شعور شديد بالضيق، وقلقٌ مستمرٌ يُلازمني، وتفكير في لاشيء ، وحوارات لأشخاص أسمعها بداخلي، لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، وميل للانعزال والوحدة والمكوث لأطول وقت بمفردي، وإحساس بالخمول والكسل، تلك المرة الثانية التي أَمُرُّ بهذه الحالة .. كانت الأولى أثناء فترة التجنيد، وأثناؤها قمت محاولاًعلاجي بنفسي، بعد ما فشلت تلك الأقراص المهدئة التي أعطاني إياها صديقي الصيدلي، قرأت كتاب في الأمراض النفسية رجَّحت بعدها أني مصاب باكتئاب ، وبالطبع فأنا القادر وليس سواي على حل مشكلتي والتكيف معها .. وقد كان .. فكنت أعامل نفسي على علتها، محاولاً الوقوف على السبب الخفي الداخلي، متجنباً الخوض في أحاديث مع أناس قد يؤذون شعوري، عامدين أو غير متعمدين .. مطمئناً نفسي أن تلك المرحلة مؤقتة وستنتهي، ولابد أن أستفيد من معاملة تلك النوعية من البشر التي ربما لا ألقاها ثانية، فأزيد من رصيد خبرتي في الأمور الحياتية، ولم أشعر متى تم شفائي ..
أما تلك الحالة فهي أعمق بكثير، فلم يعد من الصعب عليَّ التكيف مع من حولي مستفيداً من حالتي السابقة .. الآن وقد مر أيام، لا أعرف ولا أستطيع أن أضع يدي على سبب هذا الشعور الذي عاودني من جديد، فالساعة تعدت الثانية بعد منتصف الليل ومازلت مستلقٍ على ظهري، أتحايل على النوم وأفكر وأحادث نفسي، أهو التفكير في المستقبل المظلم الماثل أمام عينيك والذي لا أمل فيه ؟! .. أو لربما يكون إحساس بالوحدة لعدم وجود صديق، تُسمعه شكواك أو تأمنه على سرك، وَكُلٌ أصبح في شُغل عنك لاهون ؟! أم لعلك ترنو لحبيبة تبث إليها نجواك ؟! تحنو عليك، فيزول تعبك وكدرك، وقد وأدت الحبَ بقلبك وهو مازال في المهد بين النظرات والهمس .. أم شظف العيش الذي أنت فيه ؟! ماذا أنت فاعل ؟! فأبواب العمل طرقتها ولتتنتظر قدرك، شئت أم أبيت ! .. وجدتني أقولها وأعتدل في ظلمتي، متكئاً قليلاً أتحسس جهازي الصغير بجانبي على شعاع الضوء المتسلل من بين فتحات النافذة، فأدير محطاته فلم أجد سوى تلك المحطة ساهرة في الثالثة بعد منتصف الليل.. " صوت العرب ".. أمجاد يا عرب أمجاد، يتبعها صوت المذيع قائلاً : ( وهكذا صرَّحت المتحدثة باسم الوفد الفلسطيني، بأن المفاوضات المتعددة ما زالت متعثرة بسبب التعنت الإسرائيلي، ولكنها تعود لتؤكد عن تفاؤلِها الحذر بشأن الوصول إلى حل سلمي في المنطقة ) ..
لاح في ذاكرتي صورته، كان يسكن أسفلنا في الدور الرابع، مرتان فقط رأيته، كانت المرة الأولى في بداية العام الدراسي بملابسه القديمة الغير متناسقة الألوان، والتي ربما لا يخلعها إلا إذا نَبَّهَه أحد زملائه، حتى نظارته سميكة قديمة جداً، ذكرتني ببائع الحلوى العجوز الذي كان يقف أمام مدرستنا الابتدائية، ويربطها بخيط سميك حول أذنيه، لدرجة اعتقادنا أن عينيه بيضاء اللون كقطعة قطن وليس كعيون بقية الناس ..
تعمدت يومها أن أثير قضيتهم، وهو القادم حديثاً من فلسطين ولم يتأثر بعد بشيء يُنسيه ما يحدث هناك، لذا فقد سألته : ( هل ستعود بعد الدراسة إلى فلسطين أم ستظل هنا ؟ ) ..
رد بحماس : أمنيتي أن أسافر لأدرس القانون الدولي، وأطوف دول العالم لأدعو وأدافع عن القضية ..
- يعني بعد عشر سنين على الأقل ..
-ولو بعد مائة سنة لن أتراجع ..
-يعني فرضت أنها لن تُحَل قبل العشر سنين القادمة ؟!
-والله ما أنا شايف لها حل ..
لحظة صمت مرَّت، فقطعتها بسؤالي له : (على فكرة يا أخ بسام، يا ترى هل لكم بطاقات شخصية ؟ويا ترى إيه مكتوب فيها ؟ ) .. لم يرد، وكسا وجهه سحابة من الحزن كمن ذكَّره بجرح عميق أو حادث مؤلم ..
فقط أخرج من جيبه بطاقة في غلاف بلاستيكي شفاف، أخذتها منه وما كدت ألمسها لتقع عيناي على كلمة "إسرائيل" المطبوعة بحروف مضغوطة عليها؛ حتى شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وكأنني لمست شيئاً نجساً، واحتبس لساني في فمي وبحركة لا إرادية وجدتني رددتها إليه .. ولم تمضِ دقائق حتى استأذنت بعدها منصرفاً، شاعراً بخجل من نفسي كون أنني عربي وتلك القدس عربية !!
شعرت بعدها بإعجاب لا أعرف كنهه بذلك الفلسطيني ..
ربما للحماس الذي كان يأخذه، ولكنني سألت نفسي لو تلك بلدي، وطني، هل أتركها لأتعلم وأدرس وأنجو بنفسي ؟! أم أدافع عنها حتى آخر عمري ؟! ولم اهتدِ لجواب ..
أيام قليلة مضت وكانت المرة الثانية التي قابلته فيها، ولم أحاول رؤيته ثانية، فقد خُيِّل إليَ أنه شخص آخر، فَأَشَد ما أذهلني هو تسريحة شعره البني المجعد الذي أرسله على جبينه وأذنيه، ونظاراته الجديدة ذات العدسات المضغوطة والتي تظهر عينيه الخضرواتين بوضوح، وقميصه الحريري المنقوش بالورود، وتلك الرائحة التي تخرج من فمه والتي أفقدته وعيه، دقَّ باب شقتنا متأهباً للدخول وحين فتحت ،لم يُعرني اهتماماً، يومها زال ذلك الإعجاب السريع به ولم أعد أراه أو أهتم بأخباره ..
لكني تمنيت اليوم أن أراه أو أذهب له إلى الكلية، تخيلت أنني أحدثه، أُطمئنه أن لا داعي لأن يجهد نفسه ويدرس القانون، فهناك متحدثة باسم الوفد بدلاً منه، وجدتني ابتسم وجفناي يتثاقلان بدون أن أشعر، حينما جاءني صوت المذيع قائلاً : ( وفي القدس المحتلة ألقت فتاة فلسطينية بنفسها فاصـــ...... ) ، فنهضت مسرعاً وأغلقت المذياع حتى لا تتوه بسمتي فلا أستطيع النوم ..
في الصباح تسلمت رسالتين، أحدهما طلب حضور لتسلم أول عمل لي، والأخرى طلب استدعاء بتسليم نفسي لأقرب وحدة قوات مسلحة في خلال أربع وعشرين ساعة، أيكون من أجل البوسنة والهرسك، أم الصومال ؟؟ لا أدري .. ضغطت بكلتا يدي على أذني، فقد تعالت الحوارات بداخلي من جديد أكثر وأكثر، ولا تكاد تبدأ حتى تنتهي، ولا زلت جالساً أفكر كيف أعتذر لبسام حين أقابله، فهذا أول عمل لي ..