الجمعة، 4 ديسمبر 2009

لدغة الخوف " قصة قصيرة - 1991 "


وَثَبْتُ من نومي فزعاً، كانت القطرات تتساقط على وجهي ورأسي كطلقات الرصاص، لكنها لم تفزع أحداً غيري، تَلَفَّتُ يميناً ويسارًا لم يصحُ أحد، لم أرَ سوى تلك الفئران القذرة، كعادتها تغدو وتروح في دأب باحثة عن كسرة خبز، اعتدت رؤيتهم حولي، أحياناً كنت أشفقُ عليهم .. ولمَ لا ؟! هذه وسيلتهم للعيش، خاصة عندما ينتابني الجوع في الليل فلا أجد حتى تلك الكسرة من الخبز، حينها أفقد رؤيتهم حولي، عدت أنظر يميناً ويساراً للأموات النائمين كأهل الكهف، ربما أنهكهم التعب من عمل اليوم فلم يشعروا بَعْدْ بغزارة المطر المتساقط من بين أعواد الغاب وسيقان الشجر وأكياس النايلون الممزقة التي تغطي سقف العنبر .. " الملجأ " فهكذا يسمونه، بظنهم ستحميهم من المطر، تلك الجدران الطينية وأعواد القش المتساقط من المراتب، يذكرني بحظائر المواشي، حتى هي الآن تطورت، أصبحوا يولونها قسطاً من الرعاية والنظافة، حتى لا تصاب أبقارهم وأغنامهم بالمرض ...
منذ أيام مرض أحدٌ، زميل لنا، جندي مثلنا، إنسان مثلهم، رفضوا أن يذهب للمستشفى، لم يصدقوه، كان يتلوى في فراشه كالطير المذبوح، سقط فجأة من بيننا أثناء العمل، مر يوم ويومان .. يصرخ .. يتأوه حتى شحب وجهه، سمحوا له بالذهاب، اصطحبناه معنا في السيارة .. ما أن رآه الدكتور صرخ 
في وجهنا : ( كيف تركتموه حتى هذا اليوم ؟ كان ممكن علاجه .. أصيب بتليف كبدي) .. أصابنا الوجوم والحزن، توقعنا أن تهتز الكتيبة، أن يهتموا أو حتى ينزعجوا، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، عدنا فاستكملنا خلط الماء بالإسمنت لنتم بناء المكتب لسيادته، حتى انتهينا من نقل الأثاث وفرش النوم، فقط اليوم ..
ما زال المطر يتساقط ولم يعد في الليل سوى ساعات قليلة ولابد لي من النوم، كانت هناك مظلة من الخشب أمام المكتب، سأذهب وأفترش بطانية على الأرض وألتحف بالأخرى، أسرعت بحذر حتى لا تنزلق قدماي فأغوص في الوحل، كانت الأرض أسمنتية جافة، تخيرت " على ضوء المصباح الصغير الذي يعلو الباب بقليل " مكان مستوٍ، لم أكد أنام ولم تمضِ بضع دقائق حتى لمحته، غليظاً طويلاً بطول ذراعين، يتحرك نحوي، تجمد الدم في عروقي، شعرت بغزارة العرق برغم برودة الجو ، تمنيت لو لم أبرح مكاني وأتحمل المطر، فكرت أن أقف بحذر وأضغط عليه بكلتا قدماي، بحذائي الثقيل الذي لا أخلعه في النوم، خشيت الفشل فربما يشعر بحركتي ويكون أسرع مني، فجأة انحرف سيره متجهاً ببطء إلى الباب، دنا منه، راحت رأسه تعمل بحركة خفيفة لأسفل الباب، ولم تمض ثوان حتى تسلل فاختفى عن آخره، نهضت من يقظتي كمن أصابه مَسْ، لا أعرف ماذا أفعل، فسيادته نائم بالداخل، وجندي حراسة المكتب غير موجود، فكرة غريبة لاحت بخاطري، طافت بعقلي، راودتني حتى تمكنت مني، أن أتركه وليكن ما يكون، لكن المشكلة الآن أنني لا أستطيع النوم، اقترب الفجر من البزوغ، قررت أن أطرد تلك الفكرة الشيطانية وأتناسى ما فعله بنا، لذا طرقت الباب بشدة بكلتا يدي بل وبقدمي، ثم ما لبث أن طرقت نافذة غرفته، سمعت حركة بالداخل، أصوات مضطربة مرتبكة .. زجاج يتكسر .. مقاعد تتناثر .. وانفتح الباب ثم انغلق .. وابتعدت قليلاً فابتسمت في نفسي، وكتمت أنفاسي حتى لا تتعالى ضحكاتي، كان وجهه كالطفل الصغير، تلحف ببطانية وسار وأنا معه حتى مبيت الضابط النوبتجي الذي كان نائماً هو الآخر، سمع هو ما حدث فأرسل جنديين ليفتكا بهذا الثعبان المزعج، تعجب الضابط أن يظهر الثعبان في هذا البرد والمطر، فجأة نظر سيادته إليَ بدهشة وانهال عليَ بأسئلته، لِمَ نمت أمام المكتب ؟! ولِمَ لَمْ تقتل الثعبان بنفسك ؟ لكنه لم ينتظر جواب كأنه أراد فقط أن يبث فيَ الرعب الذي ملأه، ثم ما لبث أن حدق في طويلاً ثم شكرني وانصرفت ..

هناك تعليقان (2):

  1. .... قصة جميلة جدا .. وأسلوب ممتاز يذكرنى بأسلوب الكاتب الكبير يوسف أدريس .. تحياتي لك أستاذ علاء العبد .........

    ردحذف
  2. لست أديبأً أو ناقض أدبى .. لكن القصة كأنها فيلم قصير . شعرت أننى أرى الأحداث والأشخاص وكأنى أصبحت فجأة داخل العنبر ..

    ردحذف