السبت، 28 سبتمبر 2013

السادات كان على استعداد لإعطاء إسرائيل أى شىء تحت الشمس ما عدا الأرض والسيادة

أدرك المتابعون لأحداث الشرق الأوسط أن مسألة النزاع العربى الإسرائيلى دخلت مرحلة جديدة مع زيارة الرئيس الأمريكى نيكسون للقاهرة فى أبريل 1974، كانت زيارة توحى بطىّ صفحة وبدء صفحة جديدة، وهو ما تبدّى فيما بعد فى زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977، حينما صافح أعداء الأمس بعضهم البعض أمام كاميرات العالم، وتغير المشهد الدولى وحبس العالم أنفاسه أمام تلك الزيارة بما فيه الإسرائيليون أنفسهم. جاءت الزيارة ومعها استقالة إسماعيل فهمى وزير الخارجية وتنحية محمود رياض الذى تشكك فيما يمكن أن تأتى به من ثمار، وإسناد وزارة الدولة للشئون الخارجية للدكتور بطرس غالى. وأبدى الرئيس السادات إصراراً على استكمال عملية التفاوض، واستعادة الأرض بعد جمود استمر لنحو 4 سنوات دون تغيير فى الوضع. وهو ما يعبر عنه وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط بقوله: «أصر الرئيس السادات على الإمساك بكل خيوط العملية السياسية والتفاوضية وعدم إعطاء الفرصة لإسرائيل للهروب من ضغوطها. خاصة أن المجتمع الدولى فى غالبية توجهاته عبّر عن دعمه القوى للمبادرة المصرية ودوافعها».
قرر السادات وقتها الاستعانة بكل الدبلوماسيين القادرين على التعامل مع العقليتين الأمريكية والإسرائيلية قانونياً وسياسياً، والمؤيدين فى نفس الوقت لفكرة التفاوض مع إسرائيل لاستعادة الأرض، ولذا طلب من الدكتور عصمت عبدالمجيد، مندوب مصر الدائم فى نيويورك وقتها، الحضور إلى القاهرة فوراً لرئاسة وفد مصر وكذلك مؤتمر السلام التحضيرى بالقاهرة. وهو المؤتمر الذى عُرف فيما بعد بمؤتمر ميناهاوس إشارة إلى الفندق الذى عُقد به يوم 15 ديسمبر 1977.
وتقرر تشكيل مجموعة عمل صغيرة من الدبلوماسيين المصريين، المعروف عنهم الكفاءة والكتمان، للعمل تحت رئاسة الدكتور أسامة الباز، مدير مكتب وزير الخارجية وقتها، لمساعدة وزير الخارجية على إدارة ملف مؤتمر جنيف للسلام وكل الجهود التى كانت تُبذل عندئذ للعودة إلى انعقاد المؤتمر، وتسيير أعماله. ضمت هذه المجموعة كلاً من السفراء عبدالرؤوف الريدى مدير التخطيط السياسى، ونبيل العربى مدير الإدارة القانونية، وأحمد الزنط بإدارة المعلومات، وعمرو موسى مدير الهيئات الدولية، وحسين حسونة سكرتير أول بمكتب وزير الخارجية، ومحمد البرادعى السكرتير الخاص للوزير إسماعيل فهمى والمقرب جداً منه، وبعد حضور الدكتور عصمت عبدالمجيد ضم للمجموعة كلاً من أحمد أبوالغيط، وصلاح الهنداوى اللذين عملا معه فى نيويورك.
بدأ الإعداد لمؤتمر ميناهاوس من الجميع بكل دقة حتى لا تغيب التفاصيل، ودُعى له كل من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وإسرائيل، والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسوريا، ولبنان، والاتحاد السوفيتى، ورُفعت أعلام هذه الأطراف، لكن لم يحضر سوى الأطراف الثلاثة الأولى فقط وغابت كل الأطراف العربية والسوفيت، لقد رفض العرب خطوة عادوا لها بعد ذلك بسنوات طويلة كانوا فقدوا فيها كثيراً من أوراق الضغط.
يقول أبوالغيط عن اللقاء الأول مع الوفد الإسرائيلى: «طلب إلياهو بن إليسار، رئيس الوفد الإسرائيلى، فور وصوله الالتقاء برئيس الوفد المصرى، ووافق الدكتور عصمت عبدالمجيد. وعُقد اللقاء فى جناح رئيس الوفد المصرى، وجلس الإسرائيلى مشدوداً، ثم فتح حقيبة مستنداته التى كانت معه وأخرج ملفاً كبيراً منها وقال إنه يسعده أن يقدم هذا المشروع لاتفاقية سلام مقترحة من قبَل إسرائيل إلى مصر، نظر إليه الدكتور عصمت عبدالمجيد ببرود شديد وقال له إن عليه إعادة الملف إلى حقيبته وإغلاقها وإنه غير مخوّل باستلام أى وثائق من الجانب الإسرائيلى لأن هدف هذا المؤتمر التحضيرى فى ميناهاوس هو الإعداد للشق التنظيمى والإجرائى للعودة إلى اجتماع السلام امتداداً لمؤتمر جنيف وليس مناقشة مضمون أو محتوى السلام المصرى الإسرائيلى أو أى معاهدة إسرائيلية مصرية للسلام».
مناورات شايلوك
كان المقترح الإسرائيلى للسلام، الذى رفض الدكتور عصمت عبدالمجيد تسلمه، يحمل الكثير من الأفكار السلبية التى اعتاد الإسرائيليون التعامل بها مع العرب، حيث تضمّن توقيع معاهدة سلام تسعى لتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية وعدم التهديد بالدخول فى الحرب مستقبلاً وأن تعترف كل دولة بحق الأخرى ودول المنطقة فى السيادة والاستقلال داخل حدود آمنة ومعترف بها، وإعلان الجانبين إنهاء حالة الحرب، والاتفاق على الحدود بين مصر وإسرائيل وفق بروتوكول وخريطة تلحقان بالمعاهدة. وكشفت هذه الفقرة أن إسرائيل كانت، وحتى بعد مبادرة السادات وضربة أكتوبر 1973، تتصور أنها يمكنها تغيير خط الحدود المصرية أو الحصول على أراض من مصر تحت ضغط الغزو، إلا أن مصر أكدت فى بيانها فى الجلسة الوحيدة للمؤتمر يوم 15 ديسمبر على الانسحاب الكامل من الأراضى المحتلة طبقاً للقرار 242 وتأمين حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير وحق جميع الدول فى المنطقة فى العيش فى أمن وسلام، ورد الجانب الإسرائيلى بطرح كل عناصر معاهدة السلام المقترحة من جانبه، وانتهى الاجتماع دون نتائج، وعُقد بعدها بأيام مؤتمر بالإسماعيلية بين السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين، سبقه اختيار السادات للسفير محمد إبراهيم كامل وزيراً للخارجية. ويأتى مؤتمر الإسماعيلية يوم 25 ديسمبر مؤكداً على إصرار الإسرائيليين على التعامل باستخفاف مع الجانب المصرى، ما تبين حينما عرضوا نفس المبادرة السابقة لهم مع تعديل بسيط فيها، مفاده انسحاب إسرائيل إلى الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وكانت أول إشارة لاعتراف إسرائيل بهذه الحدود الدولية منذ عام 1967، ويتم هذا الانسحاب على مرحلتين: أولاهما الانسحاب إلى خط العريش- رأس محمد شرق العريش وإلى الغرب من رأس محمد، والثانية هى الانسحاب إلى خط الحدود الدولية المشار إليها مع إتمام هذا الانسحاب الأخير فى خلال فترة من 3 إلى 5 سنوات من يوم توقيع المعاهدة، ما يفسره أبوالغيط بالقول: «كانت إسرائيل تناور دائماً لتحقيق هدف آخر ألا وهو البقاء فى الأرض والمراوغة حول عدم ضرورة الانسحاب منها، إذ نصّ المقترح على بقاء القواعد الجوية الإسرائيلية الموجودة على أرض مصر فى سيناء بين خط العريش- رأس محمد والحدود الدولية المصرية مع فلسطين تحت الانتداب (إسرائيل)، وهى القواعد الجوية التى ضُربت ضربات مبرحة من قبَل مصر فى عام 1973 - القاعدة الجوية «أتزيون»، وكذلك «إيتام وأوفيرا»، وكذلك الإبقاء على محطات الرصد الإلكترونى فى جبل حلال وجبل حريم مع تأمين وجود قوات متحركة بحرية وبرية داخل الأراضى والمياه المصرية الإقليمية، ويصل بعد ذلك المشروع الإسرائيلى لمعاهدة السلام مع مصر إلى قمة التبجح؛ حيث ذكر أنه وبعد الانسحاب وتنفيذه حتى الخطوط الدولية، هكذا، فإن الوجود الاستيطانى الإسرائيلى فى هذه المنطقة، وهو مدنى الطابع، سيبقى على أرض مصر فى ظل وجود الأمم المتحدة التى ستقيم وجودها فى منطقة منزوعة السلاح بين الخطين المشار إليهما بعاليه (أى بين رأس محمد- العريش والحدود الدولية)، كما ستحتفظ هذه المستوطنات المدنية بقوة دفاعية على أرض مصر لحماية نفسها وسيخضع هذا الوجود للقانون الإسرائيلى، والمحاكم الإسرائيلية، ويستمر المقترح الإسرائيلى فى هذا الاستخفاف فيشير لحق المدنيين الإسرائيليين والعرب المقيمين فى سيناء بحرية الحركة فى المنطقة الخاضعة للأمم المتحدة وقواتها التى لا يمكن إخراجها من سيناء إلا بموافقة الجانبين المصرى، والإسرائيلى ومع صدور قرار إجماعى من مجلس الأمن باتخاذ هذه الخطوة. بالطبع رُفضت تلك الاقتراحات الإسرائيلية، إلا أن أبوالغيط يلفت النظر إلى أن ما رفضه الفلسطينيون فى العام 1977 هو ما عادوا لأقل منه فيما بعد ذلك، ما يستحق التوقف منا لفهم مبررات الرئيس السادات فى الإصرار على توقيع المعاهدة مع إسرائيل وفكّ جمود الموقف الذى دام 4 سنوات بعد حرب 73، وكما يُفهم من كتاب «شاهد على الحرب والسلام»، كان السادات يستشعر تراجع الموقف العربى فى مساندة الاقتصاد المصرى بعد الحرب، بل إنه غضب من أسلوب المعاملة الذى تعرض له بعض مبعوثيه فى دول عربية عند طلب الدعم للاقتصاد المصرى ومشروعاته الطموحة، فى الوقت الذى أكدت له مظاهرات 18 و19 يناير حالة الاستنفار فى المجتمع المصرى والحاجة للإسراع فى برامج التنمية الاقتصادية لحماية الجبهة الداخلية، إضافة إلى سبب آخر يتعلق بالعدو ذاته ألا وهو وصول حزب الليكود إلى الحكم فى إسرائيل. كان السادات يدرك أن الحزب من أكثر الأحزاب تشدداً فى إسرائيل برئاسة مناحم بيجين التلميذ النجيب لمعلمه جابوتنسكى البولندى الذى كان أكثر اليهود عداء للعرب فى فلسطين، كان وصول الحزب إلى السلطة فى إسرائيل مؤشراً إلى مرحلة من التشدد والاتجاه نحو اليمين لأول مرة فى إسرائيل منذ إنشائها فى عام 1948، كل تلك الأسباب فرضت على الرئيس أن يفكر ملياً فى كيفية تطويق الجانب الإسرائيلى ووضعه فى موضع الدفاع. الطريف فى الأمر، رغم جديته، أن إسرائيل كانت تتعامل مع ملف السكان الفلسطينيين باعتبارهم الفلسطينيين العرب، ما عبّرت عنه جولدا مائير فى إحدى المرات بالقول: «من هؤلاء الفلسطينيون؟! نحن الفلسطينيون». كان الفكر الإسرائيلى يرى أن هناك فلسطينيين يهوداً، وهم الإسرائيليون، وفلسطينيين عرباً فى أرض متنازع عليها!
وجاء الرد الإسرائيلى على المشروع المصرى الذى سبق طرحه فى الإسماعيلية يوم 25 ديسمبر بالرفض، فأكد «موشى ديان» فى رسالته أن إسرائيل على استعداد لقبول أى صياغة لجدول الأعمال يكون قد تضمّنها قرار مجلس الأمن 242، وما عدا ذلك فإن إسرائيل لا تستطيع القبول بأى شىء آخر، مشيراً إلى رفض إسرائيل ما قدمته مصر من مقترحات فى الإسماعيلية يوم 25 ديسمبر عام 1977، واقترح أن تكون الصيغة الأساسية لجدول أعمال مفاوضات القدس تدور حول معاهدات السلام مع معالجة كل النقاط السياسية والمدنية للقضايا مثل مسائل المستوطنات المدنية فى سيناء، وعادت الرسالة فى نهايتها تؤكد الرؤية الإسرائيلية فى 5 نقاط كجدول أعمال مقترح، أهمها ضمان قدسية الأراضى والاستقلال السياسى لكل دولة فى المنطقة من خلال إجراءات من بينها إقامة مناطق منزوعة السلاح، وإنهاء كل دعاوى الحرب وإقامة علاقات سلام بين كل الدول من خلال توقيع معاهدات سلام، وتضمين معاهدات السلام المسائل السياسية والمدنية مثل المستوطنات فى سيناء، والاتفاق على إعلان خاص بالفلسطينيين العرب المقيمين فى جوديا وسامريا وغزة. رفضت مصر المقترحات الإسرائيلية وأصرت، فى رسالة وزير خارجيتها محمد إبراهيم كامل، على التأكيد على أن تعكس الأفكار المصرية روح ونص القرار 242 الذى يؤكد على عدم جواز الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة ومن ثم مطالبتنا لإسرائيل بالانسحاب من الأراضى المحتلة منذ عام 1967.
التدخل الأمريكى لدعم المفاوضات
بدا أن الجانبين، المصرى والإسرائيلى، لن ينجحا بمفردهما فى التوصل إلى اتفاق على جدول للأعمال يفتح الطريق أمام بدء المفاوضات فى إطار اللجنة السياسية بالقدس، وشعر الأمريكيون بحتمية التدخل بين الطرفين لمساعدتهما على تجاوز خلافاتهما حتى لا تضيع فرصة تسوية سلمية نهائية بالمنطقة. واقترح وزير الخارجية الأمريكى سيروس فانس الحضور للقدس لمناقشة مسألتين أساسيتين مع الطرفين المصرى والإسرائيلى هما: الاتفاق على خطوط استرشادية للتفاوض على ترتيبات للضفة الغربية وغزة لفترة 5 أعوام، وكذلك إعلان مبادئ للتسويات بين العرب وإسرائيل، واقترح أن يتم ذلك من خلال إعلان مبادئ حاكم للمفاوضات، ومعاهدات السلام فى الشرق الأوسط مع تركيز هذا الإعلان على مسائل السلام، والانسحاب من الأراضى المحتلة، واتفاق حول الحدود الآمنة والمعترف بها، والتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. وبدأت الاجتماعات تحت رعاية أمريكية، وكانت اللجنة العسكرية المصرية- الإسرائيلية بدأت أعمالها فى 11 يناير 1978، ورأس الجانب المصرى الفريق أول «محمد عبدالغنى الجمسى» والجانب الإسرائيلى «عيزرا فايتسمان» وزيرا الدفاع فى البلدين. وكشفت الاجتماعات تباعد رؤى الطرفين؛ حيث أصرت إسرائيل على التمسك باستخدام القواعد الجوية فى سيناء من قبَل قواتها الجوية وبقاء المستوطنين فى مستوطنات سيناء. ووصل الأمر لحد طرح فايتسمان بأنهم يطلبون ضمانات من خلال السيطرة على هذه المطارات والمستوطنات، وذلك لعدم ثقتهم فى الأجيال المصرية القادمة. وهو ما سفّهه الفريق الجمسى وقتها ورفضه شكلاً ومضموناً، مؤكداً عدم الاستعداد تحت أى ظرف للقبول ببحث مسألة الأمن من خلال التنازل عن أراضٍ أو السماح بالوجود على الأرض المصرية بأى شكل من الأشكال، وأن الأطروحات الإسرائيلية تعكس الميول التوسعية لإسرائيل وهو أمر مرفوض بالكامل.
يتوقف أبوالغيط ليلتقط بعينه مشهداً يحدد ملامح التعامل فى تلك الفترة مع العدو الإسرائيلى، فقد كانت إحدى الملاحظات التى لفتت نظر المفاوض المصرى عند حضور الوفد الإسرائيلى لمصر يوم 13 ديسمبر 1977، أنه سبقه وفد أمنى للتحضير لوصول الوفد الرئيسى والحصول على مقر إقامته فى فندق مينا هاوس بمنطقة أهرامات الجيزة، وهو ما يقول عنه: «تصرف هذا الوفد مع الفندق وكأن لا شىء يمكن أن يردع الأمن الإسرائيلى معلناً عن رغبته فى التأكد من عدم وجود ميكروفونات فى الغرف أو أجهزة التليفون أو الحوائط أو الأثاث، من هنا كانت الصدمة كبيرة عندما غادر الإسرائيليون مينا هاوس لكى تكتشف إدارة الفندق أن كل الأسلاك والتليفونات والحوائط، وربما كل الأثاث قد أسيئت معاملته بشكل احتاج إلى إعادة تأهيل كاملة لهذه الأجنحة والأقسام التى احتلها الإسرائيليون بالفندق تحت دعاوى الأمن والتأمين. ولذا فمع وصول وفد المقدمة الأمنية المصرية للقدس فى يناير 1978، قام بتسلم الأدوار التى كنا سنقيم بها فى فندق هيلتون القدس وتعاملنا مع كل شىء بنفس الأسلوب الذى عومل به فندق مينا هاوس. وكأن الرسالة هى أن «البادى أظلم»، فقام الوفد المصرى بتركيب شبكة اتصالات كاملة بين كل غرف أعضائه ومُسحت حوائط الأدوار والحجرات بأجهزة كشف ميكروفونات التنصت».
وفشلت تلك المفاوضات هى الأخرى بسبب التعنت الإسرائيلى، وعاد الوفد المصرى من القدس، وحضر وزير الخارجية الأمريكى لمصر وقدم للرئيس السادات دعوة لزيارة واشنطن فى 4 فبراير 1978 لمواصلة النقاش مع الرئيس الأمريكى كارتر، وهو ما قبله السادات الذى ظن به البعض تنازلاً عن مواقف ولكنه وكما يقول أبوالغيط: «كان الرئيس (السادات) يسعى للحصول على دعم اقتصادى غربى كبير فى مواجهة انقطاع وتوقف المساعدات العربية الاقتصادية لمصر، ما حدث من الولايات المتحدة ودول غربية أوروبية أخرى فى مقدمتها ألمانيا، بالإضافة إلى اليابان، كما سعى لكسر الاحتكار السوفيتى للسلاح لمصر ورغب فى الحصول على مقاتلات أمريكية، حتى لو كانت متخلفة عما لدى إسرائيل أو السعودية لكى يعيد التوازن لعلاقات أمريكا بدول المنطقة. من هنا كان يسعى لتحقيق صفقة كبيرة من المقاتلات الأمريكية «F5»، وهى طائرة قتال لا تقارن بالأخريات المتاحة فى الترسانة الأمريكية إلا أنها كانت البداية».
يوم 2 فبراير عام 1978 هبطت طائرة الرئيس السادات فى المغرب، قبل توجهه لواشنطن، كان سبب الزيارة السريعة هو رغبة الرئيس المصرى إبداء تقديره لملك المغرب الذى رتب فى صمت لاجتماع مصر وإسرائيل مرتين فى يوليو وسبتمبر 1977، تمهيداً لزيارة الرئيس (السادات) للقدس، وفى اليوم التالى توجهت الطائرة لإكمال رحلتها ليصل السادات إلى واشنطن ومنها مباشرة إلى منتجع كامب ديفيد، حيث أمضى الرئيسان الأمريكى والمصرى يومى 3 و4 فبراير فى هذا المقر يتشاوران حول الموقف وما يمكن لهما الاتفاق عليه وما يجب القيام به، أدرك السادات أن الجانب الإسرائيلى لا يبغى التحرك، وأنه لن يستطيع إحراز تقدم من دون المساعدة الأمريكية لتسهيل تحريك المفاوضات بين مصر، وإسرائيل. ولذا انتهت هذه المشاورات باستعداد الولايات المتحدة للتقدم بمقترحات لتحريك الموقف، ما يتطلب من الجانب المصرى استمرار المفاوضات مع إسرائيل، وتوفير الفرصة للولايات المتحدة للمزيد من الاتصالات مع الجانبين للتعرف على مواقفهما، للتدخل من جانبها والتقريب بينهما.
