الجمعة، 17 مايو 2013

دراسة للأستاذ جمال سعد محمد حول المجموعة القصصية الأولى للقاص / ايمن الأسمر

عرضت منذ فترة دراسة لم تنشر للأستاذ/ فتحي المالكي حول مجموعتي القصصية الأولى "الوقوف علي قدم واحدة" ، وأعرض اليوم لدراسة نشرت للأستاذ/ جمال سعد محمد حول نفس المجموعة القصصية ، يجدر الإشارة إلى أن قصص هذه المجموعة كتبت بين عامي 1984 و 1988 ، وتوقفت بعدها عن الكتابة لمدة 13 عاما كاملة.

تفاوت المستوى اللغوي ونمطية القص في (الوقوف على قدم واحدة)
جمال سعد محمد

إن اللغة أداة الكاتب في التعبير عن الحكاية ، وهو يوظفها من أجل وصف البيئة والشخصيات ، ونقل الخواطر والشحنات النفسية التي ينفعل بها أبطال القصص في موقفهم من الحياة وقضايا الإنسان ، ولذلك ينبغي أن يراعي الكاتب الدقة التامة في اختيار الكلمات ، والتراكيب التي تحمل الدلالات المناسبة للأحداث التي يعبر عنها ، ويبتعد بقدر الإمكان عن التعبيرات والدلالات العامة المهمومة التي لا تقع على وصف محدد مقنع.
وفي لغة مجموعة (الوقوف على قدم واحدة) لأيمن مصطفى الأسمر يلحظ القارئ تفاوت المستوى اللغوي وتنوعه ، فالكاتب قد جنت عليه ثقافته ولذلك لم يستطع التخلص منها في صياغته ، ففي قصة (التدمير الذاتي):
"في أرضها المختارة شيد ، وهي معه كل الأحلام ، جعلا منها بنيانا ، كانت جلستها الناعمة تغمره بالدفء ، ولأنها معه ظن أنه ملك الدنيا بين يديه ، وفي كل يوم ، وكل ساعة كان يستكتبها وعدا بالحب وآخر بالإخلاص وثالث بالأمان .."(1)
نجد أن أيمن الأسمر التزم أو ألزم نفسه بتسليط الضوء المناسب على الجانب الأخلاقي في حياتنا ، وجعل أغلب شخصيات قصصه ممتثلة لواقعها ، لا تألو جهدا من أجل تغييره ، كما أنه اضطر إلى اختيار معظم أبطاله وبطلاته من الشخصيات المثالية ، أو ذات الأحاسيس المرهفة وهي في الغالب شخصيات نمطية تكاد تحكي كلها نموذجا واحدا ، ابتكره القاص ، وتتحدد خصائص هذا النموذج في أنه أخلاقي المنحى ، مثالي السلوك ، وتسير حياته في خط مستقيم ، وإذا ما اعترضته صعاب يتغلب عليها بعزيمته وإرادته:
".. في جوف مدينتنا نمضي والنشوة تعصب أعيننا ، من أجل الهدف نعيش ونغمض أعيننا عما يتراءى في الأفق الساكن ، هدير مخبوء يعرف إلى أين يسير ..."(2)
وتقديم الكاتب لوجهة نظره على لسان أبطال قصصه شيء لا يعترض عليه فنيا إذا نجح أن يتوارى خلف شخصياته ويبدو محايدا ، ويجعل الأفكار تتفاعل من خلال الحوار الذي يعبر عن منطق الأحداث ، وقد نجح القاص أيمن الأسمر في ذلك:
"قال له صديق مقرب: في منامي رأيتك تموت.
نظر إليه مستغربا ثم ضحك ، وقال له: أرو لي بالتفصيل ، أجابه: رأيتك ممدا فوق محفة ، كنت أحملك وزميلان آخران ، سرنا طويلا ، إلى أن وصلنا منطقة مهجورة قد تكون المقابر ، أنزلناك من فوق المحفة ، ووضعناك على الأرض .."(3)
وبروز شخصية الكاتب على حساب شخصيات قصصه أدى بالضرورة إلى التأثير على مستوى اللغة في صياغة الأحداث ، ونسج الحوار مما يجعل القارئ يشعر بتفاوت المستوى اللغوي.
ومن مظاهر تفاوت المستوى اللغوي في المجموعة أن الكاتب يستخدم بجانب التراكيب التراثية تعبيرات قاموسية ، ثم تعبيرات دارجة يستخدمها الناس في حياتهم اليومية ، ومن مظاهر التنوع في اللغة إثراؤها بالمواقف التي تعتمد على (الديالوج الداخلي) حيث يسترجع الكاتب عن طريق شخصيات قصصه مواقف معينة ، ، ويجري حوارا بين الشخصية ونفسها ، وخاصة تلك الذكريات التي يختزلها في أعماقه ، وأيضا التعبير بلغة (تيار الوعي) الذي يعبر فيه الكاتب عن الأحداث بترتيبها في اللاشعور لا بترتيبها في الواقع الخارجي ، ويظهر في قصتي (الحادث) و (رؤى) وكلك قصة (لحظة عطاء).
ويلاحظ القارئ لمجموعة (الوقوف على قدم واحدة) للقاص أيمن الأسمر ضعف التبرير المنطقي مثلما في أول قصص المجموعة والتي تحمل عنوان المجموعة ، فالكاتب يدير الحوار بين شخصيات منتمية إلى (الموظفين) حيث يجلس أحد الموظفين على كرسي يقف على ثلاثة أرجل في ارتياح وتوازن تامين ، وتنتهي القصة بأن يبتسم ويقول للكاتب: الآن أصبحت منا.
ومادامت الشخصيات سوية الخلق ، فهي أيضا سوية الخلقة فلا يحفل الكاتب بإبراز صفات جسمية لتلك الشخوص ، فقط يذكرها بحكم انتمائها الأسري أو وظيفتها ، ففلان أب أو أخ أو حبيب أو زوج ، أو يشغل منصبا في شركة ما أو مصلحة حكومية ، ولا يعرج على الوصف الجسماني ، فتشابهت شخوصه جسميا وخلقيا ، لأن هناك خطا واحدا يراد التعبير عنه ، وهو المبادئ والمثل العليا والأخلاقيات ، ونحن نرى أن أيمن الأسمر في تركيزه على الجانب الأخلاقي اتجاها مرسوما لتوظيف الأدب نحو الفضائل والقيم الخلقية بمعنى أن يسلط الأدب الأضواء على هذا الخط وفي هذا تجنح القصص إلى المباشرة والتقريرية اللذين يجنيان على العمق الفني وأصالة الإبداع وفي هذا شاء أيمن الأسمر أن يتجه بقصصه اتجاها أخلاقيا.
وحين تقرأ هذه المجموعة ، تحس أنك صادقت كاتبا فاضلا لا يسئمك أو يضجرك ، ولا يطيل عليك قولا أنت في غنى عنه ، ولا يؤذي شعورك بحادث تنفر منه أو تمتعض لمجرد الإشارة إليه ، وحين تبدأ في القراءة تجد القصة تسير في تسلسل منطقي فلا كلمة زائدة أو فقرة دخيلة أو جنوح عن الفكرة ، وإنما كل شيء محسوب تماما وأحسبه يضع الإطار العام لقصته بكل تفاصيله قبل شروعه في الكتابة ولا يسمح لنفسه أن يكتب على سجيته وإنما كل شيء مرتب ومحدد سلفا.
إن مجموعة (الوقوف على قدم واحدة) لأيمن مصطفى الأسمر تعبر عن الواقع بما فيه من خير وشر ، وتصف العادات والتقاليد والقيم التي تسود بعض أوساط المثقفين وتصور بحق هموم إنسان مثقف إزاء ما يدور في واقعه من قضايا فكرية وسياسية واجتماعية.
وقد نجح أيمن الأسمر في إقناعنا بموهبته القصصية ورسوخ قدمه في مجال الإبداع ، وقدرته على تصوير هموم الإنسان المثقف واقترابه من بغضه الذاتي في علاقته بالمرأة وقضايا وطنه مما يبشر بمولد قاص له موقفه المميز ورؤيته المتفردة في النظر إلى قضايا الوجود الإنساني.
ومعايشة قصص هذا الكاتب تلفت نظر الدارس إلى عدد من الظواهر:
أولا: لا نجد من بين عناوين قصصه القصيرة ـ التي بين أيدينا ـ عنوانا واحدا يحمل اسم الشخصية الرئيسية فيها ، وإنما اختيرت العناوين بحذق ومهارة ، بحيث تدل على معنى أو ترمز إلى فكرة أو تلمح إلى موقف أو تشير إلى حالة مثال ذلك "طيور وحيوانات / عودة الحياة / لحظة عطاء / محاولة اغتيال / متتابعة القتل / التدمير الذاتي).
وتوحي عناوين قصص المجموعة بأن الشخصية المحورية رجل فإنا لا نعثر على ما قد يفهم منه أن الشخصية المحورية امرأة ـ لذلك قلنا اقترابه من بغضه للمرأة ـ حيث نلاحظ اختفاء صورة المرأة في معظم القصص ، إذا أن البطولة في الأغلب الأعم من القصص للرجل ، فالمرأة لا تتجسد ولا تتحرك ، ولا تؤدي دورا ، وإن ذكرت ، فبقدر ما يتصورها الرجل/البطل ، أو بقدر ما يريد لها أن تكون ، لكنا لا نراها ولا نسمعها ، ولا نستشعر أحاسيسها ومشاعرها ولا تتاح لنا فرصة معرفة أفكارها أو آرائها ومواقفها.
ولا نغالي إذ قلنا أن الإشارة العابرة لظل المرأة ، لم تتوافر إلا في أربع قصص هي (عودة الحياة / موجة / التدمير الذاتي / مسافر) وهكذا ينفرد الكاتب بهذه السمة التي يندر أن يشاركه أحد فيها.
ثانيا: يبتعد الكاتب ـ إلى حد كبير ـ عن العناوين المطولة ومعظم عناوين القصص عبارة عن كلمة واحدة والقليل جدا يتكون من صفة وموصوف (موجة / صحوة / الحادث / رؤى / مسافر).
ثالثا: إذا كانت اللغة تبدو قادرة حادة ، مدببة نحو الهدف فإنها تبلغ درجة الشعر المكثف المضغوط في قصته (التدمير الذاتي).
رابعا: الكاتب واحد ممن يستطيعون السيطرة التامة على لغتهم ، لما يملك من محصول لغوي وافر ، مفرداته لا تتكرر كثيرا ، يختار كلماته وألفاظه بعناية فائقة يحسن انتقاء كلمة الابتداء ، ليس في أول القصة فقط لكنه ينوع وينتخب الكلمة التي يبدأ بها الفقرة الواحدة ، فكل فقرة تبدأ بداية تختلف عن الفقرة التالية ، وهكذا بحيث لا نجد هذا التكرار الباعث على الملل لبدايات الفقرة.
وليس من شك في أن هذه القدرة لا تتأتى إلا لمن تعامل طويلا مع تراثنا اللغوي ، ولا أعتقد أن ثقافته اللغوية تكونت من طول تعامل مع النثر وحده ولكن الشعر يشكل جانبا كبيرا منها.
ومن الواضح أن أيمن مصطفى الأسمر استطاع أن يفصل فنه عن كل المؤثرات الخارجية ، ولعل استفادته الوحيدة هي نشر هذه المجموعة القصصية والتي كتب تاريخ كل قصة بعدها ليؤكد فترة توقفه عن الكتابة .. ومن ثم جاءت القصص بعيدة عن الإثارة والإغراب بعيدة عن التسطيح والابتذال تحترم اللغة وتعني بالكلمة الموحية الدالة والصورة المعبرة المجسدة ، تنتظم القصة وحدة فنية موضوعية ، ووحدة شعورية ، بحيث تبدو متماسكة شديدة الإحكام والترابط.

جمال سعد محمد
الزرقا - دمياط

هوامش:
(1) الوقوف على قدم واحدة. أيمن مصطفى الأسمر ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، سلسلة إبداعات 123 أغسطس 2000 ، قصة التدمير الذاتي ص 65 ، مع العلم بأن هذه المجموعة هي أول مجموعة ينشرها القاص.
(2) السابق. قصة متتابعة القتل ص 40.
(3) السابق. قصة رؤى ص 75.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق