المصدر / جدريدة التحرير 28 سبتمبر 2012
أخبرنى كثيرون، بمن فى ذلك الرئيس المصرى مبارك، أن العقيدة الشيعية تسمح لأتباعها باستخدام المراوغة كوسيلة لتحقيق هدف مشروع. وقيل لى إن الكلمة المستخدمة فى هذا الصدد هى كلمة «تقية»؛ أى اتقاء الضرر الذى قد يصيب الإنسان أو هؤلاء المسؤول عنهم.
أخبرنى كثيرون، بمن فى ذلك الرئيس المصرى مبارك، أن العقيدة الشيعية تسمح لأتباعها باستخدام المراوغة كوسيلة لتحقيق هدف مشروع. وقيل لى إن الكلمة المستخدمة فى هذا الصدد هى كلمة «تقية»؛ أى اتقاء الضرر الذى قد يصيب الإنسان أو هؤلاء المسؤول عنهم.
من جانبى فلقد أخبرت المسؤولين الإيرانيين أنه بغضّ النظر عن الأسباب أو الأهداف وراء مراوغتهم، فإن هذه المراوغة تسببت فى ضرر بالغ لعلاقتهم بالمجتمع الدولى، مشيرا إلى أن رصيدهم من الثقة لدى المجتمع الدولى بدأ ينفد بالفعل بل وأصبح سلبيّا. ولكن المسؤولين الإيرانيين لم يكونوا يشعرون بأى حرج إزاء مراوغتهم، بل إنهم كانوا يجدون تبريرات لهذه المراوغة فى ما وصفوه بعقود متتالية من اتّباع الغرب سياسة ازدواج المعايير فى التعامل مع إيران.
وكانت إيران فى عهد الشاه قد أعلنت اعتزامها بناء ثلاثة وعشرين مفاعلا نوويّا كبيرا لتوليد القوى للأغراض السلمية، بدعم واضح من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها، وبدأت بالفعل فى سنة 1975 فى التعاقد مع شركات ألمانية لبناء أولى هذه المحطات فى بوشهر. كما حصلت على حصة قدرها 10% فى شركة متعددة الجنسيات تدير مصنعا لتخصيب اليورانيوم فى فرنسا، ولكن الأمر توقف تماما مع قيام الثورة الإسلامية فى 1979 التى أطاحت بحكم الشاه. فقد رفضت الشركة الألمانية الاستمرار فى بناء منشأة بوشهر وأوقفت الولايات المتحدة تزويد إيران بالوقود اللازم لمفاعلها البحثى، كما رفضت فرنسا الاستمرار فى إمداد إيران بمزيد من اليورانيوم المخصب على الرغم من محاولات إيران العديدة، وعلى الرغم من حصة إيران فى الشركة متعددة الجنسيات. وفى ضوء تاريخهم السابق فإن المسؤولين الإيرانيين كانوا يصرون على أن لهم الحق فى ما يقومون به، خصوصا أنهم كانوا يؤكدون أن الحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدامات السلمية هو أحد أولويات السياسة الإيرانية.
كذلك فقد أكد الإيرانيون ضرورة حصولهم على دورة الوقود النووى لأنه ليس هناك فى العالم مَن يزودهم بالوقود النووى سوى روسيا، التى قالوا إنها لا تلتزم دائما بما يتم الاتفاق عليه، وإنها تبالغ فى المقابل المادى الذى تحصل عليه لهذا الوقود.
من ناحية أخرى، أكد الإيرانيون أنه لم يكن لديهم حيلة فى التزام السرية إزاء المنشآت والمواد النووية، وأرجعوا ذلك إلى النظام الصارم للعقوبات المطبقة عليهم من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، الذى حال دون إمكانية حصولهم على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، الأمر الذى تسبب فى اعتمادهم على السوق السوداء لاستيراد المعدات والمواد النووية اللازمة، والذى أدى إلى كلفة مالية طائلة بالنسبة إليهم وصلت فى بعض الأحيان لأربعة أضعاف الأسعار فى الظروف العادية. أما الاحتفاظ بسرية البرنامج لأطول وقت ممكن فقد كان أمرا ضروريا، كما أكدوا مرارا.
