لم أجد نفسي مرة أرغب في السفر إليها لغير أمرٍ مُلِح، ولم أتمنَّ يوماً العيش فيها على العكس من كثيرين يحلمون بها ولو على سطح عمارة، لماذا ؟! .. لا أدري !! .. ولكن ماذا أفعل، فلابد أن أحصل على إخلاء طرف من بنك ناصر الاجتماعي يفيد أنني لم أحصل على قروض، هكذا قالوا لي في الكلية لأسحب أوراق التخرج، الغريب أنني حاولت أن أشرح لهم أن من شروط القرض خطاب من الكلية، وبالتالي فالكلية على علم بمن أخذ قروض، ولكنهم لم يعطوني الفرصة، فقط قالوا لي أنَّ البنك في عين شمس وتقديم الأوراق في الثامنة صباحاً، والاستلام يبدأ في الواحدة ظهراً، يعني لازم أكون هناك ثمانية صباحاً، وأنسب وسيلة هي أوتوبيس الساعة الخامسة الذي يصل في السابعة والنصف ..
كعادتي ليلة السفر لا أستطيع النوم حتى لو ضبطت المنبه، أجدني أستيقظ قبل موعدي بخمس دقائق، ربما كان القلق، ألقيت بجسدي على المقعد مسنداً رأسي على زجاج النافذة، ورحت في سُبات عميق ولم أشعر بالوقت، حتى لكزني جاري في المقعد قائلاً : ( حمداً لله على السلامة، هتنزل هنا ولا في القُللي ؟ )، هززت رأسي مؤكداً القُللي وشكرته ..
نفس الشعور أحسه بمجرد أن تطأ قدماي أرضها، رغبة ملحة أن أحك أنفي وكأن أصابه عطب مفاجيء بسبب تغير درجة الحرارة المفاجئة له ..
أسرع كعادتي إلى المقهى الصغير ذي المقاعد والطاولات الحديدية الصغيرة المثبتة بالأرضية، أطلب شاي مؤكداً على كوب الماء .. بجوار المقهى دورة مياه صغيرة يجلس على مدخلها نفس المرأة تحمل طفلها الصغير بيد، واليد الأخرى لتتناول بها النقود ما بين خمسة وعشرة قروش، صدقة أم رسم دخول لا أدري !! ربما كانت مقابل نظافة، أبلل وجهي بالماء وأتركه ليجف حتى يهدأ أنفي، أرتشف كوب الشاي الساخن، نفس الطعم، ماء ساخن مُحلى !! ..
لم أجد وسيلة لأصل بها إلى عين شمس سوى نفس وسيلتي، لأنني لو سألت المارة في الشارع لخُيلَ إليَ أنهم جميعاً أغراب عن البلد، وقفت بجوار إشارة مرور لأنتظر الأوتوبيسات القادمة وأسأل أحد راكبيها في تلك الكتلة البشرية المعلقة على الباب؛ حتى أشار لي أحدهم بالصعود، كدت أنفجر ضحكاً، فقصده بالصعود أن أضع قدماً وأتسلل بيد حتى أقبض بها على عامود حديدي قصير، لم يستغرق ذلك ثوان إلا وقد وجدتني أفعلها تلقائياً ..
هاجس غريب لاح بخاطري، وهو ماذا لو انفلت ذلك العامود من جسم الأتوبيس ؟! بالطبع سيُلْقِي بنا جميعاً ! ولكن العالِم بالأحوال موجود، عالَم غريب فنحن المعلقون لم نكن أسوأ حظاً من الجالسين، فلو أني جالس لاضطررت للتأهب للنزول قبل محطتي بمحطتين تقريباً، حتى أستطيع أن أخترق ذلك الحصن البشري، فما بال لو كنت أنثى ؟! لاحْمَرَّ وجهي وكرهت الخروج ..
من حين لآخر كنت أسأل عن محطتي، حتى أشار لي آخر بالنزول، كانت الساعة تعدت الثامنة بقليل عندما وجدت نفسي أمام شباك تقديم الأوراق، كنت الخامس في الطابور، ولم تمضِ نصف ساعة حتى جاء دوري، ولسوء الحظ كانت تنقصني صورة البطاقة، نظرت حولي، الطابور طال وطال، سألت عن مكان للتصوير، قالوا : ( خارج الجامعة .. أعطه الأصل )، فنظرت له، فهز رأسه بالموافقة، على أن يردها لي عند الاستلام في الواحدة، شكرته وانصرفت ..
الساعة قاربت العاشرة .. (ما زال أمامي ثلاث ساعات .. فرصة لأشبع متعتي .. ساعة مواصلات وساعتان للبحث والاختيار من بين الكتب)، مازال يخطر ببالي صورة منزل محمد علي باشا التي كانت بكتاب التاريخ في الإعدادي؛ عندما ترن في أذني كلمة الأزبكية أو سور الأزبكية المكان الوحيد الذي يحتوي على جميع الكتب القديمة ..
لم أشعر بنفسي إلا عندما تصبب العرق مني وانتبهت إلى ذلك العدد من الكتب وكيف سأحمله ؟ اثنا عشرة كتاباً ومجلة في الأدب والنقد ،في الفلسفة والتاريخ وبعض القصص الإنجليزية، لو أني اشتريتها من إحدى المكتبات لكان ثمنها أضعافاً، قاربت الساعة الثانية عشر ولابد لى من العودة، شعرت بعطش شديد، التفتُ حولي باحثاً عن مقهى أو أي مكان لأتناول منه كوب ماء، لاحظت كثيراً من المارة يبطئون خطاهم متجهين برؤوسهم على بعد غير قليل مني، نظرت في نفس الاتجاه ناحية سور الأزبكية، كان قليلون يقفون هناك وكأن على رؤوسهم الطير، عندما اقتربت منهم قال لي أحدهم شيء عجيب بدون أن ينظر لي، ثم أشار ناحية شاب أسمر ملامحه حادة، طويل متسخة ثيابه، وقال أنه خرج من ذلك الخندق الصغير بالحديقة، وقد رآه آخرون وهو يدخل ومعه طفلة صغيرة من حوالي ربع ساعة، ولا أحد يستطيع أن يقترب ليرى ما يحدث بالداخل، تسمرت قدماي وكاد عقلي أن ينفجر.. ماذا أفعل ؟! والوقت يمر وربما لن أستلم إخلاء طرفي ..
قادتني قدماي إلى قسم الشرطة، كان الضابط يبدو عليه الذهول وهو يراني مندفع نحوه حاملاً تلك الكتب، ربما ظن بي الجنون، وبعد تأكيدي له عمَّا حدث؛ أشار إلي عسكري يقف بجواره أن يذهب ليتحرى الأمر، هممت بالإنصراف .. فناداني ثم سرعان ما انفض الجمع حوله وأخذ يعد بعض الأوراق ثم سألني ما اسمك ؟
فأجبت .. طلب بطاقتي ،فحكيت له وأنني سأستلمها في الواحدة، فضحك آمراً أحد الواقفين حوله أن يُفتشني، فلم يعثروا إلا على كارنيه عضوية بجامعة أدبية، أخذه وأخذ الكتب يتفحصها لتصلني سخريته عند كل صفحة في كل كتاب يتصفحه، حتى أودعني الحجز ليتحرى أمري ..
مر وقت طويل .. غفلت فيه عيناي كثيرا، استيقظ لأغفو ثانية، حتى استيقظت أخيراً على لطمة قوية على وجهي ونداء الله أكبر، برقت عيناي وجمدت حركتي، وحمدت الله فكانت اللطمة يد أخي النائم جواري، والله أكبر صوت منبهي !!..
كعادتي ليلة السفر لا أستطيع النوم حتى لو ضبطت المنبه، أجدني أستيقظ قبل موعدي بخمس دقائق، ربما كان القلق، ألقيت بجسدي على المقعد مسنداً رأسي على زجاج النافذة، ورحت في سُبات عميق ولم أشعر بالوقت، حتى لكزني جاري في المقعد قائلاً : ( حمداً لله على السلامة، هتنزل هنا ولا في القُللي ؟ )، هززت رأسي مؤكداً القُللي وشكرته ..
نفس الشعور أحسه بمجرد أن تطأ قدماي أرضها، رغبة ملحة أن أحك أنفي وكأن أصابه عطب مفاجيء بسبب تغير درجة الحرارة المفاجئة له ..
أسرع كعادتي إلى المقهى الصغير ذي المقاعد والطاولات الحديدية الصغيرة المثبتة بالأرضية، أطلب شاي مؤكداً على كوب الماء .. بجوار المقهى دورة مياه صغيرة يجلس على مدخلها نفس المرأة تحمل طفلها الصغير بيد، واليد الأخرى لتتناول بها النقود ما بين خمسة وعشرة قروش، صدقة أم رسم دخول لا أدري !! ربما كانت مقابل نظافة، أبلل وجهي بالماء وأتركه ليجف حتى يهدأ أنفي، أرتشف كوب الشاي الساخن، نفس الطعم، ماء ساخن مُحلى !! ..
لم أجد وسيلة لأصل بها إلى عين شمس سوى نفس وسيلتي، لأنني لو سألت المارة في الشارع لخُيلَ إليَ أنهم جميعاً أغراب عن البلد، وقفت بجوار إشارة مرور لأنتظر الأوتوبيسات القادمة وأسأل أحد راكبيها في تلك الكتلة البشرية المعلقة على الباب؛ حتى أشار لي أحدهم بالصعود، كدت أنفجر ضحكاً، فقصده بالصعود أن أضع قدماً وأتسلل بيد حتى أقبض بها على عامود حديدي قصير، لم يستغرق ذلك ثوان إلا وقد وجدتني أفعلها تلقائياً ..
هاجس غريب لاح بخاطري، وهو ماذا لو انفلت ذلك العامود من جسم الأتوبيس ؟! بالطبع سيُلْقِي بنا جميعاً ! ولكن العالِم بالأحوال موجود، عالَم غريب فنحن المعلقون لم نكن أسوأ حظاً من الجالسين، فلو أني جالس لاضطررت للتأهب للنزول قبل محطتي بمحطتين تقريباً، حتى أستطيع أن أخترق ذلك الحصن البشري، فما بال لو كنت أنثى ؟! لاحْمَرَّ وجهي وكرهت الخروج ..
من حين لآخر كنت أسأل عن محطتي، حتى أشار لي آخر بالنزول، كانت الساعة تعدت الثامنة بقليل عندما وجدت نفسي أمام شباك تقديم الأوراق، كنت الخامس في الطابور، ولم تمضِ نصف ساعة حتى جاء دوري، ولسوء الحظ كانت تنقصني صورة البطاقة، نظرت حولي، الطابور طال وطال، سألت عن مكان للتصوير، قالوا : ( خارج الجامعة .. أعطه الأصل )، فنظرت له، فهز رأسه بالموافقة، على أن يردها لي عند الاستلام في الواحدة، شكرته وانصرفت ..
الساعة قاربت العاشرة .. (ما زال أمامي ثلاث ساعات .. فرصة لأشبع متعتي .. ساعة مواصلات وساعتان للبحث والاختيار من بين الكتب)، مازال يخطر ببالي صورة منزل محمد علي باشا التي كانت بكتاب التاريخ في الإعدادي؛ عندما ترن في أذني كلمة الأزبكية أو سور الأزبكية المكان الوحيد الذي يحتوي على جميع الكتب القديمة ..
لم أشعر بنفسي إلا عندما تصبب العرق مني وانتبهت إلى ذلك العدد من الكتب وكيف سأحمله ؟ اثنا عشرة كتاباً ومجلة في الأدب والنقد ،في الفلسفة والتاريخ وبعض القصص الإنجليزية، لو أني اشتريتها من إحدى المكتبات لكان ثمنها أضعافاً، قاربت الساعة الثانية عشر ولابد لى من العودة، شعرت بعطش شديد، التفتُ حولي باحثاً عن مقهى أو أي مكان لأتناول منه كوب ماء، لاحظت كثيراً من المارة يبطئون خطاهم متجهين برؤوسهم على بعد غير قليل مني، نظرت في نفس الاتجاه ناحية سور الأزبكية، كان قليلون يقفون هناك وكأن على رؤوسهم الطير، عندما اقتربت منهم قال لي أحدهم شيء عجيب بدون أن ينظر لي، ثم أشار ناحية شاب أسمر ملامحه حادة، طويل متسخة ثيابه، وقال أنه خرج من ذلك الخندق الصغير بالحديقة، وقد رآه آخرون وهو يدخل ومعه طفلة صغيرة من حوالي ربع ساعة، ولا أحد يستطيع أن يقترب ليرى ما يحدث بالداخل، تسمرت قدماي وكاد عقلي أن ينفجر.. ماذا أفعل ؟! والوقت يمر وربما لن أستلم إخلاء طرفي ..
قادتني قدماي إلى قسم الشرطة، كان الضابط يبدو عليه الذهول وهو يراني مندفع نحوه حاملاً تلك الكتب، ربما ظن بي الجنون، وبعد تأكيدي له عمَّا حدث؛ أشار إلي عسكري يقف بجواره أن يذهب ليتحرى الأمر، هممت بالإنصراف .. فناداني ثم سرعان ما انفض الجمع حوله وأخذ يعد بعض الأوراق ثم سألني ما اسمك ؟
فأجبت .. طلب بطاقتي ،فحكيت له وأنني سأستلمها في الواحدة، فضحك آمراً أحد الواقفين حوله أن يُفتشني، فلم يعثروا إلا على كارنيه عضوية بجامعة أدبية، أخذه وأخذ الكتب يتفحصها لتصلني سخريته عند كل صفحة في كل كتاب يتصفحه، حتى أودعني الحجز ليتحرى أمري ..
مر وقت طويل .. غفلت فيه عيناي كثيرا، استيقظ لأغفو ثانية، حتى استيقظت أخيراً على لطمة قوية على وجهي ونداء الله أكبر، برقت عيناي وجمدت حركتي، وحمدت الله فكانت اللطمة يد أخي النائم جواري، والله أكبر صوت منبهي !!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق