المصدر / جريدة التحرير 29 سبتمبر 2012
شهدت السنوات من 2003 وحتى خريف 2005 الكثير من الشد والجذب غير المعلن بين إيران والمجتمع الدولى. فمن جهة، كانت هناك لحظات تفاؤل نتجت عن صدور إعلان طهران، وتعهد إيران بالتزام الشفافية إزاء برنامجها النووى، ومن جهة أخرى ظهرت خلافات دولية حادة حول كيفية التعامل مع ملف إيران النووى. والواقع أن هذه الفترة شهدت كل المظاهر التى اتصف بها هذا الصراع المعقّد: التضحية بالحلول العملية فى سبيل مبادئ شديدة الغموض، والآثار السلبية لسياسات متشددة فى غير محلها، وتصعيد المواقف تمامًا كلما ظهرت دلائل معارضة جديدة.
أصبحت الوكالة -وبوجه خاص اجتماعات مجلس المحافظين- ساحة للصراع بين المواقف المتعارضة بشأن إيران. وكان من بين القضايا التى ثار حولها الخلاف فى المجلس فى مارس عام 2004 نوع أجهزة الطرد المركزى التى تستخدمها إيران فى تخصيب اليورانيوم، وما إذا كانت قاصرة على نموذج أولى من طراز «1-P» زودتها به باكستان أو إذا ما كان هذا النموذج قد تم تطويره إلى أكثر من ذلك وثبت بعد التحقيق والتفتيش خارج إيران أنها ربما سعت إلى إنتاج نموذج أكثر تطورًا من طراز «2-P»، وكان كلا الطرازين منقولين عن طراز أوروبى تمكّن من نقله العالم النووى الباكستانى عبد القدير خان فى أثناء عمله فى منشأة للتخصيب فى هولندا.
حتى هذه اللحظة لم يكن لدى مفتشى الوكالة علم بالعمل الذى يجرى بشأن الأجهزة من طراز «P-2». لكننا كنا نعرف أن الإيرانيين كانوا يحاولون البحث والتطوير لمختلف جوانب دورة الوقود النووى. كان هذا الطراز أكثر تقدمًا من سابقه وأكثر قدرة على التخصيب. وكان من غير المرجح أن يتخلى الإيرانيون عن العمل على إنتاج هذا الطراز إذا أُتيحت لهم الفرصة لذلك.
وأكد مفتشو الوكالة هذه النقطة. وفى يناير 2004 أقر الإيرانيون بأنهم كانوا قد تلقوا فى أواخر 1994 رسومات لأجهزة طرد من طراز «P-2». وقام مهندسو إحدى الشركات الخاصة فى طهران بإجراء اختبارات محدودة، بناءً على تكليف من منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، على تصميم معدل لأجهزة «P-2». ولم تكن إيران قد أشارت إلى ذلك فى إخطارها للوكالة فى أكتوبر 2003.
وكان هناك موضوع آخر يتعلق بمركز «لافيزان شيان» للبحوث الفنية الواقع فى إحدى ضواحى طهران. وكان قد ذكر احتمالا بأن يكون هذا المركز منشأة للبحوث حول أسلحة الدمار الشامل. وكانت الوكالة قد تلقت معلومات عن أن المركز اشترى أجهزة للكشف عن الإشعاعات. وأظهرت صور السواتل التى أخذت بعد أغسطس 2003 أن هذا المركز قد أزيل وأن أبنيته هُدمت ورفعت أنقاضه، مما يوحى بأن هناك محاولة للإخفاء.
وذكر الإيرانيون أن هذا المركز كان تابعًا لوزارة الدفاع، وكان يقوم بالبحوث لتطوير وسائل صد الهجمات والحوادث النووية، وأنه أزيل بعد أن صدرت التعليمات للوزارة بإعادة الأرض المقام عليها المركز إلى بلدية طهران بعد نزاع بين هاتين الجهتين الحكوميتين. وبالنظر إلى ماضى إيران فى الإخفاء والخداع فإن مسائل مثل اختبار أجهزة «P-2»، وهدم موقع يقال إنه خاص بأسلحة الدمار الشامل، أثارت الشبهات بطبيعة الحال.
لقد كان الموقف معقدًا بالفعل، لأنه بالرغم من هذه الإشكاليات كانت إيران قد قدمت بالفعل بعض الخطوات الإيجابية فى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ أكتوبر 2003، حيث تمكن مفتشو الوكالة بمقتضى موافقة إيران على تطبيق البروتوكول الإضافى بصفة مؤقتة إلى حين دخوله حيز النفاذ من زيارة مواقع التخصيب وغيرها من المنشآت دون اختلاف حول ما إذا كانت هناك مواد نووية استخدمت فيها أم لا، بما جعل الوكالة تشعر بأنها أخيرا بدأت تكوِّن صورة أوضح عن طبيعة النشاطات النووية لإيران.
لكن فى الوقت نفسه فإن التعاون الإيرانى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن دائمًا ومتواصلا ولم يكن ذلك بالتأكيد فى مصلحة إيران. ومن أمثلة ذلك القرار المفاجئ للسلطات الإيرانية بوقف زيارة كانت مقررة لمفتشى الوكالة فى مارس لـ«ناتانز» وبعض المواقع الأخرى، وذلك قبل أيام فقط من توجه المفتشين إلى إيران بدعوى أن موعد الزيارة يوافق بدء العام الإيرانى الجديد، وهو العذر الذى لم يكن لأحد أن يأخذه على محمل الجد، لأن موعد العام الإيرانى الجديد كان معروفًا لطهران لدى تحديدها موعد زيارة المفتشين، ولم تكن طهران تريد الإفصاح عن السبب وراء قرارها إلغاء زيارة المفتشين وأعطى الإيرانيون، مرة أخرى، انطباعًا بأنهم يريدون إخفاء شىء ما.
ثم قام حسن روحانى بزيارتى مرتين لمطالبة الوكالة برفع ملف إيران من أجندة اجتماعات مجلس المحافظين المقررة فى مارس، باعتبار أن ذلك سيعطى إشارة بأن قلقنا تجاه إيران قد تناقص. ولكن الأمر لم يكن محل توافق، ففى حين دعم الأوروبيون المطلب الإيرانى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التى كانت تسعى لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن، أصرت على أن يبقى الملف على أجندة اجتماعات شهر مارس.
ومن جانبى فقد أكدتُ للجميع أن جدول أعمال مجلس محافظى الوكالة لن يكون أداة لخدمة أى أغراض سياسية، وأخبرتُ الإيرانيين والأوروبيين أننى على استعداد لرفع الملف الإيرانى من على أجندة أعمال مجلس المحافظين لاجتماع شهر مارس فورًا فى حال ما حصلت الوكالة على إجابات للأسئلة التى تطرحها على إيران، أما فى حال عدم حدوث ذلك، فإن الملف سيبقى على جدول الأعمال دون تغيير.
على أية حال فإن الصك الرسمى الذى تُحدد الدول الأعضاء مواقفها بناء عليه ليس هو جدول الأعمال، ولكن القرارات التى يعتمدها المجلس فى اجتماعاته. ومن المتعارف عليه أن القرارات تصاغ ويتم التفاوض عليها بواسطة ممثلى الدول الأعضاء دون تدخل من أمانة الوكالة. وفى حالة إيران، كانت مشروعات القرارات تأتى عادة من الدول الأوروبية الثلاث صاحبة المبادرة، لمحاولة إيجاد حل للمسألة، ثم توزع بعد ذلك على باقى الدول.
لكن الأمر كان بالغ التعقيد، فلأول مرة تنقسم الدول الغربية هكذا حول ما ينبغى فعله، فلقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، مدعومة من كندا وأستراليا تريد أن يُصاغ مشروع القرار الذى يطرح على مجلس المحافظين صياغة متشددة تدين إيران، وكانت الدول الأوروبية الثلاث المتفاوضة مع إيران تسعى للتخفيف من هذه الصيغة.
وفى إيران كان المفاوضون النوويون يؤكدون للصحافة الإيرانية وللمؤسسات السياسية فى طهران أن استمرار التعاون مع الوكالة له فوائده السياسية لصالح إيران، وعلى هذا فإن قيام مجلس المحافظين بتبنى صيغة متشددة تجاه إيران كان من شأنه أن يُضعف موقف هؤلاء المفاوضين. فى الوقت نفسه فإن الدول النامية كانت بدورها غير راضية عن صياغة المسودة الأولى لمشروع القرار.