وفى الدوائر الدبلوماسية بڤيينا فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التى تولت قيادة المجهود الغربى لعزل إيران لأكثر من عقدين، لم تُبْد أى رغبة فى محاولة تفهم التبريرات الإيرانية. وبالنسبة إلى واشنطن فإن كذب إيران دليل دامغ على أنها تسعى لتطوير أسلحة نووية. وبالطبع فإن الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج لم يكن لديه ما يؤيده من الدليل الفعلى. ولم تكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتعتد بأى شىء سوى الدليل الفعلى قبل أن تصل إلى مثل هذا الاستنتاج. لكن بلدانا غربية أخرى أخذت تردد المواقف الأمريكية المؤكدة عزم إيران على امتلاك السلاح النووى، بينما أبدى عديد من الدول النامية تعاطفها مع اضطرار إيران لالتزام السرية تفاديا لتعرضها لمزيد من العقوبات. وكانت هذه السابقة من جانب إيران مدعاة للقلق بالنسبة إلىّ. وبدأ الانقسام يظهر فى مجلس محافظى الوكالة بين دول الشمال ودول الجنوب.
وطَوال صيف وخريف 2003 كنا دوما نواجَه بمزيد ومزيد من الأسئلة التى لا إجابات لها حول البرنامج النووى الإيرانى، كما أن ملاحظات المفتشين ونتائج المسح جاءت على خلاف الموقف الإيرانى. والأكثر من ذلك أن المفتشين كانوا على قناعة بأن إيران لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه فى ما يتعلق بدرجة تطور برنامجها النووى لو لم تكن قد قامت بإجراء اختبارات أوسع بكثير مما أقرت به.
فعلى سبيل المثال أوضحت زيارة مفتشى الوكالة إلى منشأة لليزر فى عسكر أباد مدى التقدم فى استخدام بخار الليزر الذى يمكن أن يُستعمل مباشرة فى التخصيب، ومع ذلك أفاد الإيرانيون بأنهم لم يقوموا بإجراء أى تخصيب من هذا النوع. ولاحظ المفتشون كذلك أن رسومات المفاعل «IR 40»؛ وهو مفاعل بحثى يعمل بالماء الثقيل، كان من المقرر أن يبدأ بناؤه فى آراك فى سنة 2004، لم تشمل تخطيطا «للخلايا الساخنة»؛ وهى غرف خاصة مجهزة بمعدات تحكّم عن بُعد حتى يمكن فيها معالجة المواد المشعة، بما فى ذلك فصل البلوتونيوم، دون تعرض لمخاطر الإشعاع؛ ومع ذلك فإنه كانت هناك دلائل على جهود تبذلها إيران للحصول من الخارج على أجهزة التداول ونوافذ مصنوعة من الرصاص، لاستخدامها فى الخلايا الساخنة وفى منشآت تحويل اليورانيوم فى أصفهان وفى غيرها من المعامل، وهى ذات تصميم جيد ومكتملة إلى حد بعيد، صمم الإيرانيون على أنهم لم يقوموا بمحاولات لتحويل اليورانيوم. واستمر الأمر كذلك حتى واجهناهم بنتائج مخالفة للعينات وبأسئلة كثيرة من جانب مفتشى الوكالة. عندئذ تحول الإنكار المتكرر إلى اعتراف تدريجى بأن العلماء النوويين الإيرانيين قاموا بالفعل بتجارب فى جميع مراحل تحويل اليورانيوم تقريبا.
كان الوقت قد حان لمواجهة صريحة مع الإيرانيين، فسافرت إلى طهران فى 16 أكتوبر والتقيت هذه المرة مع حسن روحانى الأمين العام لمجلس الأمن القومى الإيرانى، ولقد كانت تلك المقابلة فاصلة بالفعل. وبعد تبادل عبارات المجاملة تحدثت معه بصراحة مطلقة عن سلسلة من الأمور الموضوعية مثل اختبار أجهزة الطرد وفصل نظائر الليزر وتحويل اليورانيوم ومشروع مفاعل الماء الثقيل ونتائج اختبارات الوكالة للعينات، وضعتها أمامه كاملة، وأكدت له فى الوقت نفسه أن سياسة المراوغة والتراجع التى تتبعها طهران لا يمكن أن تستمر.
ويبدو أن روحانى كان متوقعا لما قلته، وبالتالى فبدلا من الاستمرار فى المراوغة أكد لى أن إيران مستعدة لفتح صفحة جديدة من التعاون مع الوكالة. وأن القيادة السياسية فى إيران قررت مد الوكالة بكل تفاصيل نشاط طهران النووى السابق والحالى، على أن يتم ذلك خلال الأسبوع التالى. كما قال لى إن إيران مستعدة للانضمام إلى البروتوكول الإضافى للوكالة الدولية للطاقة الذرية طبقا لأحكام البروتوكول الإضافى، بل وإنها يمكن أن تسمح بتوسيع نطاق التفتيش أمام مفتشى الوكالة طبقا لأحكام البروتوكول الإضافى إلى أن يدخل البروتوكول حيز النفاذ.
وكان روحانى فى الوقت نفسه يجرى مفاوضات غير معلنة مع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وفى 21 أكتوبر صدر إعلان طهران؛ وهو اتفاق بين طهران وباريس وبرلين ولندن، يؤكد النقاط الرئيسية التى كان روحانى قد طرحها علىَّ خلال اللقاء معه فى طهران، ويؤكد استعداد إيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما فى ذلك العمل على تطبيق البروتوكول الإضافى، بل ويعلن استعداد إيران لوقف أنشطة التخصيب وإعادة المعالجة خلال فترة المفاوضات التى تجرى مع الدول الأوروبية الثلاث فى بادرة لحسن النية من قِبل طهران. فى المقابل أقرت الدول الأوروبية الثلاث بالحقوق المشروعة لإيران فى تطوير تكنولوجيا نووية، كما اتفقت على التفاوض للوصول إلى حزمة من الضمانات التى تقدمها إيران حول الطبيعة السلمية لبرنامجها النووى. وأقرت الدول النووية، بموجب نفس الإعلان، أنه فور التوصل إلى حزمة الضمانات اللازمة فإن هذه الدول ستقدم لإيران تكنولوجيا متقدمة، بما فى ذلك التكنولوجيا النووية.
وبعد يومين من صدور هذا الإعلان، تلقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية رسالة من آغازاده يعلن فيها اعتزام إيران بدء مرحلة جديدة من الثقة والتعاون مع الوكالة. وقد أقر خطاب آغازاده بكثير من النشاطات التى طالما أنكرتها إيران، بل إنه إضافة إلى ذلك قام بتقديم معلومات لم تكن متاحة للوكالة من قبل حول البرنامج النووى الإيرانى.
وقد تبين من خطاب آغازاده أن إيران اختبرت أجهزة طرد بمواد نووية فى مصنع «كالاى» باستخدام غاز «UF6» الذى كان قد «تسرب» من إحدى أسطوانات معمل جابر بن حيان، وأجرت اختبارات تخصيب بواسطة الليزر طَوال التسعينيات. وقامت بتجارب لإعادة المعالجة فى مركز طهران للبحوث النووية وقامت بفصل كمية صغيرة من البلوتونيوم. كما أنه تبين استخدام مواد نووية لم يسبق الإبلاغ عنها من قبل، فى تجارب موسعة لتحويل اليورانيوم. ولم يشر أى من هذه الأنشطة صراحة إلى وجود برنامج تسلح نووى، ولكنها كانت تشكل معا برنامجا يكاد يكون شاملا لدورة الوقود النووى تم فى معظمه سرا.
-وفى العاشر من نوفمبر 2003 قدمت لمجلس محافظى الوكالة تقريرا مفصلا حول عمل الوكالة المتعلق بإيران، وأشرت فى هذا التقرير إلى «سياسة المراوغة» التى اتبعتها إيران، وإلى أن تقديم المعلومات من قِبلها جاء «محدودا» وفى الأغلب فى إطار إجابات عن أسئلة طرحتها الوكالة على طهران. كما شمل التقرير أيضا، تفصيلا عما تلا ذلك من استعداد إيران لإبداء التعاون وحُسن النية والتعامل بشفافية وتعليق نشاطات التخصيب والتحويل لليورانيوم، بل وقرارها توقيع البروتوكول الإضافى وتنفيذه.
ولم يكن هناك اختلاف مع أىٍّ مما جاء فى هذا التقرير من قِبل مجلس المحافظين. وفى الجزء الختامى من التقرير أوضحت تقديرنا المرحلى لوضع إيران من حيث انتشار الأسلحة النووية، وأكدت أن ما عثرت عليه الوكالة من دلائل على نشاطات نووية ومن مواد نووية «حتى الآن لا يعد دليلا على وجود برنامج لدى إيران لامتلاك السلاح النووى»، وأضفت أنه فى ضوء ما سبق من سياسات مخادعة من قِبل إيران فلا بد للوكالة من «مزيد من الوقت قبل أن تستطيع القول بصورة نهائية إن برنامج إيران النووى هو فقط لخدمة أغراض سلمية».
كان التقرير قائما على الحقائق بصورة كاملة، وتمت صياغته بلهجة مباشرة. غير أن هذا التقرير قوبل بانتقاد حادٍّ من قِبل جون بولتون مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشؤون نزع السلاح والأمن الدولى، والذى قال إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان ينبغى عليها أن تتبع نهجا أكثر تشددا إزاء إيران. واستتبع ذلك نقاش مطول فى أروقة الوكالة والدوائر الدبلوماسية فى ڤيينا حول المعنى القانونى الدقيق لكلمة «دليل» بالنظر إلى ما جاء فى تقريرى بأنه «لا دليل حتى الآن» على سعى إيران لامتلاك السلاح النووى. وصمم بولتون على الرد بعنف، وكلف كين بريل؛ مندوب الولايات المتحدة الأمريكية لدى الوكالة بقراءة بيان فى مجلس المحافظين قال فيه: «إن المؤسسة التى كلفها المجتمع الدولى بالتحقق من مخاطر الانتشار النووى تتجاهل وقائع هامة أسفرت عنها تحقيقاتها ذاتها»، وأضاف أن «استعادة الوكالة لمصداقيتها التى تعرضت لكثير من الأذى» هو أمر سيتطلب مزيدا من الوقت.
ولقد كان لدى بريل من الكياسة ما يكفى لأن يحيطنى علما مسبقا بالبيان الذى سيلقيه أمام مجلس المحافظين، وبرغم ذلك فقد شعرت بالغضب لدى تلاوته فى المجلس فقمت على الفور ودون أن يكون لدىّ نص معد بالرد على ما جاء فيه والدفاع عن عمل الوكالة ونزاهتها، مشيرا إلى أن التقدم الذى حققته الوكالة فى الكشف عن الصورة الحقيقية لبرنامج إيران النووى فى خلال عشرة أشهر يتجاوز بكثير ما استطاعت أفضل أجهزة المخابرات فى العالم تحقيقه فى عشر سنوات كاملة.
وفى المداخلة ذاتها وجهت نقدا شديدا لما وصفته بـ«التركيز الأمريكى المفتقر إلى المنطق» على ما يمكن اعتباره بـ«الدليل» على نية إيران امتلاك السلاح النووى. وفى هذه المداخلة اعتمدت على التوصيف القانونى لكلمة «دليل» حسبما يُشار إليه فى واحد من أهم المراجع القانونية التى كنت أعتمد عليها خلال سنوات دراستى للقانون الدولى فى نيويورك منذ أكثر من 30 عاما.
وقلت بوضوح إن الوكالة الدولية تجيد اختيار الألفاظ المستخدمة، وتعرف بدقة ما الذى يمكن وصفه بـ«الدليل»، وما الذى لا يمكن وصفه بذلك، مشيرا إلى المصداقية التى حققتها الوكالة فى هذا الصدد خلال تعاملها مع برنامج العراق النووى، وكانت إشارتى واضحة أن الأمريكيين وحلفاءهم هم الذين لم يعرفوا ما الذى يمكن اعتباره دليلا على سعى دولة ما لتطوير سلاح نووى، عندما سارعوا ببدء حرب كارثية مع العراق. حيث كنا نرى كل يوم الدليل على تبعات رغبة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اتباع معلومات مخابراتية غير موثقة باعتبارها دليلا على أن العراق كان ما زال لديه برنامج للأسلحة النووية. وكان ما يدور فى خاطرى فى تلك اللحظة أنه من غير الأمانة على الإطلاق أن يهاجم أحد الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاختيارها توخّى الدقة فى عملها.
ولقد كان وَقْع هذه المداخلة على الجالسين فى قاعة الاجتماع صادما؛ فلم يكن أىّ من الحضور يتصور إمكانية حدوث مثل هذه المصادمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وخلال إلقائى مداخلتى لم أرفع صوتى مرة، ولكن المواجهة المباشرة كانت أسلوبى. وعندما بادر رئيس المجلس لدعوة المتحدث التالى لأخذ الكلمة رأيت أن أغادر القاعة لأستعيد كامل هدوئى. وبعد انتهاء الاجتماع قال لى بعض من المشاركين فيه، بما فيهم سفير الصين، إن هذا كان «يوما تاريخيّا» تمكَّن فيه موظف دولى من الوقوف أمام محاولة الولايات المتحدة الأمريكية فرض آرائها وأجندتها قسرا.
بمجرد الإعلان عن النشاطات النووية الإيرانية التى لم يسبق الإبلاغ عنها، كتبت مقالا فى مجلة «الإيكونومست» البريطانية مقترِحا أن يتم تشغيل دورة الوقود النووى فى كل أنحاء العالم تحت مراقبة دولية، متعددة الأطراف. ولم تكن هذه الفكرة جديدة بل إنها كانت منذ سبعينيات القرن العشرين محل دراسات ومناقشات فى لجان عديدة. بل إن هذا الأمر كان قد طُرح، ولو بصورة غير مباشرة، فى سنة 1953 من جانب الرئيس الأمريكى آيزنهاور، فى خطابه الشهير بشأن «الذرة من أجل السلام».
ولكن هذا الأمر أصبح أكثر إلحاحا مع الانتشار السريع والمتزايد للتكنولوجيا والخبرة النووية بالطرق القانونية والطرق غير القانونية على حد سواء؛ لأن قيام كل دولة بتشغيل دورة الوقود النووى الخاص بها يفتح بابا لا يمكن إغلاقه أمام أخطار انتشار الأسلحة النووية. وبالتالى فإن الحل يكمن فى التعامل الدولى مع هذا الأمر من خلال بناء منشآت مركزية تحت إشراف وإدارة عدد من الدول لتشغيل دورة الوقود النووى وبحيث يستفيد منها كل المشاركين فى ملكية وإدارة هذه المنشآت، وهذا يمكن أن يَحُول دون أخطار انتشار التسلح النووى، وفى الوقت نفسه يمكّن الدول التى تستخدم الطاقة النووية بصورة قانونية أن تحصل على احتياجاتها من الوقود النووى لتشغيل مفاعلاتها. إضافة إلى ذلك فإن الفوائد الاقتصادية لهذا المشروع واضحة؛ لأنه يخفض من التكاليف الباهظة التى تنفق من قِبل كل دولة لبناء المنشآت اللازمة لتخصيب اليورانيوم أو فصل البلوتونيوم. لكن الهدف الأهم الذى يمكن لهذا الاقتراح أن يحققه هو الحيلولة دون تحويل أىّ من المواد النووية إلى أسلحة نووية.
وحظى هذا المقال بكثير من الاهتمام، وبدأ تداول الفكرة المطروحة فيه والنقاش حولها على نطاق واسع. وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها فى السعى للترويج لفكرة «شراكة دولية من أجل الطاقة النووية». واقترح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إنشاء شبكة من مراكز تشغيل دورة الوقود النووى. واقترحت ألمانيا إنشاء مركز يمكن من خلاله أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالإشراف على عملية دولية لتخصيب اليورانيوم.
أما تيد تيرنر وسام نان، ولكليهما دور مرموق فى مجال مكافحة انتشار التسلح النووى، فقد تحركا نحو إقناع وارين بافيت وهو رجل أعمال أمريكى ينفق من أمواله لخدمة الأغراض النبيلة للإنسانية بتقديم تبرع بمبلغ 50 مليون دولار لبناء مخزون من الوقود النووى يكون تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، شريطة أن تقوم الحكومات بتقديم 100 مليون دولار من جانبها كخطوة أولى نحو دعم هذا المشروع.
ولكن مناخ الثقة الذى كان آخذا فى التزايد لم يستمر طويلا؛ فلقد تقدمت ست دول هى: أمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبريطانيا بمقترح لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية يضمن توفير الوقود النووى للدول الراغبة فى الحصول عليه، شريطة أن تقوم هذه الدول بالتخلى عن حقوقها المقررة وفقا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى ما يتعلق بحق التخصيب وحق إعادة معالجة البلوتونيوم.
وكان هذا الطرح مختلفا بصورة جذرية عن الطرح الذى كنت عرضته من خلال مقالى بمجلة «الإيكونومست». ذلك أننى كنت أرى أن إقامة منشآت دولية متعددة الأطراف لدورة الوقود النووى يعتبر المرحلة الأولى فى عملية متعددة المراحل من شأنها تقريب المسافة بين الدول التى تمتلك التكنولوجيا والقدرة النووية وتلك التى لا تمتلكها، بما يسهم فى خدمة هدف الحد من انتشار التسلح النووى وصولا إلى مرحلة نزع الأسلحة النووية.
أما الاقتراح المقدَّم من الدول الست فلم تتجاوز أهدافه سوى الهدف العاجل المتعلق بالحد من انتشار التسلح النووى، بطريقة ليس من شأنها إلا توسيع الفجوة بين الدول النووية والدول غير النووية لأن الرسالة التى كان ينطوى عليها هذا الاقتراح مفادها تأكيد رغبة الدول التى تمتلك تكنولوجيا دورة الوقود النووى فى الاستمرار فى احتكار تلك التكنولوجيا.
ولأننى كنت أستطيع أن أتوقع أن ذلك الاقتراح بصورته الحالية لن يلقى التوافق، بل سيكون محل خلاف كبير، طالبت برفع الشرط المتعلق بتنازل الدول عن حقوقها المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية المتعلقة بتشغيل دورة الوقود النووى، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية أصرت على بقاء الشرط ووزع الاقتراح على جميع أعضاء مجلس المحافظين. وكما
توقعت، أثار الأمر كثيرا من الهواجس، ليس فقط لدى الدول النامية، ولكن أيضا لدى دول متقدمة لم تقم باستكمال دورة الوقود النووى مثل كندا وإيطاليا وأستراليا، وكلها كانت تريد أن تظل الخيارات متاحة أمامها فى المستقبل. كما أن هناك دولا أخرى مثل اليابان وألمانيا وهولندا والبرازيل والأرجنتين اتخذت موقفا وسطا: فهى لم تكن تمتلك أسلحة نووية لكن تمتلك تكنولوجيا دورة الوقود النووى مما جعلها فى وضع أفضل. وما من دولة لها مثل هذه الميزة على استعداد للتخلى عنها لصالح برنامج دولى من شأنه الحد من مخاطر الانتشار.
توقعت، أثار الأمر كثيرا من الهواجس، ليس فقط لدى الدول النامية، ولكن أيضا لدى دول متقدمة لم تقم باستكمال دورة الوقود النووى مثل كندا وإيطاليا وأستراليا، وكلها كانت تريد أن تظل الخيارات متاحة أمامها فى المستقبل. كما أن هناك دولا أخرى مثل اليابان وألمانيا وهولندا والبرازيل والأرجنتين اتخذت موقفا وسطا: فهى لم تكن تمتلك أسلحة نووية لكن تمتلك تكنولوجيا دورة الوقود النووى مما جعلها فى وضع أفضل. وما من دولة لها مثل هذه الميزة على استعداد للتخلى عنها لصالح برنامج دولى من شأنه الحد من مخاطر الانتشار.
وقد سمم هذا الاقتراح الأجواء. فالدول التى لم تكن لديها تكنولوجيا دورة الوقود النووى أصبحت تنظر إلى كل اقتراح لاحق بكثير من الريبة باعتباره حلقة فى سلسلة من الحيل التى ترمى إلى حرمانهم من حقوقهم. وتفاقمت فجوة الثقة بين الدول النووية والدول غير النووية، التى كانت ملموسة أصلا، وظلت تسيطر على آفاق الدبلوماسية النووية الدولية.
فمنذ سقوط أول قنبلة نووية على هيروشيما، أصبح امتلاك قلة من الدول الأسلحة النووية حافزا للتنافس بين الآخرين من أجل الحصول عليها. ولم يؤد رفض معظم الدول المالكة الأسلحة النووية الاعتراف بتلك العلاقة السببية إلا إلى ترسيخ ذلك. ورغم أن المعاهدة أوضحت أن امتلاك خمس دول الأسلحة النووية ليس إلا مرحلة انتقالية تمهيدا لنزع السلاح النووى، فإن الأمر بعد ثلاثة وثلاثين عاما ظل على ما كان عليه. فكل بيان صادر عن إحدى الدول المالكة السلاح النووى يؤكد قيمة الردع التى يمثلها، وكل تصرف لتحسين أو تحديث ترساناتها النووية، يأتى بمثابة مؤشر على سوء النية بالنسبة إلى الذين لا يملكون هذا السلاح.
ولقد كان لهذا التباين فى وجهات النظر أثره الواضح على النقاش الدائر بين أعضاء مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية حول ملف إيران، رغم أن أحدا لم يكن مرتاحا لما قامت به طهران من نشاطات نووية سرية حتى أولئك الذين كان لديهم التفهم لدواعى السرية التى اتخذتها إيران. واستمر مجلس المحافظين فى مطالبة إيران بتقديم كل ما لديها من معلومات حول منشآت أو مواد نووية، لكن فى الوقت نفسه كان هناك إحساس واضح بعدم الارتياح لرغبة الاحتكار النووى المسيطرة على الدول النووية. وبالتالى تفهم كثيرون رغبة إيران فى الحصول على تكنولوجيا دورة الوقود النووى. وإزاء عدم وجود دليل على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية فإن هذه الدول لم تكن على استعداد لإدانة تصرفات إيران صراحة. ولم تؤد ضغوط الحكومات الغربية إلا إلى تعميق الفجوة بين الجانبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق