الخميس، 26 نوفمبر 2009

الرُّكن الشمالي " قصة قصيرة - 1989 "


برغم اختلاف طبائعنا أدمن كلانا الآخر، صرنا شخصاً واحداً، أصبح الناس يعرفونني به ويعرفونه بي .. أخذت عنه بعض الجد وكان من الطبيعي أن يأخذ مني قليل من بساطة الأمور، فأنا في نظره دائماً لا أُبالي الأشياء، وأعتبره أنا يُعطي الأمور أكثر من حقها، فهو على رأي المثل " يعمل من الحبة قبة " ..
حتى كان هذا اليوم، تأخرت عن موعدي معه في الثامنة، كان الجو ممطراً، ترددت في الخروج، إلا نبرة صوته في التليفون كانت توحي بأن شيئاً ما، لم أستطع إلا الخروج له، لم أتوقع ألَّا أجده بمنزله، فمن النادر أن يخرج بمفرده، ذهبت إلى حيث نلتقي، مكتبنا الدائم، هكذا اتفقنا أن نطلق عليه، وهي المقهى، ولم لا ؟ وهو المكان الوحيد الذي يأوينا منذ أن تخرجنا، قارب العامان ونحن نرتاده، حتى النادل نفسه حَفِظَ مكاننا ...
الركن الشمالي دائماً جلستنا، كان من المدهش أنني وجدته بمفرده ينتظرني، القلق يبدو عليه، حدثته فلم يجاوبني الحديث، تذكرت حدة صوته، قررت أن أُفَرِّج عنه، وأنا محتاج من يشاركني همومي، وقع نظري على مجموعة من الطاولات الجديدة فوقها أرفف خشب جانبية ناحية اليمين، تقابلها ثلاثة أرفف محملة بأكواب من جميع الأحجام، ومجموعة الشيشة متراصة بطريقة هندسية تعلن عن مدى نظافة ومستوى الخدمة بالمكتب، أقصد المقهى ..
أخبرته ألم تسمع ما قرره لنا مسئول كبير من أجلنا نحن الخريجين ؟
قال بتهكم : ( ماذا؟! لمَ أسمع ! )، قلت : ( أنه لاحظ أن أعدادنا تتزايد على المقاهي مما يحدث تكدس خاصة أيام العطلات، فاجتمع على الفور مع أصحاب المقاهي الكبيرة والصغيرة على حد سواء بالغرفة التجارية، وأخبرهم أنه توسط لدى برنامج المعونة الأمريكية ليقدموا كافة التسهيلات لتقديم قروض ميسرة بدون فوائد، لشراء ما يستلزمه كل مقهى من عدد جديد من الطاولات والشطرنج والدومينو، حتى يستطيع جذب الشباب ومنعهم من الإنحراف خاصة هذه الأيام، فهم على شفا حفرة من النار)، وأعلن المتواجدون أن هذا قرار جريء وسياسي، ما أن سمع هذا وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجنتيه ولم يعلق، ثم مالبث أن عادت حالة القلق تبدو عليه ..
كانت عيونه زائغة ينظر لجميع الموجودين، سألت : ( ماذا بك ؟! )، حدق فيَّ طويلاً، ثم قال وهو يشير في جميع الإتجاهات بإصبعه : ( تُرى فِيمَ يفكر هذا، وذاك المنزوي هناك ؟! )، ثم استطرد قائلاً : ( اللي بيفكر في مين سيدفع الحساب، والآخر انتهت علبة سجائره وينتظر من سيقذفه بسيجارة، وآخر يُحدث نفسه لِم َ تورطت في هذه الجلسة وبها من لا أطيقه ! .. انظر .. انظر .. هذا نظر فجأة لساقه الممدودة في كبرياء، وتذكر أن حذاءه يناديه " الرحمة "، فتقهقر بقدمه وراء الكرسي حتى يُواريها عن الأنظار كمن يعلن الاستسلام وكأن الجميع رأوه )، أنهى حديثه ثم امتط شفتيه بحزن وهز رأسه وقال : ( هكذا أصبح حال الشباب ) ..
كان النادل قد وضع السحلب والطاولة أمامنا كالعادة، ثم ألقى النرد أيضاً، أشعلت سيجارة ولصديقي أخرى وبدأنا اللعب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق