مضى أكثر من ثلاثة شهور والحاج عبد الرحمن راقد بالفراش، لا يقوى على الحركة منذ خانته عصاه وفلتت منه،فسقط على درج سلم المسجد أثناء خروجه بعدما أنهى صلاة الفجر، لم يكن يحرص فقط على صلاة الفجر بالمسجد بل على جميع الصلوات، يقضى الصلاة ويجلس بعض الوقت مع أهل القرية هو والإمام خاصة إذا ما كان هناك من أمور يناقشونها بخصوص المسجد كإصلاح بعض النوافذ أو تغيير السجاد أو تخصيص بعض المقاعد لكبار السن في الصفوف الأمامية أو لزيادة الإضاءة، فمنذ تبرع ببناء ذلك المسجد منذ سنوات طويلة وهو الذي يتولى الانفاق عليه،وعلى جماعة تحفيظ القرآن، خاصة أن منزله يفصل ما بينه وبين المسجد بسور واحد .
وكثيرا ما كان يذكر للناس فضل الله وكرمه عليه منذ بنى المسجد، وهو كان صادق جدا، ولكنه لم يذكر القصة كاملة،فلا يذكر أنه أتى إلى تلك العزبة الصغيرة منذ سنوات، بإتفاق مسبق ليؤدي مهمة ، وهى شراء أراض زراعية,وبعد الشراء يشرع فى بناء مسجد، يسمى بإسمه، ولا مانع من بناء منزل يليق بالإمام، ثم تهل عليه نفحات بناء المسجد، فتقرر الدولة شق طريق على جانبي أرضه بمحاذاة بيت الله، فيبدأ بتقسيم الأراضي وبيعها، يحتفظ لنفسه بنصيبه ويرد الجزء الأكبر لولي نعمته،وقد كان نصيبه كافيا جدا لكى يتملك بضعة فدادين، استطاع أن يحافظ عليها وينميها،و عندما اشتد عليه المرض، طلب استدعاء بنتيه وأصر أن يحضرا مع زوجيهما، وحين اجتمعت البنتان مع باقى أولاده، طلب منهما أن يقتربا منه، مشيرا إلى إحداها أن تجلس على يمينه، والأخرى على يساره، بينما جلس أولاده الذكور وزوجا ابنتيه في مواجهته مع زوجته، ثم قال وهو يقبض على كف كل منهما : "أعلم أنكما غاضبتان مني، وأعلم أنكما تريان أنني ظلمتكما حين حرمتكما من ثروتي عند توزيع الميراث، ولم أعاملكما كأخوانكما، وأعلم أن ذلك سبب هجركما لي، ولكني سعيد أني وفقت في اختيار زوجيكما، فلم يبخلا عليكما بشىء، وقد مضت سنوات وبرغم ذلك لا أنسى ما فعلته معكما، ولأني على فراش الموت رغبت أن أكفر عن ذنبي لألقى الله غير آثم وأرجو أن تساعدوني جميعا.. ولم يكد ينهي جملته الاخيرة، حتى دعى له الجميع بالصحة وطول العمر، وبدت السعادة على وجه بنتيه وزوجيهما، بينما كانت الدهشة والترقب على وجه الزوجة والابنين.. ثم أردف قائلا : "العمر مهما طال قصير جدا، وقد أدركت ذلك بعدما مررت بتلك المحنة العصيبة، لذلك لن آخذ معي شيئا من متاع الدنيا،ولن ينفعني إلا عملي، لا مال ولا أرض، ثم ضغط بقوة بكفيه على كفي ابنتيه، فربتت كل منهما على كفه قائلتين : "ربنا يباركلك في صحتك وينور بصيرتك ويغفرلك ذنبك" ..
عاد قائلا : "طلب واحد أخير بطلبه منكم وقد لا ألقاكم بعد اليوم، أعلم أني مخطيء ، فلقد حاولت أن أعيد توزيع الميراث وفشلت، سامحوني، هكذا خلقني الله لا أستطيع" .. ولم يتفوه أحدا منهم بكلمة وأطبق الصمت عليهم دقائق حتى قطعه انصراف زوج الأولى وتبعه الثاني، ثم أفلتت كل بنت يدها، وتبعت كل منهما زوجها في هدوء.. في الصباح طاف الميكروفون القرية وضواحيها يعلن نبأ وفاة الحاج عبد الرحمن، وينبه أن الجنازة سوف تكون عقب صلاة الظهر من مسجد المرحوم، "مسجد عباد الرحمن" ،عند الظهر سمعت البنتان صوت أخيهما الأكبر يعلن في ميكروفون المسجد أنه يتعهد بسداد أي دين في ذمة والده لأي شخص، بشرط أن يحضر معه ما يفيد ذلك من مستندات، ثم أجهش بالبكاء..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق