الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

لعله خير " قصة قصيرة - جدة -2 أغسطس 1990 "


اليوم يشعر أنه قد عانق السماء، وأن العالم بأسره يشاركه فرحته، أخيراً قد صفحت عنه الدنيا واليوم فقط قد حَلَّ الفقر عنه ولم يعد اليأس رفيقه .. يدخل محطة القطار منتشياً مزهواً بنفسه، متأبطاً مظروف كبير، جواز سفره إلى الدنيا الجديدة .. ساعات معدودة وتنتهي الإجراءات، يُحدث نفسه : ( لولا وفاة عمي لانتهت الإجراءات منذ أسبوع .. " لعله خير " .. يتحسس ثيابه الجديدة .. يُضايقه بعض الأتربة على حذائه .. يمسح بيده على شعره، ويعدل من قامته، ويتجه بخطي ثقيلة ناحية شباك التذاكر لينتظر دوره في الطابور الطويل .. يبتسم في نفسه محدثها : ( شيء غريب !! كل هذا الطابور (درجة أولى) ؟! واليوم يزداد راكب جديد وإلى حدٍ ما سيؤثر في رصيد اليوم بالزيادة، بالتأكيد .. يصل إلى الشباك، وبصوت يملؤه الثقة يطلب تذكرة ( درجة أولى )، يشير له الموظف بحركة سريعة قائلاً : ( الشباك الأخير )، يحمر وجهه خجلاً، يحاول إخفاءه وهو ينظر إلى الطابور باستياء قائلاً في نفسه : ( كل منا معرَّض للخطأ ) ..
يصعد عربة القطار، يتفحص وجوه الركاب من حوله، كان هناك على اليمين شخص يعتقد أنه يعرفه من قبل، أكد ذلك نظرات هذا الشخص له، حاول أن يتذكره لكن دون جدوى ..
أسند رأسه إلى نافذة القطار وابتسم داخله متخيلاً لو أنه في الدرجة الثالثة الآن، لكان يعاني من لهيب الشمس، فاليوم بداية شهر أغسطس، جميل ألَّا أشعر بالحر أو البرد أثناء السفر، فهذا وحده كفيل بأن يخفف من مشقة السفر، العام القادم لابد أن أقضي هذا الشهر بالمصيف .. لا.. بل شهور الصيف كلها .. ما أمتع أن تجلس على شاطيء البحر تتنفس الهواء النقي، وستكون هي معي طبعاً .. سيعرف الحاج "سليمان " أنني كنت صادقاً معه حين صارحته أن ما أدخره فقط لزوم السفر، وأنني لم أبخل على ابنته بشيء ..
ثم أنني سأعوضها كل هذا طبعاً .. العام القادم سأوفر لها كل شيء تحتاجه وسيكون عرساً لن تعرفه البلدة من قبل .. ينزل من القطار تدفعه خطواته نحو عربات الباص، ثم يتوقف قائلاً لنفسه : ( ..لا.. لن أتحمل زحام الباص، ثم أن اليوم الخميس ويجب أن أنتهي وإلا تأخرت إلى السبت، سأشير إلى تاكسي، نعم هناك صعوبة لكن بعدها راحة .. سأحاول .. ) ..كانت حركة الناس بدأت تدب في المدينة حين لفت نظره زحام على جانب من الرصيف، سرعان ما تراءى له من بينه صبي صغير قد افترش الأرض من حوله بجرائد ومجلات الصباح، دفعه فضوله أن يعرف ما في الأمر .. اتجه نحو الصبي .. كلما دنا من هذا الجمع ازدادت في أذنه كلمات متشابهة .. التقط جريدة وقلب صفحاتها .. قرأ العناوين بسرعة، ثم التفت حوله قائلاً : ( لا يُعقل !! أهذا معقول ؟!، ماذا أقول للحاج " سليمان" ؟! أسأعود ثانية للناظر ليُسمعني كلمات التوبيخ كل صباح !! ) ما هذا الحر الشديد .. ألا يكفي صوت البائعين ؟! أكاد أختنق .. يتأمل الوجوه من حوله .. يرى نفس الشخص الذي حاول أن يتذكره .. كان يبتسم قائلاً لصديقه : ( سبحان الله، أمس فقط اتصلت لأمد أجازتي أسبوع ! ) سمع تلك الكلمات وقال في نفسه : ( ماذا حالي لو لم يتوفَّ عمي ؟! .. لكنه قدر !! أيستطيع الحاج " سليمان " أن يمنع الوفاة ؟ ) .. !!
جدة 2 أغسطس 1990

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق