السبت، 28 نوفمبر 2009

سكة سفر " قصة قصيرة - 1992 "


بمجرد أن انتهيت من طعام الإفطار وكنت قد ارتديت ملابسي قبله، صليت المغرب وحمدت الله أنني تناولت إفطار أول أيام رمضان مع أهلي بعد أن استأذنت الضابط لمدة " أربع وعشرين " ساعة فقط، كان عليَ أن أقطع المسافة بين بيتنا ومحطة القطار في عشر دقائق، هي الباقية على تحرك القطار في السابعة ...

كان الطريق خالٍ تماماً فيما عدا بعض الذين آثروا الصلاة في المسجد وأمثالي الذين هم في طريقهم للسفر، كانت المحال مغلقة ونوافذ المنازل مضيئة ولا أحد في الشرفات، الهدوء التام وصوت نغمات الملاعق والأطباق الآتية من تلك البيوت الصغيرة جعلني أشعر أن خطواتي بدأت في القِصَر والبطء حتى كأنني سأقف بعد قليل، فأسرعت خطاي حتى لا أتأخر عن موعد القطار، فترامى إلى مسمعي صوت دقات حذائي الثقيل الذي أَحافظ على لمعانه وبريقه، أحسست بفرحة غامرة تنتابني حتى كدت أبتسم وحدي، ربما إحساس بالزهو والفخر أنني صرت جندياً ..

كنت لا أخجل من تلك الملابس الزيتية التي أحرص على كيها، ما زال الطريق خالٍ وحتى أصل في الميعاد كان علي أن أسلك طرق كثيرة معوجة لم تطئها قدماي منذ زمن بعيد حينما كنت صبياً صغيراً أستأجر الدراجات من عم " حسن "..

هناك مررت بفرن العيش وكأنني لأول مرة أراه، فلأول مرة أشاهده دون صفوف البشر المكتظة حول فتحتين صغيرتين بحجم الرأس، إحداها للرجال والأخرى للسيدات، تمنيت لحظتها أن أنتظر لأرى أول قادم يُكَوِّن تلك الكتلة البشرية الممتدة قاطعة الشارع الصغير الضيق، وأرى كيف تبدأ أول مشاجرة حول رغيف العيش، لكنني واصلت السير بدون انقطاع حتى وجدت نفسي أمام المحطة، حمدت الله أنني " قطعت " التذكرة في العصر عندما كنت أسأل على مواعيد القطارات، فقد كان الطابور طويل ممتد هو الآخر وكأنه لن ينتهي، كان الإتفاق مع زميلي " محمد " أن أجلس في آخر عربة حتى لا يبحث عني طويلاً، فلولاه لما ركبت القطار ولاستقليت تاكسي أو أوتوبيس، ولأن المسافة طويلة كان لابد من رفيق للطريق، ثم أنه أقنعني بأننا سنستطيع النوم، وذّكَّرّنِي حين عودتنا بالفرق الكبير بينه وبين أجرة السيارة، ولكنني ذّكَّرْتَه أنه لا فرق إذا أخذنا الدرجة المُكَيَّفة، فضحك قائلاً : ( كلها توصيلة ) ..
تخيرت مقعدي بجوار النافذة حتى أُسَلِّي نفسي بمتابعة أرقام أعمدة الكهرباء أو التليفون لست أدري ؟ وحتى أستطيع أن أراه عندما يأتي، الساعة تعدَّت السابعة بدقائق، فوجئت بها تقف بجانبي، بيضاء نحيفة، شعرها بني مُسْدَل على كتفيها، خضراء العينين، تبدو في نظرتها كطفلة صغيرة، فقط ينقصها أن تحتضن عروس صغيرة، حائرة بحقيبتها السوداء الكبيرة ويبدو أنها ثقيلة، فلم تستطع أن تضعها أسفل المقعد ولا أن ترفعها فوق على الحامل، بدون أن أسألها وضعتها إلى أعلى، فرمقتني بعينيها ببراءة وتحركت شفتاها الصغيرتان بدون أن أسمع لهما صوت، فهززت رأسي أنا الآخر وجَلَسْتُ ُ وجَلَسَتْ بجانبي ..
بدأ القطار في التحرك وشعرت برغبة أن أحادثها ولكني أخجل أن تأبى الحديث، ولن أستطيع الجلوس مكاني طويلاً فالعيون مصوبة إليها من بعيد وقريب وكأنها طير صغير جميل لم يروه من قبل، بَدَأْت أعد الأرقام على الأعمدة وأسابق في العد سرعة القطار التي أخذت تتزايد شيئاً فشيئاً حتى تطايرت خصلات شعرها ولامست وجهي، حاولت أن ألمسها بأصابعي ولكني لم أجرؤ خوفاً ألاَّ تتطاير ثانية ..
بصعوبة استطعت أن ألتقط تلك الكلمات القليلة من تلك العجوز الجالسة أمامي ..
قالت : ( إنت فين في الجيش يا ابني ؟؟ ) ..
لم أرد بسرعة، ماذا أقول ؟! الجيش في الجبل ولن تعرفه، وسيحتاج لشرح وأمامي ما هو أهم، أن أحادث تلك النحيفة البيضاء ذات الشعر البني، وجدت نفسي أقول : ( هناك .. بعيد يا حاجة ) .. قالت لكي لا تنهي الحديث : ( يعني فين ؟ في مصر ؟! ) .. قلت : ( أيوه يا حاجة في مصر ) ..
فعادت تعدل من جلستها ثم قالت : ( تعرف إسماعيل ابني ؟.. ماهو معاكم في الجيش في مصر ) ، لم تعطني الفرصة لأرد، وربما أعفتني من الرد فاستطردت قائلة : ( بس يا عيني عليه بقى له ست جُمع ويومين ! .. أنا عدَّاهم .. كنت فاكراه هيرتاح .. ويقعد يِفَلَّح معايا في الأرض زي ما قال البيه الكبير .. بيه من بتوع زمان .. رحت له علشان يساعد ابني، طلب بنت بنتي تشتغل عند ناس قرايبه أكابر هناك، وقاللي هيريحوا إسماعيل ويعملوا له أبصر إيه .. قام ابني قاللي وديها يامَّه، أهي تنفعنا هي بتعمل إيه ؟.. ومن ساعتها يا ابني ولا حس !! .. خليت البيه لما جه البلد ورحت له إداني ورقة وقاللي روحي العنوان ده في مصر، هتلاقي البنت هناك .. وياريتني ما سمعت كلامه يا بني .. رحت .. لا لقيت بنت ولا ست ! ولقيت جوز رجاله قاعدين يلاوعوا فِيَّ، وبعدين قالوا لي البنت طفشت .. طب وهتروح فين يا ولاد هي تعرف حاجة في مصر؟! دي يتيمة بنت اتناشر سنة .. رجعت للبيه زعقت له وقلت له هاشكيك للعمدة، قام ضحك واداني العنوان ده يا بني، وأهو ربنا موجود )، وأخرجت منديل وأخذت تمسح دموعها ثم سألتني : ( هو اللي بيموت في مصر مش الحكومة بتعرف برضه ؟! ) .. 
ولم تنتظر رد، فوجدتها تعدل من جلستها وكأننا وصلنا ولا يزال أمامنا أكثر من ساعة، التفت بجانبي بهدوء، ربما تبتسم أو تتمتم بشفتيها، ولكنها كانت قد أغمضت عينيها وراحت في نوم عميق، فبدت رموشها كسهام تحذر من يقترب أو ينظر إليها وكأنها في حلم جميل ..
عدت أسابق القطار في عد الأرقام على الأعمدة وأتعمد ألَّا أتحرك حتى لا تستيقظ، فقد التصق كتفي بكتفها ودنا أكثر كلما زاد القطار من سرعته، وتطايرت خصلات شعرها تداعب وجهي ثم تختفي حين تتعالى أصوات الباعة، ومازالت العجوز بين الحين والآخر تلوي شفتيها قائلة : ( يعني ما شفتش إسماعيل خالص ؟! دا هُوَا معاك في الجيش !! سايقة عليك النبي يا بني ما تجيب له سيره لما تشوفه ) ..

شيء غريب !! لم يكن هناك سوى خمس دقائق ونصل حين اسْتَيْقَظَتْ فجأة تلك النحيفة البيضاء وكأنها لم تكن نائمة ولم تكن تحلم، ثم عَملت يديها في شعرها وتوقف القطار، أنزلتُ حقيبتها فابتسمت حتى تحركت وجنتاها وتمتمت بكلمات غير مسموعة مشيرة بيدها من النافذة للواقف هناك ، ثم رمقتني بنظرة خاطفة كمن نسيت شيئاً، وما زالت العجوز تردد : ( سايقة عليك النبي ما تجيب له سيرة لما تشوفه ) !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق