الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

حكايتي مع مدام شلاطة " قصة قصيرة - 2009 "



ما أن وقعت عينا خالي على الجريدة حتى أشار إليها متسائلاً عمن يقرأها ؟! كدت أن أجيبه خاصة أن والدي الجالس قبالته رمقني بنظرة مبتسماً .. ولكن خالي ما لبث أن استطرد حديثه واصفاً الجريدة بأنها مضللة، وكلها افتراءات وكذب وتصفية حسابات من أعداء الثورة، ويجب ألا يقرأها من هم في مثل سني ناظراً إلى أبي وكأن لسان حاله يقول له "كيف تتركه يقرأ تلك الجريدة" ؟! ولكن أبي كعادته كان قليل الكلام .. وكنا نفهمه من مجرد نظرة أو ابتسامة .. وكان ذلك يعني أنه موافق على ما أفعل، أو كان منتظراً سماع ردي .. الغريب في الأمر أنني لم أكن أقرأ من تلك الجريدة إلا صفحة واحدة .. كنت رأيتها في يد صديقي "إيهاب" الذي يعرف أني أتوق لتلك الصفحات الأدبية وهي صفحة مدام شلاطة .. رواية أدبية شَدَّني اسمُها .. خاصة أنه كان لي صديق في المرحلة الابتدائية يحمل نفس اللقب .. المهم أني ترددت كثيراً وكدت أن أخبره بحقيقة وسبب شرائي لتلك الجريدة .. ولكني تراجعت ربما شعرت بخجل خاصة أمام والدي الذي كان بعكس الجميع يشجعني على القراءة حتى يوم أن اكتشف إخوتي كشكول المدرسة المخبأ أسفل السرير، والذي كتبت به أول تجربة لي وكانوا يضحكون ويقرأون بعض الأسطر ويسخرون منها .. سمعت والدي الذي كان لتوه استيقظ من النوم وأمسك بالكشكول وأعاده إليَ وحذرهم من فعل ذلك ثانية .. ولكنني لم أستطع الكتابة بعدها ..

الغريب أنني لم أتعدَّ المرحلة الإعدادية في ذلك الوقت، ولا أذكر أنني كنت قد قرأت شيء ما دفعني للكتابة، ولكنها الفكرة .. فكرة القصة التي لاحت لي ولم أجد أحداً أسأله عنها، ربما حاولت إجابة نفسي بالكتابة .. ثم انقطعت بعد ذلك حتى المرحلة الثانوية، وكانت العودة مع مدام شلاطة .. لم يكن من طبيعتي أن أتقبل كلام بسهولة وبدون مناقشة ودليل وبقناعة مني .. وربما في تلك الفترة بالذات .. ولم يكن لدي معرفة وقراءة جيدة، فوجدت نفسي مباشرة أسأل خالي متعجباً إذا كان ما يقوله صحيح عن تلك الجريدة، فهل من المعقول أن تظل تكتب أسبوعياً تلك الموضوعات بدون أن يحاسبك أحد، أو ينكر وينفي ؟! بالطبع كان هناك ردود منه، ولكن صممت أُذني وتركزت فكرة واحدة لدي، أن لا تقتصر قراءتي على صفحة مدام شلاطة .. وكانت تلك البداية .. من جريدة لأخرى ثم من كتاب لكتاب، ولم أفوت فرصة الاستماع لحديث أمامي إلا وأشارك فيه .. وكنت أشعر بزهو وفرحة غامرة حين يؤَيَّد كلامي أو وجهة نظري ممن هم أكبر مني سناً، مما يدفعني للمزيد والمزيد من القراءة .. لم أنتبه وأنا أحكي لابني الأكبر وأحثه على القراءة أن ابني الصغير كان يسمع إلا حين فاجأني بسؤاله : ( يعني إيه شلاطة ؟! .. يعني شاطرة ؟!) .. ابتسمت وجاوبته.. ( هي فعلا ً كانت شاطرة ) ..

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

حدث بعد منتصف الليل " قصة قصيرة - 1992"



شيء ما يؤرقها ويمنعها من النوم .. تشعر باختناق .. بضيق في صدرها .. لا تدري ما السبب .. لم تعد تستطيع مذاكرة دروسها .. كلما داعب النوم جفونها، هرعت فرحة إلى فراشها كطفل خائف يرتمي في أحضان أمه .. لكن هيهات فسرعان ما يعاودها نفس الشعور .. فلم تعتاد أن تعيش بمفردها .. لا تدري إن كان والداها على حق أم لا ؟! فقد أصرا أن تدرس السنة الأخيرة من مرحلة الثانوي في بلدها حتى لا يكون هناك عقبات عند التحاقها بالجامعة، لكن أكان يجب عليهم أن يرافقوها أم يكتفون برعاية جدتها لها وما يرسلونه من نقود وحقائب ملابس ؟! تسأل نفسها ولا تجد إجابة !! أغلقت نافذة شرفتها ثم هوت إلى فراشها قابضة بكلتا يديها على رأسها .. أمسكت بعلبة الأقراص المهدئة التي أعطتها لها صديقتها وهمَّت أن تتناول منها ولكنها تراجعت بسرعة .. لا تعرف لِمَ أخذتها منها ! ربما لأنها صديقتها الوحيدة .. أو أقرب الزميلات إليها .. فسنوات سفرها الماضية أفقدتها كثير من صديقات الطفولة .. فكرت أن تكتب لوالدها لعل في هذه المرة يلبون رجاءها .. لكن سرعان ما تلاشت الفكرة من رأسها .. فقد يئست من هذه المحاولة .. نظرت إلى التليفون بجوارها .. فكرت فيمن تتصل به لتؤنس وحشتها في هذا الليل الكئيب علها تخلد للنوم .. تذكرت أن الساعة تجاوزت الثانية عشر بقليل والوقت لم يعد مناسب .. السكون يخيم على أرجاء المنزل، لا يقطعه سوى صوت جدتها النائمة عند كل شهيق وزفير .. حتى أن برامج التليفزيون لم تعد مسلية وربما انتهت الآن .. شعرت بغربة لم تلمسها في غربتها ..

تذكرت عندما كانت في زيارة عمتها الخميس الماضي، عندما ضحك عليها بنات عمتها حين احمر وجهها خجلاً لسماع أخيهم يتحدث عن مغامراته في التليفون ..أحست بفكرة شيطانية تراودها .. ترددت أن تفعلها .. كانت تسمع كثيراً من زميلاتها في المدرسة عن ذلك ويضحكن بلا مبالاة .. لم تتصور يوماً أن تفعل هذا أبداً .. شعرت برغبة ملحة عليها لأن تجرب .. ولمَ لا ؟ فلن يعرف أحد .. هكذا حدثت نفسها .. أدارت قرص الأرقام عابثة وسرعان ما سمعت رنين تليفون الطرف الآخر .. وانتابها خوف واضطربت دقات قلبها ولم تعرف ماذا تقول ؟!

- ألو .. ألو .. هانتظر دقيقة وأضع السماعة .. قالها بصوت حاد ..

وسرعان ما تمالكت نفسها ودار بينهما حديث طويل .. صارحته كيف اتصلت به .. عرفت عنه كل شيء تقريباً .. يعيش مع زوجة أبيه، فوالده دائماً مشغول عنه .. ربما لا يعرف في أي كلية أو أي سنة دراسية .. اتفقا أن يكونا صديقين .. لكن في التليفون فقط .. هكذا قالت له .. وعدته أن تتصل هي به بعد أن رفضت أن تعطيه رقم تليفونها .. لم ينته الحديث إلا حين سمعت صوت جدتها تقوم لتصلي الفجر .. خجلت من نفسها حين سمعت صوت الآذان .. تذكرت أنها لم تعد تصلي .. أصوات تتصارع داخلها .. تقنع نفسها أن ما فعلته ليس خطأ .. ولكنها توقن أنه ليس صواب ..

كانت المرة الثانية .. لا تدري كيف أدارت قرص الأرقام ولم ينتابها الخوف هذه المرة التي سمعت فيها جدتها كل الحوار .. اندهشت لما أصابها من تغيير .. حاولت أن تردعها عن فعلتها، فهددتها أن تخبر والدها، ولكنها لا تقوى على ذلك فهي تعرف كم هو قاسي .. لذا أرسلت لوالدتها .. فأرسلت الوالدة لابنتها ترجوها أن تكف عن عبثها وتعدها بالحضور في أجازة نصف العام .. لكنها لم تبالي .. ولم يعد يكفي التليفون .. قررا أن يلتقيا ليرى كل منهما الصورة التي رسمها للآخر في خياله .. انتظرها بسيارة أبيه الفاخرة .. انطلقا معاً .. أخبرها أنه قد تأخر عن موعد والده ويجب أن يعود .. ألحت عليه أن يبقى فكم تحب لحظة الغروب .. لمحت أحد أقاربها .. أخبرته .. انطلق بالسيارة مسرعاً .. اصطدم فانقلبت السيارة .. لم تعد تتذكر شيء ..أرسلوا لوالدها .. فوعدهم بالحضور ، فمشاكل العمل كثيرة ..

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

الدقائق الأخيرة " قصة قصيرة - 1990 "


لم يعد هناك ثمة عقبة أمامي .. أمام حبي .. لم يعد سوى ساعات ليولد حبي .. فمع طلوع هذا الفجر لم أعد طالباً .. ومع بزوغ هذا الفجر ستشرق أحلامي وترى الدنيا نورها في كل مكان .. عقارب الساعة تدق كصوت يد حنون تربت على كتفي تطمئني .. أنظر إليها في صمت .. أراها كأيام الماضي اللعينة .. تلوح لي بالرحيل .. لا أتحرك فقط أنظر إليها .. ربما لو شكرتها أو ودعتها عادت من جديد .. فهي لم تفهمني .. وربما لم أفهمها .. المهم أنها عذبتني حتى تمر .. ثانية ثانية .. النوم عاد يداعبني .. عيناي تتحديان .. أرتشف مزيد من قهوتي فهي وسيلتي للسهر .. إنها أيضاً لم تعد تتكفى .. لقد اعتدتها أيام حبي الأول .. ماهذا ؟! .. إني أتثاءب .. عيناي تكاد تغفلان .. قد أغفلت .. ها  قد ظهرت أنوار الفجر .. ها قد نجحت لم أعد طالباً .. لم يعد أمامي سوى خطوة واحدة .. سأخطو .. سأخطو بحذر .. ليولد حبي .. نعم .. سيولد .. لم تعد ولادة عسرة هاتفي ليسارعوا الحضور .. كانت الطريق بيني وبين حبي لا تتجاوز ساعتين .. عقارب الساعة من جديد عادت تلوح لي .. تهددني بالنظر إليها .. أكاد أصرخ .. أغمض عيني لعل الوقت يمضي .. لا أستطيع ..
ها قد وصلت .. قدماي تهرولان .. ما هذا ؟!
خطواتي غير مستقيمة .. دقات قلبي تكاد تزعج من حولي .. إنهم ينظرون لي .. وقفت أشعل سيجارة .. ربما أستعيد هدأتي .. ربما .. وصلت هناك .. إلى محرابي .. الذي طالما حلمت بدخوله .. كثيراً ما طفت حوله ..
أتأمل ملاكي فيه .. ما أروع تلك اللحظات !! أستشف الحياة من نظراته .. من خلال ستارة الوردي أعيد النظر له .. أرى ابتسامة صُبح يشرق لي .. ما هذا ؟! أليس هذا مكانها .. طريقها .. أسأل قلبي .. كفاك دق .. أخبرني ؟ هذه رائحة عطرها ؟ كيف ؟! كيف لي أن أنساها ؟! لا .. لا .. لكن ما هذا ؟! إنه ليس بمحرابي ! إنه بقايا .. قديم .. أطلال .. كيف ذهبت ؟! أين ذهبت ؟! فقد وعدتني بالانتظار .. إذن أحبتني .. نعم لم أبُح ولم تَبُح .. هل نسيتني ؟! لا .. ربما أوهمتني حباً .. ربما منحتني عطفاً .. لا .. ستعود .. ربما مع الغروب فهي كالشمس .. سأنتظر حتى الغد .. كي أرى وسترون، ألا تصدقون ؟! ما بك تحدث نفسك هكذا ؟!
يتراءى لي ما يشبهها .. إنها مثلها تماماً .. لكن ليست هي .. تلك .. نعم جميلة .. لكن ملاكي جذاب .. زهرة يانعة .. تلك ذابلة .. إنها تسير بجوار آدمي .. لا .. ليست ملاكي .. إنها تنظر لي .. تحملق في .. إنها تقترب مني .. ما زالت تحملق في عيناي .. إنها أمامي .. تبتسم .. تطلب السماح .. إنها هي .. إنها صبراً مللتني .. نعم سئمت الانتظار .. هل يضيع حبي ..
هل أنسى نفسي .. تذهب روحي .. آه ..آه ..
إن أهلي ينتظرون هاتفي .. ماذا أفعل ؟!
سأنتظر .. إنها لي .. أشعر بيد حنون تربت على كتفي .. تنادي اسمي ..
إنها أمي ..
توقظني من النوم .. حمداً لله .. إنه حلم .. حلم جديد .. تخبرني بنجاحي .. أصرخ فرحاً .. أقبل يداها .. أتناسى الحلم ..

حالة طواريء " قصة قصيرة - 1991 "


كان يجلس على مقعد قريب من التليفزيون، كما اعتاد ذلك منذ أن ضعف بصره .. بينما تجلس هي في المقعد المواجه له .. ويحتل أولادهما الثلاثة الضلع المقابل للتليفزيون ينظرون لوالدهم ليروا ماذا سينتج بعد أن صمت طويلاً وقطب حاجبيه .. كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساءاً في يوم الثلاثاء من شهر يناير عندما تم إعلان حالة الطواريء القصوى والقيام بحملة نظافة وتجديد شاملة .. هذا كله بمنزل " سيد " افندي .. ومن الطبيعي أن يكون السبب أمر هام يؤثر على مُجريات الأمور على مجتمع " سيد " افندي وخاصة على الخطط ( الاقتصادية ) التي وعدهم بها للإصلاح .. لذلك فهو يسمع لجميع الآراء والاقتراحات في جو يسوده الديموقراطية، ولأن " سيد " افندي يمنحها قليلاً كان لابد لها من منظم .. وهي حالة الطواريء حتى لا يسود المنزل نوع من الفوضى والاضطراب .. الساعات تمر والكل يعمل كخلية نحل .. الجميع يعرفون نوع عمل كل منهم .. فالأخت الصغيرة تقوم بتنظيف المنزل من الأرض حتى السقف، واقفة على كرسي تحمل عصا طويلة ينتهي أعلاها ببعض الريش القصير .. تحدث نفسها مازال هناك بعض العناكب التي تسللت في غفلة إلى هناك في الركن الأيمن .. متمنية هي الأخرى لو أنها قد أنهت دراستها .. حتى الأخ الوحيد يقوم بمساعدة والدته على مضض في فك ما استعصى عليها من صناديق معبأة بحاجيات طال انتظار استعمالها .. ما كاد ينفتح الصندوق حتى فاحت منه رائحة النفثالين المعتقة فتثير دهشته ويسأل أمه عن هذه الأشياء، فتخبره أنها موجودة وهو عمر سنتين .. يدق جرس الباب .. يدخل " سيد " افندي محملاً بمجموعة من الأكياس وعلب الكرتون .. كانت قد أوصته بها " أم أحمد " قائلة ربنا يطول عمرك ! يتوقف الجميع في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. تتفقد لجنة من الأم والأخت الصغيرة جميع محتويات المنزل .. تطول وقفتهم عند حجرة الجلوس .. ينظرون برضا إليها .. يرون الستائر كأنها تزغرد .. لا يدرون من الفرحة أم للإفراج عنها بعد قضاء المدة .. يتفقدون المقاعد .. ينظرون إلى الإضاءة بعد أن استكملوا المصابيح الناقصة .. الحجرة تبدو أكثر اتساعاً بعدما نقل أحمد سريره ومكتبه .. تسأل الأم عنها .. تنادي الأخت الصغيرة عليها وتجيب على نفسها : " لابد أنها ما زالت هائمة كعادتها " .. رائحة شيء يحترق .. الرائحة تزداد .. يسرعون إلى حجرة النوم .. كما قالت أختها .. يجدونها تقف بدلال أمام المرآة .. ينظرون إلى اليسار .. يجدون المكواة قد أطبقت على الفستان الأحمر الدانتيل فأحرقت طرفه .. ينهرونها .. ماذا نفعل ؟! ليس فستانها .. يحاولون إنقاذه بدون جدوى .. يستيقظون في الصباح الباكر ليتدبروا الأمر .. الساعة تعلن الواحدة ظهراً .. جرس التليفون يدق .. يقوم " سيد " افندي ببطء ليرفع السماعة .. أهلاً وسهلاً .. خيراً .. لا آسف ولا حاجة .. يعود الأب .. الكل يبدو أنهم فهموا ماذا تعنيه المكالمة .. تسأله " أم أحمد " .. فيجيب ( يعتذرون عن الحضور وسوف يخبروننا بموعد الزيارة القادمة ) .. يعود الوضع إلى ما كان عليه ..

الأحد، 6 ديسمبر 2009

عودة الغائب " قصة قصيرة - 1991 "


لحظات كئيبة، تلك اللحظات التي ينفض فيها جيرانها وأقاربها عنها، فالظلام قد أسدل ستائره حول قرص الشمس معلناً قد حان ليلٌ جديدٌ .. أشعلت جدتي ( أو هكذا كان الجميع ينادونها ) المصباح الكيروسين، تركها الجميع، ثم خرجت أنا وأمي أخيراً .. كانت تستأنس بجلوسنا معها، وكنت أستأنس بجدتي هذه أكثر، أرى فيها إرادة وصبر، أتعلم منها، فهي ينبوع التجارب والحكمة ..
 كانت عجوز، طيبة القلب، لذلك كان أهل القرية جميعهم يُلبُّون حاجاتها عن طيب خاطر، تعيش بمفردها في دارها الصغير، كل ما يشغلها هو تجهيز ما ستبيعه غداً وما يحتاج إليه أطفال القرية لكي تشتريه لهم .. فمنذ أن رحل زوجها عم " أبو أحمد " منذ أعوام وهي على هذه الحال، فقد حزن على ولده " أحمد "، وحيدهما الذي تأخرت رسائله عنهما بعد قيام الحرب بعامين، كان قد ذهب مثل أقرانه بالقرية للعمل بالعراق، ليحقق حلمه وحلم والده، يبني لهم الدار الصغيرة بالطوب المحروق والحديد المسلح، يفتح دكانه بالدار، يتحايل بها على قوته اليومي .. ظنَّا أنه استشهد في الحرب، وإن لم يكن ذلك صحيحاً فَلِمَ عاد صديقه " حسين " ولم يعد هو ؟! 
توضأت، أتمت صلاة العشاء، تمتمت ببعض آيات القرآن، تأكدت أن الأبواب موصدة جيداً، برغم حالها هذا كانت تعتقد أنه من الممكن أن يقتحم دارها أحد اللصوص، ويقتنص أكياس الملبس والفول واللب وبعض البالونات، ولم يكن هؤلاء اللصوص سوى الأطفال الذين اعتادوا معاكستها، بدأت عيناها تغفل، سمعت بعض الأصوات تقترب ناحية باب دارها، انتبهت، كأن يداً تنبش بأوراق، تُحْدِثُ صوتاً أقرب لحفيف الأشجار في أيام الخريف، صوت أنين، كأنه جريح يشكو من ألم، تذكرت ولدها .. دمعت عيناها، ربما وحيدها قد أتى، تشجعت، جففت دموعها، أمسكت بعصاها الغليظ، قد يكون أحد اللصوص، اقتربت من الباب في بطء .. من بالخارج ؟! لم يرد أحد، فتحت الباب بسرعة، لم ترَ أحد ، شيء ما قد ولج بالداخل مسرعاً، طاف بأنحائه في فرحة، ينزف دماً من ساقه، جسده مبلل وملطخ بالطين، كأن هناك من يطارده وفاجأه المطر في الطريق، لم تُصدِّق نفسها، أغلقت الباب، أحضرت له إناء من الماء وغطاءه القديم، شرب .. نام .. هز ذيله في فرح .. لم يَعُدْ لها سواه، كانت قد افتقدته منذ ثلاثة أيام، حتى ها هو الآن، ربتت بيدها على جسده، نبح معلناً أسفه ..

الجمعة، 4 ديسمبر 2009

لدغة الخوف " قصة قصيرة - 1991 "


وَثَبْتُ من نومي فزعاً، كانت القطرات تتساقط على وجهي ورأسي كطلقات الرصاص، لكنها لم تفزع أحداً غيري، تَلَفَّتُ يميناً ويسارًا لم يصحُ أحد، لم أرَ سوى تلك الفئران القذرة، كعادتها تغدو وتروح في دأب باحثة عن كسرة خبز، اعتدت رؤيتهم حولي، أحياناً كنت أشفقُ عليهم .. ولمَ لا ؟! هذه وسيلتهم للعيش، خاصة عندما ينتابني الجوع في الليل فلا أجد حتى تلك الكسرة من الخبز، حينها أفقد رؤيتهم حولي، عدت أنظر يميناً ويساراً للأموات النائمين كأهل الكهف، ربما أنهكهم التعب من عمل اليوم فلم يشعروا بَعْدْ بغزارة المطر المتساقط من بين أعواد الغاب وسيقان الشجر وأكياس النايلون الممزقة التي تغطي سقف العنبر .. " الملجأ " فهكذا يسمونه، بظنهم ستحميهم من المطر، تلك الجدران الطينية وأعواد القش المتساقط من المراتب، يذكرني بحظائر المواشي، حتى هي الآن تطورت، أصبحوا يولونها قسطاً من الرعاية والنظافة، حتى لا تصاب أبقارهم وأغنامهم بالمرض ...
منذ أيام مرض أحدٌ، زميل لنا، جندي مثلنا، إنسان مثلهم، رفضوا أن يذهب للمستشفى، لم يصدقوه، كان يتلوى في فراشه كالطير المذبوح، سقط فجأة من بيننا أثناء العمل، مر يوم ويومان .. يصرخ .. يتأوه حتى شحب وجهه، سمحوا له بالذهاب، اصطحبناه معنا في السيارة .. ما أن رآه الدكتور صرخ 
في وجهنا : ( كيف تركتموه حتى هذا اليوم ؟ كان ممكن علاجه .. أصيب بتليف كبدي) .. أصابنا الوجوم والحزن، توقعنا أن تهتز الكتيبة، أن يهتموا أو حتى ينزعجوا، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، عدنا فاستكملنا خلط الماء بالإسمنت لنتم بناء المكتب لسيادته، حتى انتهينا من نقل الأثاث وفرش النوم، فقط اليوم ..
ما زال المطر يتساقط ولم يعد في الليل سوى ساعات قليلة ولابد لي من النوم، كانت هناك مظلة من الخشب أمام المكتب، سأذهب وأفترش بطانية على الأرض وألتحف بالأخرى، أسرعت بحذر حتى لا تنزلق قدماي فأغوص في الوحل، كانت الأرض أسمنتية جافة، تخيرت " على ضوء المصباح الصغير الذي يعلو الباب بقليل " مكان مستوٍ، لم أكد أنام ولم تمضِ بضع دقائق حتى لمحته، غليظاً طويلاً بطول ذراعين، يتحرك نحوي، تجمد الدم في عروقي، شعرت بغزارة العرق برغم برودة الجو ، تمنيت لو لم أبرح مكاني وأتحمل المطر، فكرت أن أقف بحذر وأضغط عليه بكلتا قدماي، بحذائي الثقيل الذي لا أخلعه في النوم، خشيت الفشل فربما يشعر بحركتي ويكون أسرع مني، فجأة انحرف سيره متجهاً ببطء إلى الباب، دنا منه، راحت رأسه تعمل بحركة خفيفة لأسفل الباب، ولم تمض ثوان حتى تسلل فاختفى عن آخره، نهضت من يقظتي كمن أصابه مَسْ، لا أعرف ماذا أفعل، فسيادته نائم بالداخل، وجندي حراسة المكتب غير موجود، فكرة غريبة لاحت بخاطري، طافت بعقلي، راودتني حتى تمكنت مني، أن أتركه وليكن ما يكون، لكن المشكلة الآن أنني لا أستطيع النوم، اقترب الفجر من البزوغ، قررت أن أطرد تلك الفكرة الشيطانية وأتناسى ما فعله بنا، لذا طرقت الباب بشدة بكلتا يدي بل وبقدمي، ثم ما لبث أن طرقت نافذة غرفته، سمعت حركة بالداخل، أصوات مضطربة مرتبكة .. زجاج يتكسر .. مقاعد تتناثر .. وانفتح الباب ثم انغلق .. وابتعدت قليلاً فابتسمت في نفسي، وكتمت أنفاسي حتى لا تتعالى ضحكاتي، كان وجهه كالطفل الصغير، تلحف ببطانية وسار وأنا معه حتى مبيت الضابط النوبتجي الذي كان نائماً هو الآخر، سمع هو ما حدث فأرسل جنديين ليفتكا بهذا الثعبان المزعج، تعجب الضابط أن يظهر الثعبان في هذا البرد والمطر، فجأة نظر سيادته إليَ بدهشة وانهال عليَ بأسئلته، لِمَ نمت أمام المكتب ؟! ولِمَ لَمْ تقتل الثعبان بنفسك ؟ لكنه لم ينتظر جواب كأنه أراد فقط أن يبث فيَ الرعب الذي ملأه، ثم ما لبث أن حدق في طويلاً ثم شكرني وانصرفت ..

السبت، 28 نوفمبر 2009

سكة سفر " قصة قصيرة - 1992 "


بمجرد أن انتهيت من طعام الإفطار وكنت قد ارتديت ملابسي قبله، صليت المغرب وحمدت الله أنني تناولت إفطار أول أيام رمضان مع أهلي بعد أن استأذنت الضابط لمدة " أربع وعشرين " ساعة فقط، كان عليَ أن أقطع المسافة بين بيتنا ومحطة القطار في عشر دقائق، هي الباقية على تحرك القطار في السابعة ...

كان الطريق خالٍ تماماً فيما عدا بعض الذين آثروا الصلاة في المسجد وأمثالي الذين هم في طريقهم للسفر، كانت المحال مغلقة ونوافذ المنازل مضيئة ولا أحد في الشرفات، الهدوء التام وصوت نغمات الملاعق والأطباق الآتية من تلك البيوت الصغيرة جعلني أشعر أن خطواتي بدأت في القِصَر والبطء حتى كأنني سأقف بعد قليل، فأسرعت خطاي حتى لا أتأخر عن موعد القطار، فترامى إلى مسمعي صوت دقات حذائي الثقيل الذي أَحافظ على لمعانه وبريقه، أحسست بفرحة غامرة تنتابني حتى كدت أبتسم وحدي، ربما إحساس بالزهو والفخر أنني صرت جندياً ..

كنت لا أخجل من تلك الملابس الزيتية التي أحرص على كيها، ما زال الطريق خالٍ وحتى أصل في الميعاد كان علي أن أسلك طرق كثيرة معوجة لم تطئها قدماي منذ زمن بعيد حينما كنت صبياً صغيراً أستأجر الدراجات من عم " حسن "..

هناك مررت بفرن العيش وكأنني لأول مرة أراه، فلأول مرة أشاهده دون صفوف البشر المكتظة حول فتحتين صغيرتين بحجم الرأس، إحداها للرجال والأخرى للسيدات، تمنيت لحظتها أن أنتظر لأرى أول قادم يُكَوِّن تلك الكتلة البشرية الممتدة قاطعة الشارع الصغير الضيق، وأرى كيف تبدأ أول مشاجرة حول رغيف العيش، لكنني واصلت السير بدون انقطاع حتى وجدت نفسي أمام المحطة، حمدت الله أنني " قطعت " التذكرة في العصر عندما كنت أسأل على مواعيد القطارات، فقد كان الطابور طويل ممتد هو الآخر وكأنه لن ينتهي، كان الإتفاق مع زميلي " محمد " أن أجلس في آخر عربة حتى لا يبحث عني طويلاً، فلولاه لما ركبت القطار ولاستقليت تاكسي أو أوتوبيس، ولأن المسافة طويلة كان لابد من رفيق للطريق، ثم أنه أقنعني بأننا سنستطيع النوم، وذّكَّرّنِي حين عودتنا بالفرق الكبير بينه وبين أجرة السيارة، ولكنني ذّكَّرْتَه أنه لا فرق إذا أخذنا الدرجة المُكَيَّفة، فضحك قائلاً : ( كلها توصيلة ) ..
تخيرت مقعدي بجوار النافذة حتى أُسَلِّي نفسي بمتابعة أرقام أعمدة الكهرباء أو التليفون لست أدري ؟ وحتى أستطيع أن أراه عندما يأتي، الساعة تعدَّت السابعة بدقائق، فوجئت بها تقف بجانبي، بيضاء نحيفة، شعرها بني مُسْدَل على كتفيها، خضراء العينين، تبدو في نظرتها كطفلة صغيرة، فقط ينقصها أن تحتضن عروس صغيرة، حائرة بحقيبتها السوداء الكبيرة ويبدو أنها ثقيلة، فلم تستطع أن تضعها أسفل المقعد ولا أن ترفعها فوق على الحامل، بدون أن أسألها وضعتها إلى أعلى، فرمقتني بعينيها ببراءة وتحركت شفتاها الصغيرتان بدون أن أسمع لهما صوت، فهززت رأسي أنا الآخر وجَلَسْتُ ُ وجَلَسَتْ بجانبي ..
بدأ القطار في التحرك وشعرت برغبة أن أحادثها ولكني أخجل أن تأبى الحديث، ولن أستطيع الجلوس مكاني طويلاً فالعيون مصوبة إليها من بعيد وقريب وكأنها طير صغير جميل لم يروه من قبل، بَدَأْت أعد الأرقام على الأعمدة وأسابق في العد سرعة القطار التي أخذت تتزايد شيئاً فشيئاً حتى تطايرت خصلات شعرها ولامست وجهي، حاولت أن ألمسها بأصابعي ولكني لم أجرؤ خوفاً ألاَّ تتطاير ثانية ..
بصعوبة استطعت أن ألتقط تلك الكلمات القليلة من تلك العجوز الجالسة أمامي ..
قالت : ( إنت فين في الجيش يا ابني ؟؟ ) ..
لم أرد بسرعة، ماذا أقول ؟! الجيش في الجبل ولن تعرفه، وسيحتاج لشرح وأمامي ما هو أهم، أن أحادث تلك النحيفة البيضاء ذات الشعر البني، وجدت نفسي أقول : ( هناك .. بعيد يا حاجة ) .. قالت لكي لا تنهي الحديث : ( يعني فين ؟ في مصر ؟! ) .. قلت : ( أيوه يا حاجة في مصر ) ..
فعادت تعدل من جلستها ثم قالت : ( تعرف إسماعيل ابني ؟.. ماهو معاكم في الجيش في مصر ) ، لم تعطني الفرصة لأرد، وربما أعفتني من الرد فاستطردت قائلة : ( بس يا عيني عليه بقى له ست جُمع ويومين ! .. أنا عدَّاهم .. كنت فاكراه هيرتاح .. ويقعد يِفَلَّح معايا في الأرض زي ما قال البيه الكبير .. بيه من بتوع زمان .. رحت له علشان يساعد ابني، طلب بنت بنتي تشتغل عند ناس قرايبه أكابر هناك، وقاللي هيريحوا إسماعيل ويعملوا له أبصر إيه .. قام ابني قاللي وديها يامَّه، أهي تنفعنا هي بتعمل إيه ؟.. ومن ساعتها يا ابني ولا حس !! .. خليت البيه لما جه البلد ورحت له إداني ورقة وقاللي روحي العنوان ده في مصر، هتلاقي البنت هناك .. وياريتني ما سمعت كلامه يا بني .. رحت .. لا لقيت بنت ولا ست ! ولقيت جوز رجاله قاعدين يلاوعوا فِيَّ، وبعدين قالوا لي البنت طفشت .. طب وهتروح فين يا ولاد هي تعرف حاجة في مصر؟! دي يتيمة بنت اتناشر سنة .. رجعت للبيه زعقت له وقلت له هاشكيك للعمدة، قام ضحك واداني العنوان ده يا بني، وأهو ربنا موجود )، وأخرجت منديل وأخذت تمسح دموعها ثم سألتني : ( هو اللي بيموت في مصر مش الحكومة بتعرف برضه ؟! ) .. 
ولم تنتظر رد، فوجدتها تعدل من جلستها وكأننا وصلنا ولا يزال أمامنا أكثر من ساعة، التفت بجانبي بهدوء، ربما تبتسم أو تتمتم بشفتيها، ولكنها كانت قد أغمضت عينيها وراحت في نوم عميق، فبدت رموشها كسهام تحذر من يقترب أو ينظر إليها وكأنها في حلم جميل ..
عدت أسابق القطار في عد الأرقام على الأعمدة وأتعمد ألَّا أتحرك حتى لا تستيقظ، فقد التصق كتفي بكتفها ودنا أكثر كلما زاد القطار من سرعته، وتطايرت خصلات شعرها تداعب وجهي ثم تختفي حين تتعالى أصوات الباعة، ومازالت العجوز بين الحين والآخر تلوي شفتيها قائلة : ( يعني ما شفتش إسماعيل خالص ؟! دا هُوَا معاك في الجيش !! سايقة عليك النبي يا بني ما تجيب له سيره لما تشوفه ) ..

شيء غريب !! لم يكن هناك سوى خمس دقائق ونصل حين اسْتَيْقَظَتْ فجأة تلك النحيفة البيضاء وكأنها لم تكن نائمة ولم تكن تحلم، ثم عَملت يديها في شعرها وتوقف القطار، أنزلتُ حقيبتها فابتسمت حتى تحركت وجنتاها وتمتمت بكلمات غير مسموعة مشيرة بيدها من النافذة للواقف هناك ، ثم رمقتني بنظرة خاطفة كمن نسيت شيئاً، وما زالت العجوز تردد : ( سايقة عليك النبي ما تجيب له سيرة لما تشوفه ) !!

الجمعة، 27 نوفمبر 2009

إخلاء طرف " قصة قصيرة - 1992 "


لم أجد نفسي مرة أرغب في السفر إليها لغير أمرٍ مُلِح، ولم أتمنَّ يوماً العيش فيها على العكس من كثيرين يحلمون بها ولو على سطح عمارة، لماذا ؟! .. لا أدري !! .. ولكن ماذا أفعل، فلابد أن أحصل على إخلاء طرف من بنك ناصر الاجتماعي يفيد أنني لم أحصل على قروض، هكذا قالوا لي في الكلية لأسحب أوراق التخرج، الغريب أنني حاولت أن أشرح لهم أن من شروط القرض خطاب من الكلية، وبالتالي فالكلية على علم بمن أخذ قروض، ولكنهم لم يعطوني الفرصة، فقط قالوا لي أنَّ البنك في عين شمس وتقديم الأوراق في الثامنة صباحاً، والاستلام يبدأ في الواحدة ظهراً، يعني لازم أكون هناك ثمانية صباحاً، وأنسب وسيلة هي أوتوبيس الساعة الخامسة الذي يصل في السابعة والنصف ..
كعادتي ليلة السفر لا أستطيع النوم حتى لو ضبطت المنبه، أجدني أستيقظ قبل موعدي بخمس دقائق، ربما كان القلق، ألقيت بجسدي على المقعد مسنداً رأسي على زجاج النافذة، ورحت في سُبات عميق ولم أشعر بالوقت، حتى لكزني جاري في المقعد قائلاً : ( حمداً لله على السلامة، هتنزل هنا ولا في القُللي ؟ )، هززت رأسي مؤكداً القُللي وشكرته ..
نفس الشعور أحسه بمجرد أن تطأ قدماي أرضها، رغبة ملحة أن أحك أنفي وكأن أصابه عطب مفاجيء بسبب تغير درجة الحرارة المفاجئة له ..
أسرع كعادتي إلى المقهى الصغير ذي المقاعد والطاولات الحديدية الصغيرة المثبتة بالأرضية، أطلب شاي مؤكداً على كوب الماء .. بجوار المقهى دورة مياه صغيرة يجلس على مدخلها نفس المرأة تحمل طفلها الصغير بيد، واليد الأخرى لتتناول بها النقود ما بين خمسة وعشرة قروش، صدقة أم رسم دخول لا أدري !! ربما كانت مقابل نظافة، أبلل وجهي بالماء وأتركه ليجف حتى يهدأ أنفي، أرتشف كوب الشاي الساخن، نفس الطعم، ماء ساخن مُحلى !! .. 
لم أجد وسيلة لأصل بها إلى عين شمس سوى نفس وسيلتي، لأنني لو سألت المارة في الشارع لخُيلَ إليَ أنهم جميعاً أغراب عن البلد، وقفت بجوار إشارة مرور لأنتظر الأوتوبيسات القادمة وأسأل أحد راكبيها في تلك الكتلة البشرية المعلقة على الباب؛ حتى أشار لي أحدهم بالصعود، كدت أنفجر ضحكاً، فقصده بالصعود أن أضع قدماً وأتسلل بيد حتى أقبض بها على عامود حديدي قصير، لم يستغرق ذلك ثوان إلا وقد وجدتني أفعلها تلقائياً ..
هاجس غريب لاح بخاطري، وهو ماذا لو انفلت ذلك العامود من جسم الأتوبيس ؟! بالطبع سيُلْقِي بنا جميعاً ! ولكن العالِم بالأحوال موجود، عالَم غريب فنحن المعلقون لم نكن أسوأ حظاً من الجالسين، فلو أني جالس لاضطررت للتأهب للنزول قبل محطتي بمحطتين تقريباً، حتى أستطيع أن أخترق ذلك الحصن البشري، فما بال لو كنت أنثى ؟! لاحْمَرَّ وجهي وكرهت الخروج ..
من حين لآخر كنت أسأل عن محطتي، حتى أشار لي آخر بالنزول، كانت الساعة تعدت الثامنة بقليل عندما وجدت نفسي أمام شباك تقديم الأوراق، كنت الخامس في الطابور، ولم تمضِ نصف ساعة حتى جاء دوري، ولسوء الحظ كانت تنقصني صورة البطاقة، نظرت حولي، الطابور طال وطال، سألت عن مكان للتصوير، قالوا : ( خارج الجامعة .. أعطه الأصل )، فنظرت له، فهز رأسه بالموافقة، على أن يردها لي عند الاستلام في الواحدة، شكرته وانصرفت ..
الساعة قاربت العاشرة .. (ما زال أمامي ثلاث ساعات .. فرصة لأشبع متعتي .. ساعة مواصلات وساعتان للبحث والاختيار من بين الكتب)، مازال يخطر ببالي صورة منزل محمد علي باشا التي كانت بكتاب التاريخ في الإعدادي؛ عندما ترن في أذني كلمة الأزبكية أو سور الأزبكية المكان الوحيد الذي يحتوي على جميع الكتب القديمة ..
لم أشعر بنفسي إلا عندما تصبب العرق مني وانتبهت إلى ذلك العدد من الكتب وكيف سأحمله ؟ اثنا عشرة كتاباً ومجلة في الأدب والنقد ،في الفلسفة والتاريخ وبعض القصص الإنجليزية، لو أني اشتريتها من إحدى المكتبات لكان ثمنها أضعافاً، قاربت الساعة الثانية عشر ولابد لى من العودة، شعرت بعطش شديد، التفتُ حولي باحثاً عن مقهى أو أي مكان لأتناول منه كوب ماء، لاحظت كثيراً من المارة يبطئون خطاهم متجهين برؤوسهم على بعد غير قليل مني، نظرت في نفس الاتجاه ناحية سور الأزبكية، كان قليلون يقفون هناك وكأن على رؤوسهم الطير، عندما اقتربت منهم قال لي أحدهم شيء عجيب بدون أن ينظر لي، ثم  أشار ناحية شاب أسمر ملامحه حادة، طويل متسخة ثيابه، وقال أنه خرج من ذلك الخندق الصغير بالحديقة، وقد رآه آخرون وهو يدخل ومعه طفلة صغيرة من حوالي ربع ساعة، ولا أحد يستطيع أن يقترب ليرى ما يحدث بالداخل، تسمرت قدماي وكاد عقلي أن ينفجر.. ماذا أفعل ؟! والوقت يمر وربما لن أستلم إخلاء طرفي ..
قادتني قدماي إلى قسم الشرطة، كان الضابط يبدو عليه الذهول وهو يراني مندفع نحوه حاملاً تلك الكتب، ربما ظن بي الجنون، وبعد تأكيدي له عمَّا حدث؛ أشار إلي عسكري يقف بجواره أن يذهب ليتحرى الأمر، هممت بالإنصراف .. فناداني ثم سرعان ما انفض الجمع حوله وأخذ يعد بعض الأوراق ثم سألني ما اسمك ؟
فأجبت .. طلب بطاقتي ،فحكيت له وأنني سأستلمها في الواحدة، فضحك آمراً أحد الواقفين حوله أن يُفتشني، فلم يعثروا إلا على كارنيه عضوية بجامعة أدبية، أخذه وأخذ الكتب يتفحصها لتصلني سخريته عند كل صفحة في كل كتاب يتصفحه، حتى أودعني الحجز ليتحرى أمري ..
مر وقت طويل .. غفلت فيه عيناي كثيرا، استيقظ لأغفو ثانية، حتى استيقظت أخيراً على لطمة قوية على وجهي ونداء الله أكبر، برقت عيناي وجمدت حركتي، وحمدت الله فكانت اللطمة يد أخي النائم جواري، والله أكبر صوت منبهي !!..

الخميس، 26 نوفمبر 2009

الرُّكن الشمالي " قصة قصيرة - 1989 "


برغم اختلاف طبائعنا أدمن كلانا الآخر، صرنا شخصاً واحداً، أصبح الناس يعرفونني به ويعرفونه بي .. أخذت عنه بعض الجد وكان من الطبيعي أن يأخذ مني قليل من بساطة الأمور، فأنا في نظره دائماً لا أُبالي الأشياء، وأعتبره أنا يُعطي الأمور أكثر من حقها، فهو على رأي المثل " يعمل من الحبة قبة " ..
حتى كان هذا اليوم، تأخرت عن موعدي معه في الثامنة، كان الجو ممطراً، ترددت في الخروج، إلا نبرة صوته في التليفون كانت توحي بأن شيئاً ما، لم أستطع إلا الخروج له، لم أتوقع ألَّا أجده بمنزله، فمن النادر أن يخرج بمفرده، ذهبت إلى حيث نلتقي، مكتبنا الدائم، هكذا اتفقنا أن نطلق عليه، وهي المقهى، ولم لا ؟ وهو المكان الوحيد الذي يأوينا منذ أن تخرجنا، قارب العامان ونحن نرتاده، حتى النادل نفسه حَفِظَ مكاننا ...
الركن الشمالي دائماً جلستنا، كان من المدهش أنني وجدته بمفرده ينتظرني، القلق يبدو عليه، حدثته فلم يجاوبني الحديث، تذكرت حدة صوته، قررت أن أُفَرِّج عنه، وأنا محتاج من يشاركني همومي، وقع نظري على مجموعة من الطاولات الجديدة فوقها أرفف خشب جانبية ناحية اليمين، تقابلها ثلاثة أرفف محملة بأكواب من جميع الأحجام، ومجموعة الشيشة متراصة بطريقة هندسية تعلن عن مدى نظافة ومستوى الخدمة بالمكتب، أقصد المقهى ..
أخبرته ألم تسمع ما قرره لنا مسئول كبير من أجلنا نحن الخريجين ؟
قال بتهكم : ( ماذا؟! لمَ أسمع ! )، قلت : ( أنه لاحظ أن أعدادنا تتزايد على المقاهي مما يحدث تكدس خاصة أيام العطلات، فاجتمع على الفور مع أصحاب المقاهي الكبيرة والصغيرة على حد سواء بالغرفة التجارية، وأخبرهم أنه توسط لدى برنامج المعونة الأمريكية ليقدموا كافة التسهيلات لتقديم قروض ميسرة بدون فوائد، لشراء ما يستلزمه كل مقهى من عدد جديد من الطاولات والشطرنج والدومينو، حتى يستطيع جذب الشباب ومنعهم من الإنحراف خاصة هذه الأيام، فهم على شفا حفرة من النار)، وأعلن المتواجدون أن هذا قرار جريء وسياسي، ما أن سمع هذا وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجنتيه ولم يعلق، ثم مالبث أن عادت حالة القلق تبدو عليه ..
كانت عيونه زائغة ينظر لجميع الموجودين، سألت : ( ماذا بك ؟! )، حدق فيَّ طويلاً، ثم قال وهو يشير في جميع الإتجاهات بإصبعه : ( تُرى فِيمَ يفكر هذا، وذاك المنزوي هناك ؟! )، ثم استطرد قائلاً : ( اللي بيفكر في مين سيدفع الحساب، والآخر انتهت علبة سجائره وينتظر من سيقذفه بسيجارة، وآخر يُحدث نفسه لِم َ تورطت في هذه الجلسة وبها من لا أطيقه ! .. انظر .. انظر .. هذا نظر فجأة لساقه الممدودة في كبرياء، وتذكر أن حذاءه يناديه " الرحمة "، فتقهقر بقدمه وراء الكرسي حتى يُواريها عن الأنظار كمن يعلن الاستسلام وكأن الجميع رأوه )، أنهى حديثه ثم امتط شفتيه بحزن وهز رأسه وقال : ( هكذا أصبح حال الشباب ) ..
كان النادل قد وضع السحلب والطاولة أمامنا كالعادة، ثم ألقى النرد أيضاً، أشعلت سيجارة ولصديقي أخرى وبدأنا اللعب ..

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

لعله خير " قصة قصيرة - جدة -2 أغسطس 1990 "


اليوم يشعر أنه قد عانق السماء، وأن العالم بأسره يشاركه فرحته، أخيراً قد صفحت عنه الدنيا واليوم فقط قد حَلَّ الفقر عنه ولم يعد اليأس رفيقه .. يدخل محطة القطار منتشياً مزهواً بنفسه، متأبطاً مظروف كبير، جواز سفره إلى الدنيا الجديدة .. ساعات معدودة وتنتهي الإجراءات، يُحدث نفسه : ( لولا وفاة عمي لانتهت الإجراءات منذ أسبوع .. " لعله خير " .. يتحسس ثيابه الجديدة .. يُضايقه بعض الأتربة على حذائه .. يمسح بيده على شعره، ويعدل من قامته، ويتجه بخطي ثقيلة ناحية شباك التذاكر لينتظر دوره في الطابور الطويل .. يبتسم في نفسه محدثها : ( شيء غريب !! كل هذا الطابور (درجة أولى) ؟! واليوم يزداد راكب جديد وإلى حدٍ ما سيؤثر في رصيد اليوم بالزيادة، بالتأكيد .. يصل إلى الشباك، وبصوت يملؤه الثقة يطلب تذكرة ( درجة أولى )، يشير له الموظف بحركة سريعة قائلاً : ( الشباك الأخير )، يحمر وجهه خجلاً، يحاول إخفاءه وهو ينظر إلى الطابور باستياء قائلاً في نفسه : ( كل منا معرَّض للخطأ ) ..
يصعد عربة القطار، يتفحص وجوه الركاب من حوله، كان هناك على اليمين شخص يعتقد أنه يعرفه من قبل، أكد ذلك نظرات هذا الشخص له، حاول أن يتذكره لكن دون جدوى ..
أسند رأسه إلى نافذة القطار وابتسم داخله متخيلاً لو أنه في الدرجة الثالثة الآن، لكان يعاني من لهيب الشمس، فاليوم بداية شهر أغسطس، جميل ألَّا أشعر بالحر أو البرد أثناء السفر، فهذا وحده كفيل بأن يخفف من مشقة السفر، العام القادم لابد أن أقضي هذا الشهر بالمصيف .. لا.. بل شهور الصيف كلها .. ما أمتع أن تجلس على شاطيء البحر تتنفس الهواء النقي، وستكون هي معي طبعاً .. سيعرف الحاج "سليمان " أنني كنت صادقاً معه حين صارحته أن ما أدخره فقط لزوم السفر، وأنني لم أبخل على ابنته بشيء ..
ثم أنني سأعوضها كل هذا طبعاً .. العام القادم سأوفر لها كل شيء تحتاجه وسيكون عرساً لن تعرفه البلدة من قبل .. ينزل من القطار تدفعه خطواته نحو عربات الباص، ثم يتوقف قائلاً لنفسه : ( ..لا.. لن أتحمل زحام الباص، ثم أن اليوم الخميس ويجب أن أنتهي وإلا تأخرت إلى السبت، سأشير إلى تاكسي، نعم هناك صعوبة لكن بعدها راحة .. سأحاول .. ) ..كانت حركة الناس بدأت تدب في المدينة حين لفت نظره زحام على جانب من الرصيف، سرعان ما تراءى له من بينه صبي صغير قد افترش الأرض من حوله بجرائد ومجلات الصباح، دفعه فضوله أن يعرف ما في الأمر .. اتجه نحو الصبي .. كلما دنا من هذا الجمع ازدادت في أذنه كلمات متشابهة .. التقط جريدة وقلب صفحاتها .. قرأ العناوين بسرعة، ثم التفت حوله قائلاً : ( لا يُعقل !! أهذا معقول ؟!، ماذا أقول للحاج " سليمان" ؟! أسأعود ثانية للناظر ليُسمعني كلمات التوبيخ كل صباح !! ) ما هذا الحر الشديد .. ألا يكفي صوت البائعين ؟! أكاد أختنق .. يتأمل الوجوه من حوله .. يرى نفس الشخص الذي حاول أن يتذكره .. كان يبتسم قائلاً لصديقه : ( سبحان الله، أمس فقط اتصلت لأمد أجازتي أسبوع ! ) سمع تلك الكلمات وقال في نفسه : ( ماذا حالي لو لم يتوفَّ عمي ؟! .. لكنه قدر !! أيستطيع الحاج " سليمان " أن يمنع الوفاة ؟ ) .. !!
جدة 2 أغسطس 1990

الخميس، 19 نوفمبر 2009

تحت الطلب " قصة قصيرة - 1990 "


شعور شديد بالضيق، وقلقٌ مستمرٌ يُلازمني، وتفكير في لاشيء ، وحوارات لأشخاص أسمعها بداخلي، لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، وميل للانعزال والوحدة والمكوث لأطول وقت بمفردي، وإحساس بالخمول والكسل، تلك المرة الثانية التي أَمُرُّ بهذه الحالة .. كانت الأولى أثناء فترة التجنيد، وأثناؤها قمت محاولاًعلاجي بنفسي، بعد ما فشلت تلك الأقراص المهدئة التي أعطاني إياها صديقي الصيدلي، قرأت كتاب في الأمراض النفسية رجَّحت بعدها أني مصاب باكتئاب ، وبالطبع فأنا القادر وليس سواي على حل مشكلتي والتكيف معها .. وقد كان .. فكنت أعامل نفسي على علتها، محاولاً الوقوف على السبب الخفي الداخلي، متجنباً الخوض في أحاديث مع أناس قد يؤذون شعوري، عامدين أو غير متعمدين .. مطمئناً نفسي أن تلك المرحلة مؤقتة وستنتهي، ولابد أن أستفيد من معاملة تلك النوعية من البشر التي ربما لا ألقاها ثانية، فأزيد من رصيد خبرتي في الأمور الحياتية، ولم أشعر متى تم شفائي  ..

أما تلك الحالة فهي أعمق بكثير، فلم يعد من الصعب عليَّ التكيف مع من حولي مستفيداً من حالتي السابقة .. الآن وقد مر أيام، لا أعرف ولا أستطيع أن أضع يدي على سبب هذا الشعور الذي عاودني من جديد، فالساعة تعدت الثانية بعد منتصف الليل ومازلت مستلقٍ على ظهري، أتحايل على النوم وأفكر وأحادث نفسي، أهو التفكير في المستقبل المظلم الماثل أمام عينيك والذي لا أمل فيه ؟! .. أو لربما يكون إحساس بالوحدة لعدم وجود صديق، تُسمعه شكواك أو تأمنه على سرك، وَكُلٌ أصبح في شُغل عنك لاهون ؟! أم لعلك ترنو لحبيبة تبث إليها نجواك ؟! تحنو عليك، فيزول تعبك وكدرك، وقد وأدت الحبَ بقلبك وهو مازال في المهد بين النظرات والهمس .. أم شظف العيش الذي أنت فيه ؟! ماذا أنت فاعل ؟! فأبواب العمل طرقتها ولتتنتظر قدرك، شئت أم أبيت ! .. وجدتني أقولها وأعتدل في ظلمتي، متكئاً قليلاً أتحسس جهازي الصغير بجانبي على شعاع الضوء المتسلل من بين فتحات النافذة، فأدير محطاته فلم أجد سوى تلك المحطة ساهرة في الثالثة بعد منتصف الليل.. " صوت العرب ".. أمجاد يا عرب أمجاد، يتبعها صوت المذيع قائلاً : ( وهكذا صرَّحت المتحدثة باسم الوفد الفلسطيني، بأن المفاوضات المتعددة ما زالت متعثرة بسبب التعنت الإسرائيلي، ولكنها تعود لتؤكد عن تفاؤلِها الحذر بشأن الوصول إلى حل سلمي في المنطقة ) ..

لاح في ذاكرتي صورته، كان يسكن أسفلنا في الدور الرابع، مرتان فقط رأيته، كانت المرة الأولى في بداية العام الدراسي بملابسه القديمة الغير متناسقة الألوان، والتي ربما لا يخلعها إلا إذا نَبَّهَه أحد زملائه، حتى نظارته سميكة قديمة جداً، ذكرتني ببائع الحلوى العجوز الذي كان يقف أمام مدرستنا الابتدائية، ويربطها بخيط سميك حول أذنيه، لدرجة اعتقادنا أن عينيه بيضاء اللون كقطعة قطن وليس كعيون بقية الناس ..

تعمدت يومها أن أثير قضيتهم، وهو القادم حديثاً من فلسطين ولم يتأثر بعد بشيء يُنسيه ما يحدث هناك، لذا فقد سألته : ( هل ستعود بعد الدراسة إلى فلسطين أم ستظل هنا ؟ ) ..

رد بحماس : أمنيتي أن أسافر لأدرس القانون الدولي، وأطوف دول العالم لأدعو وأدافع عن القضية ..

- يعني بعد عشر سنين على الأقل ..

-ولو بعد مائة سنة لن أتراجع ..

-يعني فرضت أنها لن تُحَل قبل العشر سنين القادمة ؟!

-والله ما أنا شايف لها حل ..

لحظة صمت مرَّت، فقطعتها بسؤالي له : (على فكرة يا أخ بسام، يا ترى هل لكم بطاقات شخصية ؟ويا ترى إيه مكتوب فيها ؟ ) .. لم يرد، وكسا وجهه سحابة من الحزن كمن ذكَّره بجرح عميق أو حادث مؤلم ..

فقط أخرج من جيبه بطاقة في غلاف بلاستيكي شفاف، أخذتها منه وما كدت ألمسها لتقع عيناي على كلمة "إسرائيل" المطبوعة بحروف مضغوطة عليها؛ حتى شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وكأنني لمست شيئاً نجساً، واحتبس لساني في فمي وبحركة لا إرادية وجدتني رددتها إليه .. ولم تمضِ دقائق حتى استأذنت بعدها منصرفاً، شاعراً بخجل من نفسي كون أنني عربي وتلك القدس عربية !!

شعرت بعدها بإعجاب لا أعرف كنهه بذلك الفلسطيني ..

ربما للحماس الذي كان يأخذه، ولكنني سألت نفسي لو تلك بلدي، وطني، هل أتركها لأتعلم وأدرس وأنجو بنفسي ؟! أم أدافع عنها حتى آخر عمري ؟! ولم اهتدِ لجواب ..

أيام قليلة مضت وكانت المرة الثانية التي قابلته فيها، ولم أحاول رؤيته ثانية، فقد خُيِّل إليَ أنه شخص آخر، فَأَشَد ما أذهلني هو تسريحة شعره البني المجعد الذي أرسله على جبينه وأذنيه، ونظاراته الجديدة ذات العدسات المضغوطة والتي تظهر عينيه الخضرواتين بوضوح، وقميصه الحريري المنقوش بالورود، وتلك الرائحة التي تخرج من فمه والتي أفقدته وعيه، دقَّ باب شقتنا متأهباً للدخول وحين فتحت ،لم يُعرني اهتماماً، يومها زال ذلك الإعجاب السريع به ولم أعد أراه أو أهتم بأخباره ..

لكني تمنيت اليوم أن أراه أو أذهب له إلى الكلية، تخيلت أنني أحدثه، أُطمئنه أن لا داعي لأن يجهد نفسه ويدرس القانون، فهناك متحدثة باسم الوفد بدلاً منه، وجدتني ابتسم وجفناي يتثاقلان بدون أن أشعر، حينما جاءني صوت المذيع قائلاً : ( وفي القدس المحتلة ألقت فتاة فلسطينية بنفسها فاصـــ......  ) ، فنهضت مسرعاً وأغلقت المذياع حتى لا تتوه بسمتي فلا أستطيع النوم ..

في الصباح تسلمت رسالتين، أحدهما طلب حضور لتسلم أول عمل لي، والأخرى طلب استدعاء بتسليم نفسي لأقرب وحدة قوات مسلحة في خلال أربع وعشرين ساعة، أيكون من أجل البوسنة والهرسك، أم الصومال ؟؟ لا أدري .. ضغطت بكلتا يدي على أذني، فقد تعالت الحوارات بداخلي من جديد أكثر وأكثر، ولا تكاد تبدأ حتى تنتهي، ولا زلت جالساً أفكر كيف أعتذر لبسام حين أقابله، فهذا أول عمل لي ..