وحققت الزيارة أهدافها إلى حد كبير، ونجحت فى توطيد العلاقة المصرية الأمريكية، وتوصل الجانبان خلالها إلى تفاهم تفصيلى يتم بمقتضاه قيام الولايات المتحدة بعد مرحلة من المشاورات مع الجانبين بطرح مقترح متكامل ومشروع شامل للتسوية وإطارها الذى ينبغى عندئذ للأطراف التفاوض على أساسه، كان التحرك المصرى الأمريكى المشترك يفترض قيام الأمريكيين بدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلى ومواجهته بالموقف وبالحاجة لإظهار المرونة من جانبه. وهو ما يعلق عليه أبوالغيط بالقول: «إن تفاهمات واشنطن عندئذ فى فبراير 1978 حكمت وإلى حد كبير الصياغات والمفاهيم التى جاءت بها الولايات المتحدة فى الشهور التالية وصولاً إلى كامب ديفيد الثانية فى سبتمبر 1978 التى شارك فيها حينذاك رئيس الوزراء الإسرائيلى مع كل من كارتر والسادات». فى نهاية فبراير 1978 حضر لمصر روى أثرتون مساعد وزير الخارجية الأمريكية تنفيذاً لتفاهمات واشنطن ولتقديم دعوة أمريكية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى للحضور إلى الولايات المتحدة للمزيد من المناقشات بين الجانبين الأمريكى والإسرائيلى، وانتهز السادات زيارة المبعوث الأمريكى وحمّله رسالة مكتوبة إلى رئيس وزراء إسرائيل تضمنت عناصرها أنه يرسل هذه الرسالة مع المبعوث الأمريكى الذى يسعى من خلال جهد مُخلص إلى مساعدة الطرفين المصرى والإسرائيلى على التوصل إلى تسوية شاملة تقوم على خلق الظروف التى تحقق إقامة علاقات جوار طيبة، وأن الرئيس يستشعر القلق من أن جهود السلام حتى الآن تسير فى الاتجاه الخاطئ، فبدلاً من التركيز على جوهر التسوية الشاملة فإن النقاش يدور حول صياغات وكلمات، وأن الرئيس يقترح أن يُتفق على جوهر المسائل وفى مقدمتها مسألة الانسحاب، والقضية الفلسطينية وكيفية تسويتها، وتأمين الأمن لكل الأطراف، وأكد الرئيس استعداده للقبول بفكرة حاجة إسرائيل للأمن، إلا أن ذلك الأمن لا يجب ولا يمكن أن يتم على حساب الأرض أو السيادة، كما أوضحت الرسالة أيضاً أن قوى الرفض فى العالم العربى والاتحاد السوفيتى تسعى بنشاط لتخريب المبادرة، إلا أن مصر والرئيس يتصدى لهم، كما أن الإرهاب ومحاولاته التى تتمثل فى قتل «يوسف السباعى» لن تهز الموقف المصرى أو تفرض عليه التراجع. ومع ذلك فإن رئيس الوزراء الإسرائيلى يجب أن يعى -هكذا قالت الرسالة- أنه أعطى هذه القوى كروتاً لمحاربة المبادرة بتصرفاته ومواقفه منها، وقال السادات فى رسالته إنه لم يتحدث عن حرق المستوطنات فى أراضى مصر بل أكد فقط رغبته فى إخلائها وإعادة الأراضى لمصر، وأكد الرئيس فى فقرة أخرى بالرسالة أنه لا يزال يتمسك بأفكاره فى عدم عبور القوات المسلحة المصرية الرئيسية خط الممرات إلى عمق سيناء، وقال فى نهاية الرسالة: «إذا ما كان رئيس الوزراء جاهزاً للسلام، فإن الرئيس (السادات) جاهز أيضاً له. أما إذا ما كانت إسرائيل ماضية فى التمسك بالمفاهيم القديمة فإن هذا الموقف سيقود إلى دائرة عقيمة ومفرغة من المواقف والتطورات».
وجاء الرد الإسرائيلى فى رسالة من مناحم بيجين حملها أثرتون لمصر لتعكس التشدد والتعنت الإسرائيلى الذى رفض مفهوم الانسحاب الكامل من الأراضى المحتلة طبقاً لقرار مجلس الأمن، مكرراً ادعاءاته عن الحرب الدفاعية وأن الحرب فُرضت على إسرائيل فى عام 1967، وبالتالى فلا تستطيع إسرائيل الآن أن تسلم بالانسحاب من الأراضى التى تتيح لها الدفاع الأمثل، كما تحدث عن الحق فى إعادة تخطيط حدود الدول والمجتمعات فى أعقاب الحروب الدفاعية مع الإشارة إلى التاريخ الأوروبى كمثال يحتذى فى هذا الصدد!
فى هذه الأجواء طرح الأمريكيون فكرة عقد جولة جديدة من المفاوضات فى لندن خلال الأسبوع الأخير من يونيو، كان الأمريكيون يستشعرون ضغوط احتمالات المواجهة الأمريكية الإسرائيلية إذا ما قدمت الولايات المتحدة طرحاً غير مواتٍ للمصالح الإسرائيلية، من هنا جاءت رغبتهم، كما يقول أبوالغيط، فى عقد هذا الاجتماع الثلاثى ليشرح كل طرف منطلقاته وأهدافه، إلا أن محمد إبراهيم كامل كان يعارض عقد ذلك المؤتمر بسبب الموقف الإسرائيلى السلبى من الطرح المصرى للموقف، والذى تضمن موافقة إسرائيل على بحث طبيعة العلاقة المستقبلية مع الفلسطينيين فى نهاية الأعوام الخمسة التى تمثل المرحلة الانتقالية، ما اعتبره كامل مراوغة إسرائيلية لعدم الإفصاح عما سيكون عليه الوضع النهائى للضفة وغزة، إلا أن السادات وافق على عقد اجتماع لندن رغم اعتراض وزير الخارجية، وأوضح السادات لكامل وللأمريكيين أنه لن يوافق إلا على هذا الاجتماع الوحيد ثم تبدأ عملية تنفيذ السيناريو المصرى الأمريكى المتفق عليه، فتقرر عقد الاجتماع فى قلعة ليدز بجنوب لندن يومى 18 و19 يوليو، وهناك طرح موشى ديان رؤية إسرائيل لكيفية تمكين الفلسطينيين من حكم أنفسهم من خلال انتخابات تتيح تشكيل مجلس فلسطينى للحكم الذاتى والمرحلة الانتقالية التالية لمدة 5 أعوام تعود بعدها الأطراف للمزيد من مناقشات ومفاوضات عناصر التسوية، وهو ما فنده الوزير إبراهيم كامل فى كلمته معبراً عن رفضه المطلق للطرح الإسرائيلى، بعده أكد الدكتور أسامة الباز على أن مصر تستهدف إشراك الفلسطينيين فى المفاوضات مع إسرائيل، كما أنها تصمم على ضرورة أن يكون مفهوم التسوية واضحاً منذ البداية ومع بدء المرحلة الانتقالية ومدتها أيضاً طبقاً لرؤية مصر 5 أعوام، لتنتهى بإنشاء دولة فلسطينية يكون لها ارتباط ما متفق عليه مع الأردن، مع التأكيد على حسن علاقات الجوار بين الدولتين. كما نوقشت ترتيبات الأمن المقترحة بين مصر وإسرائيل، وكانت تدور حول الموافقة المصرية على إقامة مناطق منزوعة السلاح على الجانبين المصرى والإسرائيلى وإنشاء محطات إنذار مبكر على جانبى الحدود وتدار من قبَل طرف ثالث، وهى ليست المرة الأولى التى نُفذت فيها الفكرة، حيث نفذها «كيسنجر» بين الجانبين فى فضّ الاشتباك الثانى فى مايو 1975 فى سيناء، إضافة إلى إمكانية النظر فى إقامة مناطق محددة التسلح بكمياته وأنواعه، وهى أيضاً فكرة نفذها الجانبان فى فضّ الاشتباك الأول والثانى فى عامى 74 و75 مع اقتراح وضع قوات حفظ سلام دولية على الحدود، وأخيراً اعتراف مصر بأن مضيق تيران يُعتبر ممراً دولياً للجميع حق الملاحة خلاله، وامتدت المناقشات فى اليوم التالى لوضعية القدس، حيث أصر الجانب المصرى على سيطرة الفلسطينيين أو الدول العربية على القدس الشرقية لتبقى المدينة موحدة وتدار من خلال مجلس أعلى طبقاً لمقترحات وتفكير «السادات» فى الموضوع. يتوقف أحمد أبوالغيط عند اجتماع آخر عُقد فى الإسكندرية بين الرئيس السادات والمبعوث الأمريكى أثرتون فى 30 يوليو عام 1978 وحضره وزير الخارجية المصرى، وأحمد ماهر، حيث أبلغ أثرتون السادات برغبة كارتر فى إقناع مصر بالقبول بفكرة عقد اجتماع ثلاثى إضافى لوزراء الدفاع والخارجية، الهدف منه البحث عن تسوية للقضية الفلسطينية تقوم على التوصل إلى اتفاق فى بداية المفاوضات على المبادئ العامة أو الأسس التى تحكم هذه التسوية بحيث يكون مفهوماً ومستقراً منذ بداية الفترة الانتقالية أن التسوية النهائية ستكون مبنية على القرار 242 بما يتضمنه من وجوب انسحاب إسرائيل، وأن هذا المنهج المقترح يختلف عن التفكير الإسرائيلى الذى يسعى لترك هذه المسألة مفتوحة ولا يكون هناك التزام بها مقدماً، وأضاف أن الولايات المتحدة تنتقى الأفكار التى تبلورها حالياً من مصادر متعددة: مشروع بيجين للحكم المحلى، والنقاط التسع التى عُرضت على مصر فى أبريل 1978 وأخيراً المقترحات المصرية الخاصة بالانسحاب الإسرائيلى وضمانات الأمن. وهو ما علق عليه وزير الخارجية إبراهيم كامل بالقول إن الخلاف الرئيسى بين مصر وأمريكا تركّز على النقاط التى تبلور التفكير الأمريكى، وإنه مندهش مما يطرحه الأمريكيون لأنه نسخة من أفكار بيجين، لأن الالتزام الوحيد على إسرائيل هو الالتزام بالتفاوض أثناء الفترة الانتقالية حول بعض النقاط ومنها الانسحاب.
وهنا يتوقف أبوالغيط فى هذا الاجتماع عند حديث الرئيس السادات، الذى اتهمه الفلسطينيون والعرب بالخيانة، بينما كان أصدقهم وأشرفهم، وأكثرهم دفاعاً عن الأرض حينما تركوه وحيداً. وهو ما يتضح بقوله للمبعوث الأمريكى: «إن ما يريده الإسرائيليون هو الأرض والأرض فقط.. ولكى نقنع إسرائيل بالتخلى عن أطماعها، عرضنا عليهم الترتيبات الأمنية الستة التى تحدثت بها مع فايتسمان، ذهبت إلى أبعد مدى وعرضت عليه الموافقة على عقد حلف عسكرى بين أمريكا وإسرائيل فى مقابل تخليها عن أطماعها الإقليمية وفى الأرض، لن أجلس مع الإسرائيليين على أى مستوى إلا إذا كان هناك تسليم بأن الأرض التى احتُلت عام 1967 لا يمكن أن تكون محلاً لأى تنازل. إن مصر على استعداد لإعطاء إسرائيل أى شىء تحت الشمس ما عدا الأرض والسيادة. بل إننى مستعد لإعطائهم المياه لرى منطقة فى النقب مقابل كل مستوطنة ينسحبون منها فى الضفة الغربية بحيث يكون مسلَّماً به أن إسرائيل ستبقى فى حدودها ولا تتوسع».
لقد أظهرت الصياغات السابقة التى جاءت فى حديث الرئيس السادات أمام المبعوث الأمريكى أثرتون وسفير الولايات المتحدة لدى القاهرة هيرمان إيلتس أن السادات حدد استراتيجية المرحلة التالية التى تستدعى قيام أمريكا بالإعلان عن إطار عام يحكم عناصر التسوية، ثم التفاوض بعد ذلك بين الأطراف على تنفيذ كل بنود هذا الإطار، لم تنتظر مصر كثيراً، فقد جاء الرد الأمريكى فى صورة الإعلان عن زيارة يقوم بها سيروس فانس خلال أيام قليلة إلى الشرق الأوسط، وحيث وصل إلى إسرائيل يوم 5 أغسطس ومصر يوم 7 أغسطس. واجتمع الوزير محمد إبراهيم كامل مع سيروس فانس ومساعديهما فى إحدى قاعات فندق فلسطين، وفى مساء 7 أغسطس التقى سيروس فانس على انفراد بالرئيس السادات، وأبلغه بدعوة كارتر لكل من قادة مصر وإسرائيل للاجتماع به فى كامب ديفيد بالولايات المتحدة للبحث فى تسوية الموقف وتحقيق الانفراج فى المفاوضات المتوقفة.
المفاوضات الأخيرة
فى الخامس من سبتمبر هبطت طائرة الرئيس المصرى السادات فى الولايات المتحدة ثم انتقل ومرافقوه لمنتجع كامب ديفيد، كان يرافقه فى الوفد وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل، وأحمد ماهر، ونبيل العربى، وأسامة الباز وعبدالرؤوف الريدى وأحمد أبوالغيط. ثم عُقد الاجتماع الثلاثى على مستوى القمة مساء يوم الخميس 7 سبتمبر، وكان لقاء حاداً، فقد رفض فيه مناحم بيجين المقترحات المصرية سواء إنهاء الوجود الإسرائيلى الاستيطانى فى سيناء أو الانسحاب من القواعد الجوية العسكرية بها، وطرح بيجين بعض الأفكار التى يمكن من خلالها تحقيق بقاء المستوطنين على الأرض المصرية.. ورفض السادات بحزم كل هذه الأطروحات، وتكهرب الموقف.
رُفع الاجتماع، وجرى العديد من المشاورات، ثم الصمت لمدة 6 أيام. ثم قدم الأمريكيون وثيقتهم التى تتضمن مقترحاتهم بشأن التسوية صباح يوم الاثنين 11 سبتمبر للفريق المصرى، وتضمنت الوثيقة النص الأمريكى لمقترح تحت اسم «إطار للسلام فى الشرق الأوسط ووفق عليه فى كامب ديفيد»، وتضمن المقترح ديباجة قريبة للغاية مما جاء فيما عرضته مصر يوم 6 سبتمبر مع وضوح إشارات محددة مثل عدم جواز الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة وأن السلام يقتضى إقامة علاقات طبيعية بين الأمم بما فيها الاتفاق على ترتيبات للأمن، ثم ينقسم الإطار أو الوثيقة بعد الديباجة المستفيضة إلى قسمين أحدهما خاص بإسرائيل ومصر والآخر بشأن الضفة الغربية وغزة، وكان الملاحظ أن الجزء الخاص بمصر وإسرائيل قد خلا من الكثير من التفاصيل حول الانسحاب والخروج من المستوطنات أو المطارات مع الاعتراف بسيادة مصر الكاملة حتى حدودها الدولية مع فلسطين تحت الانتداب وكذلك إقامة سلام كامل بين البلدين، وفى القسم الخاص بالضفة الغربية وغزة وضح أن الأمريكيين يرغبون أن تتفاوض مصر وإسرائيل حول مستقبل التسوية الفلسطينية فى كل عناصرها وأن الحل المستهدف يجب أن يعترف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين وتمكينهم من المشاركة فى تقرير مستقبلهم. ويستمر المقترح الأمريكى فى تبنى فكرة المرحلة الانتقالية التى مدتها خمسة أعوام وتمكين السكان من الحكم الذاتى الكامل، ووضح أن التركيز ينصب على تحمل مصر لمسئوليات المفاوضات إذا ما غاب الأردن عنها.
كان الوفد المصرى يستشعر الأخطار الضاغطة على المفاوض المصرى وخشيته من الفشل وعواقبه إذا ما قامت أمريكا بتحميل مصر مسئولية هذا الفشل، وما للأمر من انعكاسات على مستقبل العلاقة المصرية الأمريكية، على الجانب الآخر كان تمسك وزير الخارجية والفريق المصاحب له بأساسيات الموقف المصرى والعربى يفرض ثقله على الوفد المصرى كما يقول أبوالغيط الذى يتوقف ليحكى موقفاً مع جيمى كارتر قائلاً: «كنا نسير -أحمد ماهر وأنا- مع الوزير إبراهيم كامل، يوم 13 سبتمبر، وإذا بالرئيس الأمريكى كارتر يظهر وهو يستقل إحدى الدراجات ومرتدياً بنطلون جينز، ووقف ليتحدث مع الوزير إبراهيم كامل وأخذ الرئيس الأمريكى يحاول طمأنة وزير خارجية مصر وأن ما يسعى للقيام به هو التوصل إلى تسوية شاملة تعطى الفلسطينيين حقوقهم على مدى زمنى محكوم. وقال إنه ينوى دعوة الأمير فهد وسعود الفيصل إلى واشنطن فور انتهاء أعمال القمة للحصول على تأييدهما للاتفاق. وأضاف أنه يعلم أن الملك حسين يجلس حالياً على السور ولا يرغب فى القيام بأى مخاطرة، إلا أنه -أى كارتر- ينوى دعوته هو الآخر للحضور إلى الولايات المتحدة وإقناعه بجدوى ما هو مطلوب من مشاركته فى المفاوضات المقبلة مع إسرائيل حول مستقبل الضفة وغزة. وكان حديث كارتر يعكس -فى تقديرى- قدراً كبيراً من الثقة فى قدرته على إقناع هذه الأطراف العربية بقبول الاتفاق ومباركته، وفى هذا السياق أوضح كارتر أنه يرغب فى تجنيب تحميل الرئيس السادات بعبء أى تسوية خاصة بالقدس. من هنا فهو ينوى إخراجها من أى مشروع إطارى سيتم التوصل إليه خلال مفاوضات كامب ديفيد. وأخذ الوزير محمد إبراهيم كامل يجادل كارتر فى أفكاره الأساسية وأن كلاً من الأمير فهد والملك حسين لن يشاركا فى أى جهد إلا إذا وثقا أنه يتم نتيجة لاتفاق عادل يحفظ للفلسطينيين حقوقهم، وأنه أى الوزير المصرى لا يرى أن الاتفاق المقترح يحقق هذا العدل المطلوب للفلسطينيين، وأنه إذا ما رغب كارتر فعلاً فى تحقيق انفراجة عربية- إسرائيلية فعليه أن يعدّل بعض الأفكار الواردة بالاتفاق الإطارى أو أن يعيد تضمين أفكار أسقطها الإسرائيليون».
وضح أن الموقف فى 14 سبتمبر أخذ يزداد حساسية لتصميم الجانب الإسرائيلى على عدم تقديم أى تنازلات بأى شكل من الأشكال؛ سواء فيما يتعلق بمستقبل التسوية الفلسطينية أو مسألة الانسحاب الإسرائيلى الكامل من سيناء. وهو ما دعا الرئيس السادات إلى الإعلان يوم 15 سبتمبر عن نيته الرحيل لواشنطن. وبمجرد علم الجانب الأمريكى بموقف الرئيس السادات سارع سيروس فانس إلى زيارته فى مقره، طالباً منه إعادة النظر فى قراره. فتمسك السادات بقراره وعبّر عن عميق الشكوى والرفض لمواقف إسرائيل التى جاءت على لسان موشى ديان. وبعد عدة دقائق جاء كارتر مهرولاً لمقر السادات وأمضيا معاً ما يقرب من 40 دقيقة، وأقنعه بالبقاء ليوم أو يومين آخرين مع وعده ببذل كل الجهد لتحقيق مطالب مصر. وقال السادات لفريقه التفاوضى إن كارتر كان مأخوذاً من قراره وإنه أبلغه أن ذلك سيؤدى إلى خسرانه الانتخابات الأمريكية القادمة. وهو ما يعلق عليه أبوالغيط بالقول: «كشفت المصادر والكتابات الأمريكية فى السنوات التالية لكامب ديفيد أن كارتر قال للرئيس السادات إنه بانسحابه عليه ألا يتوقع أى مساندة فى مستقبل الأيام من كارتر، كما أن هذا الفشل فى كامب ديفيد سيؤدى إلى توتر الموقف بين مصر وإسرائيل ولن تستطيع أى جهود أمريكية تجاوز هذا التوتر الذى قد يقود إلى حرب جديدة. وأقول إن السادات كان يرغب بعد أن تبين الصعوبات التى تواجهه بسبب التعنت الإسرائيلى، أن يحصل على دعم أمريكى كامل لمطلبه فى قيام أمريكا بتنفيذ رؤيتها المحددة فيما يتعلق بسيناء وضرورة إخلائها بالكامل وتسليمها للسيادة المصرية».
بالفعل تم بعد ذلك خلال يومى الجمعة والسبت 15 و16 سبتمبر 1978 التوصل إلى تفاهم نهائى حول إطار السلام وشكل التسوية، تضمن أساساً الاتفاق على قيام الجانب الإسرائيلى، فور العودة إلى إسرائيل وخلال 15 يوماً، بطرح مسألة انسحاب إسرائيل بالكامل من سيناء وإخلاء المطارات والمستوطنات على الكنيست للتصويت، وقبول الرئيس السادات لهذا المخرج للأزمة فى مقابل موافقته على إطار السلام المقترح فى شقّه الخاص بسيناء والضفة الغربية وغزة، شريطة تصديق الكنيست على هذا التفاهم، ما يعلق عليه أبوالغيط قائلاً: «أخذت أفكر ملياً فى الموقف، وأتساءل: كيف استطاع الأمريكيون إقناع الإسرائيليين بقبول الخروج الكامل من سيناء وإخلاء المستوطنات والمطارات رغم أن موشى ديان كان قد أكد للرئيس السادات منذ يوم واحد، مثلما شاهدنا، وبلغة غير قابلة للتشكيك، أن إسرائيل لا تستطيع الانسحاب الكامل من سيناء؟ وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن الأمريكيين والإسرائيليين كانوا يعلمون منذ البداية أنه لن يمكن لإسرائيل الاحتفاظ بأى وجود عسكرى أو استيطانى فى أراضى مصر تحت أى شكل أو وضعية.. إلا أنهم كانوا يرغبون فى الحصول على موافقة السادات بالنسبة للإطار الخاص بالضفة الغربية وغزة، من هنا قابل ديان الرئيس السادات لكى يحبطه ويدفع به لتصعيد الموقف، ثم يأتى كارتر لكى يبلغه أنه سيفرض الانسحاب على إسرائيل من سيناء».
قدم وزير الخارجية المصرى استقالته للرئيس السادات الذى أصر على استكمال السلام مع إسرائيل فى كامب ديفيد، ويتوقف أبوالغيط ليحكى عما قاله السادات للدكتور نبيل العربى حينما حاول إقناعه بأن التفاهمات مع الإسرائيليين غير ملزمة، قائلاً: «عندما انتهى العربى من عرضه قال له الرئيس: لقد استمعت لك مثلما ترى بأكبر قدر من الاهتمام، لقد دخلت آراؤك من هذه الأذن وخرجت من الأخرى. أنتم يا أعضاء وزارة الخارجية لا تفهمون شيئاً فى السياسة أو فى مصالح بلادكم، تتحدثون بالنظريات، أنتم لا تفهمون أن أولادكم وأحفادكم يمكن أن يعيشوا طويلاً فى ظل احتلال أراضى مصر. إن مسئوليتى الأولى هى مصر، وأنا كرجل دولة يجب أن أسعى بكل الوسائل إلى تخليص بلدى وأراضيها من هذا الرهن الذى تتعرض له. سوف أحقق ذلك ولن يوقفنى شىء من أحاديثكم وآرائكم غير الواعية».
- See more at: http://almogaz.com/news/politics/2013/09/27/1114411#sthash.EefgtxS1.dpuf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق