدىّ تقدير كبير لما يقوم به «أنان» من محاولة تفعيل دور الأمم المتحدة، لمعالجة الكثير من القضايا الهامة مثل الفقر والأمراض الوبائية وغيرها، ومحاولة دفع المجتمع المدنى للمشاركة فى التصدى لهذه التحديات، وعلى الرغم من أنه لم تكن لـ«أنان» صلاحيات مباشرة بشأن عمليات التفتيش إلا أنه كان سيعبر عن رأى الغالبية العظمى من الناس لو كان صوته أعلى فى الدفاع عن المبادئ التى يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة، غير أنه كان منشغلًا فى ذلك الوقت بمسألة توحيد قبرص