وفى ما يمثل سابقة، طلب الإيرانيون وساطتى، وفعل الأمريكيون الشىء نفسه من خلال رسالة نقلها إلىّ سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى ڤيينا من وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وفى النهاية تم التوصل إلى قرار توافقى قَبِل به الأمريكيون والإيرانيون. وعلى الرغم من أن الأمر انتهى بصورة مُرضية، إلا أنه أصبح من الواضح أن مجلس المحافظين صار مسرحًا للتجاذب والاختلافات حول الملف الإيرانى بصورة تنذر بالمزيد من الانقسام الدولى.
وبعد أيام من اجتماع مجلس المحافظين ذهبتُ للقاء الرئيس الأمريكى «بوش» بناءً على دعوة غير متوقعة. كنت قبل فترة وجيزة قد نشرت مقالا فى صحيفة «نيويورك تايمز» حول مسألة منع انتشار الأسلحة النووية وسبل مكافحة الانتشار السرى لهذه الأسلحة، وهو الأمر الذى كان «بوش» قد تطرق إليه بدوره فى خطاب أخير له. ولقد جاءت دعوة «بوش» للزيارة قبيل انعقاد اجتماع مجلس المحافظين عبر وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وهى الدعوة التى قبلتها بالطبع، وإن كنت فضلت أن لا تأتى الزيارة إلا بعد الانتهاء من أعمال مجلس المحافظين، خشية أن يُنظر إليها على أنها تؤثر على الموقف الذى سأعرضه أمام المجلس.
وقُبيل لقائى مع «بوش» التقيت مع «ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية الأمريكى الذى ذكّرنى ببوادر حُسن النية التى أبدتها واشنطن إزاء طهران من خلال المساعدات الإنسانية التى قدمتها لإيران بعد تعرض مدينة بام الإيرانية لزلزال شديد التدمير فى ديسمبر من عام2003، وهى المساعدات التى رفضتها إيران فى البداية ثم عادت وغيرت موقفها. وقد تصادف أن ذلك جاء بعد أسبوع من توقيع إيران البروتوكول الإضافى وما تبعه من تصريحات إيجابية أدلى بها «باول» حول إمكانية الحوار مع طهران، لكن الأمور لم تتطور أكثر من ذلك.
واستقبلنى «بوش» بحديث ودود حول لعبة البيسبول التى أهتم بها وأتابعها، وتحدثنا قليلا عن أحد الفرق، ثم انتقل اللقاء، الذى تم بمشاركة «آرميتاج» ووزير الطاقة «سبنسر إبراهام» و«كوندوليزا رايس» و«بوب جوزيف» الذى يعمل مع «رايس» فى مجلس الأمن القومى، إلى ملف الأسلحة النووية، وكان يرافقنى الأمريكى «دافيد واللر» نائب المدير العام لشؤون الإدارة بالوكالة، وهو صديق أثق فيه. وقد بادر «بوش» بالقول: «سمعت أن لديك أفكارًا حول تعزيز نظام منع انتشار الأسلحة النووية».
وقدمتُ له عرضًا موجزًا للأفكار التى تضمنتها مقالة «نيويورك تايمز»، مشيرا إلى أهمية السعى لتقليل استخدام اليورانيوم عالى التخصيب للأغراض السلمية، والتوسع فى استخدام اليورانيوم منخفض التخصيب، لا سيما فى المفاعلات البحثية، بما يمثل تقليلا مباشرًا لمخاطر انتشار الأسلحة النووية، مشيرًا إلى أن عملية تحويل مفاعلات الأبحاث من استخدام يورانيوم عالى التخصيب إلى يورانيوم منخفض التخصيب ستحتاج إلى نحو 50 مليون دولار كل عام على مدى أربعة أو خمسة أعوام، فكان تعليقه «إن هذا لا يبدو بالمبلغ الكبير»، ثم وجّه سؤاله لوزير الطاقة الأمريكى حول «ما إذا كان من الممكن تنفيذ هذه الخطة»، فأجابه «إبراهام»: «بالطبع يمكننا تنفيذ هذا الأمر». وقد نما إلى علمى فى ما بعد أن وزارة الطاقة الأمريكية كانت تعمل على خطة مشابهة، ولكن بعد هذا اللقاء مع «بوش» أصبحت تتابع تنفيذ الخطة بتعليمات مباشرة من الرئيس.
من ناحية أخرى، تطرقتُ فى حديثى إلى ضرورة تقليل عدد الدول المالكة لدورة الوقود النووى الكاملة، مشيرًا إلى أنه يوجد بالفعل نحو 13 دولة لديها القدرة للوصول إلى المراحل النهائية لهذه الدورة، قلت إننا إذا حاولنا الحيلولة دون زيادة هذا العدد من الدول، فإن الدول التى شارفت على الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتشغيل الدورة الكاملة للوقود النووى لن تكون بالضرورة سعيدة بأية خطوات تُتخذ فى هذا الصدد.
وعند تلك النقطة انتقل الحديث منطقيًّا إلى الملف الإيرانى، ولأن أجواء النقاش كانت جيدة فقد قررت أن أنتهج الصراحة الكاملة، وذكرت أنى -بصرف النظر عن الخلافات الأيديولوجية- لا بد أن يكون هناك تحرك جاد للتعامل مع إيران على نحو عملى من خلال منح طهران حزمة جيدة من الحوافز يصعب عليها رفضها، ثم العمل بعد ذلك للوصول إلى وَقْف طوعى لحصول أى دولة أخرى على التكنولوجيا اللازمة لامتلاك دورة الوقود النووى، فما كان من «بوش» إلا أن قال: «أنا مستريح لهذا الشخص الذى يفكر بصورة براجماتية». وقد كان هذا التعليق مفاجئًا لى.
ثم قال «بوش» إنه يود أن يكون هناك تحرك قانونى نحو منع الدول التى تمتلك منشآت لتشغيل دورة الوقود النووى من نقل هذه التكنولوجيا إلى دول أخرى، فأشرت إلى أن ذلك يتعارض مع ما تسمح به معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وأن النجاح فى هذا الصدد من الأرجح أن يتحقق من خلال توافق دولى على فرض حظر طوعى على نقل هذه التكنولوجيا، على أن يكون ذلك مقترنًا بضمانات حول توفير الوقود النووى، مع تأكيد الدول النووية التزامها بنزع الأسلحة النووية.
وفى ما يخص إيران على وجه التحديد أكدتُ للرئيس «بوش» أن إطلاق التهديدات فى وجه طهران لن يجدى، فالمهم أن تكون هناك أسباب لتحفيز إيران على التعاون، مشيرًا إلى أن «الحل الأمثل للتعامل مع الملف الإيرانى يكمن فى الجمع بين الدبلوماسية، والتحقق من خلال الوكالة الدولية مما يجرى على الأرض هناك».
ومرة ثانية فاجأنى الرئيس «بوش»، حيث قال لى إن ما اقترحتُه «لا يمثل فقط الحل الأمثل، بل هو الحل الأوحد، بخلاف الحل الإسرائيلى»، مشيرًا إلى أن «هناك خشية أن تلجأ إسرائيل لاستخدام القوة» ضد إيران.
ولقد تريثتُ على أمل أن يُفصح عن شىء ما حول التوجهات الإسرائيلية فى هذا الشأن، ولكنه لم يقل شيئًا واضحًا، وظل حديثه يتسم بالتعميم الشديد، فلم أكن أعرف إذا ما كانت لديه معلومات بالفعل حول الخطط الإسرائيلية أم أنه ليست لديه معلومات محددة. وألمح «بوش» فى هذه الجلسة إلى أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية من تشديد الضغط على إيران هو تفادى لجوء إسرائيل لاستخدام القوة، وتذكرت محادثة دارت بينى وبين وزير الخارجية البريطانى «جاك سترو» و«يوشكا فيشر» وزير الخارجية الألمانى، حيث قالا لى إن الدول الأوروبية الثلاث المشاركة فى المفاوضات النووية إنما تسعى لأن تكون «درعًا بشريّة» لإيران من خلال الحوار الذى تأمل أن يحول دون قيام الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل بتوجيه ضربة لإيران.
ولقد شهدت هذه المرحلة تباينًا للرؤى داخل الإدارة الأمريكية حول سبل التعامل مع إيران، فكان جناح الصقور يرى ضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران والقيام بعملية لتغيير النظام الحاكم بها دون أن يأخذوا أى عظة مما حدث فى العراق. لقد كان هؤلاء الصقور ينظرون إلى إيران بوصفها تهديدًا لوجود إسرائيل، وكانوا يرفضون أى حوار قد يعطى أى شرعية للنظام بها. أما الجناح الآخر والذى كنت أعتقد أنه كان يضم الرئيس «بوش» نفسه و«كوندوليزا رايس»، بغض النظر عن التصريحات المتشددة التى يدليان بها، فقد كان يرى أن الحوار والتفاوض هما الطريق الأمثل للتعامل مع هذا الأمر، لكنهم كانوا يُصرون فى الوقت نفسه على أن الطريق إلى التفاوض يجب أن تسبقه تلبية إيران مجموعة من الشروط المسبقة. وكان هناك فريق ثالث يضم مسؤولين مثل «باول» و«آرميتاج»، وكان يميل إلى الدخول فى حوار دون شروط مسبقة عن قناعة أن الحل للملف الإيرانى هو بالضرورة حل دبلوماسى.
وكنت قد أحضرتُ معى رسالة من حسن روحانى، نيابة عن النظام الإيرانى، تفيد باستعداد إيران للدخول فى حوار مع الولايات المتحدة حول جميع القضايا، بما فى ذلك البرنامج النووى لطهران، وقضايا أوسع تتعلق بالأمن الإقليمى. ولقد كانت هذه الرسالة مكتوبة على صفحة واحدة من ورق أبيض لا يحمل أى إشارة لهوية الراسل، كما أن الرسالة لم تكن تحمل توقيعًا، ولكننى قمت بتقديم هذه الرسالة إلى «بوش» مؤكدًا أنها موجهة من روحانى، ومشددًا على أهمية شروع الولايات المتحدة فى حوار مع إيران.
وكان تعقيب «بوش»: «أحب أن يكون الحديث بين القادة بصورة مباشرة، ولكننى لا أظن أن الزعيم الإيرانى مستعد لذلك، لأنه منشغل جدًّا بأفكار تدمير إسرائيل»، وكان ذلك إشارة منه إلى آية الله خامنئى. ثم أشار «بوش» إلى أن إيران تحتجز نحو 40 من عناصر «القاعدة» من أصول سعودية ومصرية كورقة للتفاوض، مع علمها باهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالوصول إلى هذه العناصر.
وفى المجمل شعرتُ أن «بوش» كان يؤكد -على طريقته الخاصة- اعتقادى بأن الحوار بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يجلب الكثير من الفوائد للطرفين، بما فى ذلك قيام إيران بدعم فُرص الأمن فى العراق بالنظر إلى العلاقة التى تربطها مع الشيعة هناك. ولقد أشرتُ إلى أن الحوار هو أحد دلائل الاحترام، وأنه بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط وثقافتها، فإن إبداء الاحترام هو أمر أساسى فى اتجاه الوصول إلى تسوية سلمية لأية مشكلة.
وكان هناك العديدون فى النظام الإيرانى الذين يودون إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف التوصل إلى «صفقة كبرى» تشمل ملفات الأمن والتجارة، ونظرة إسرائيل إلى الخطر العسكرى الإيرانى، وأمورًا أخرى تتعلق بتطبيع كامل للعلاقات بين طهران وواشنطن. وهذا كان فى رأيى فحوى رسالة روحانى، ولكن لم يَبْد لى أن «بوش» أو «رايس» كانا فى هذا الوقت على استعداد للتعامل مع آفاق مثل هذا التوجه.
وقرب نهاية اللقاء اقترحتُ عقد مؤتمر دولى لدعم أهداف نظام منع انتشار الأسلحة النووية، وعلى الفور لاقى هذا الاقتراح قبولا واضحًا من «رايس» التى قالت إنه «طالما فكرت فى أننا نحتاج لمثل هذا المؤتمر»، وكان واضحًا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن وسيلة لإثبات الزعامة الدولية، خصوصًا فى هذا العام الانتخابى الذى كان ملف أسلحة الدمار الشامل فيه ملفًا بارزًا.
وقد منحنى هذا الاجتماع بعض أسباب التفاؤل، حيث إن الاجتماع كان أكثر عمقًا مما كنتُ قد توقعت، ثم زادت أسباب التفاؤل خلال لقاء تالٍ مع «جورج تنيت» مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذى يتمتع بمهنية عالية وقدرة على الحديث المباشر، وقد لاحظتُ تحسب «تنيت» من استخدام العبارات المبالغ فيها حول تقييم الوضع بالنسبة إلى البرنامج النووى فى إيران، وهو ما مثَّل اختلافًا كبيرًا عن لغة الاستخبارات قبل حرب العراق. وكان «تنيت» نفسه مقتنعًا بأن الهدف من البرنامج النووى الإيرانى هو إنتاج أسلحة نووية، غير أنه أقر بأنه لم يكن لديه دليل مباشر على ذلك، أو حسب لغة العاملين فى أجهزة المخابرات، لم تكن لديه «معلومات يمكن التحرك على أساسها»، وبالتالى فلقد كان «تنيت» يأمل أن تنكشف النوايا الإيرانية فى مرحلة ما من مراحل التفتيش على منشآتها النووية.
ولقد قدم لى «تنيت» بذلك توضيحا لِما كنت أسمعه عبر وسائل الإعلام الأمريكية ومن المسؤولين الأمريكيين حول تأكد واشنطن من سعى إيران لامتلاك الأسلحة النووية، على الرغم من عدم تقديم أى دليل على ذلك. وفى ما استطعتُ أن أخلص إليه فإن أجهزة المخابرات الأمريكية تمكنت من خلال تتبع لمحادثات تليفونية وما إلى ذلك، أن تضع يدها على انخراط بعض أفراد الحرس الثورى الإيرانى فى البرنامج النووى الإيرانى، بما فى ذلك القيام ببعض المشتريات الخاصة بهذا البرنامج، ولكن لم تكن هناك معلومات تفيد بوجود رابطة بين هذا البرنامج وبين برنامج نووى عسكرى. وبالتالى فإن التحرك الأمريكى كان يهدف للضغط على إيران فى انتظار التوصل إلى دليل دامغ أو فى انتظار أن يتقدم شخص ما بمعلومات حاسمة فى هذا الصدد.
ولم تكن إيران تساعد نفسها فى علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإخفاؤها المتعمد لمعلومات حول جهود تطوير أجهزة التخصيب من طراز «P-2» وإلغاؤها المفاجئ للزيارة المقررة لمفتشى الوكالة إلى «ناتانز» خلق انطباعًا سلبيًّا لدى الوكالة. ورأيتُ أنه لا بد أن يتم الحديث مع طهران بصورة حاسمة، وقررتُ أن أقوم بنفسى بهذه المهمة من خلال زيارة لطهران.
وفى طهران أخبرتُ كل مسؤول التقيتُ به بدءًا من الرئيس خاتمى ووصولا إلى وزير الخارجية كمال خرازى أننى سئمت سياسة المماطلة والتأخير التى تتبعها إيران فى تعاملاتها مع الوكالة. ولقد أبديتُ للرئيس خاتمى -على وجه التحديد- معاملة جافة تختلف عما أبديته خلال آخر لقاء جمعنى به، لأنه وببساطة خدعنى فى ذلك اللقاء، واخترت أن لا أدخل فى مواجهة حول هذا الأمر، واكتفيت بأن يكون حديثى معه دالا على أن موقفى منه قد تغير.
كما أحطتُ الرئيس خاتمى وكل من قابلتهم بأن صبر مجلس محافظى الوكالة أخذ فى النفاد، وأن إيران لم يعد لديها نفس القدر من الدعم والمساندة، وأن ملفها أصبح خلافيّا. وأكدتُ لهم أنه لم يعد أمام إيران سوى التعاون المتواصل والأمين مع الوكالة، وأن أى شىء خلاف ذلك سيُلحق الأذى بالموقف الإيرانى.
فى الوقت نفسه أحطتُ روحانى وخاتمى بالنقاط الأساسية التى خلصت إليها من لقائى مع «بوش»، بما فى ذلك تشكك الرئيس الأمريكى فى نوايا إيران للحوار. وأخبرتهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتظر أن تقوم إيران بتسليم عناصر «القاعدة» المحتجزين لديها إلى بلادهم، كما أخبرتهم بعدم ارتياح واشنطن لما أبدته طهران من تردد فى قبول المساعدات الإنسانية الأمريكية فى أعقاب زلزال «بام» فى ديسمبر 2003
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق