إشكاليات الانتقال في أجيال العنف
مرت ظاهرة تنظيمات العنف الجهادية في الشرق الأوسط، عبر تاريخها، بمراحل انتقال شتي ما بين الصعود أحيانا، والتراجع في أحيان آخري، وشهدت أجيالا متعددة، اختلف الباحثون في تحديدها علي نحو محدد. لكن الثابت أن هناك توافقا عاما حول ثلاثة أجيال، أولها: جيل التنظيمات المركزية في مصر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ومن أبرزها تنظيم الجهاد والتكفير، والهجرة والجماعة الإسلامية في مصر، والجماعة الإسلامية المسلحة، والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، وعصبة الأنصار في لبنان، والجماعة الليبية المقاتلة، فضلا عن عدد من التنظيمات خارج العالم العربي، مثل حركة المجاهدين، وتنظيم جيش محمد في باكستان، وجماعة أبي سياف في الفلبين، ثم الجماعات التي نشأت في ظل القتال ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.
ثانيها: جيل الجهاد الأممي الذي نشأ في عام 1998 في أفغانستان بزعامة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، حيث تم تأسيس تنظيم القاعدة. أما الجيل الثالث والأخير، فيتمثل في تنظيم القاعدة، بعد أن انفرط عقده بين الدول المصدرة للمجاهدين، أو جماعات محلية، لكن تحت العباءة الفكرية نفسها للقاعدة وأخواتها، مع تعديلات في بعض الحالات. ومن أبرز تنظيمات الجيل الثالث، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش سابقا"، الذي تحول لاحقا للدولة الإسلامية، وجبهة النصرة في سوريا، وأنصار بيت المقدس في مصر، وأنصار الشريعة في ليبيا وتونس، والقاعدة في بلاد المغرب العربي، وأهل السنة للدعوة والجهاد "بوكو حرام" في نيجيريا، وغيرها.
والغريب أن ظاهرة التنظيمات الجهادية ظاهرة "متجددة". فكلما تراجعت تجربة في وقت ما، وفي مكان ما، تصاعدت تجربة أخري بثوب جديد، وفي منطقة جديدة. ولم يكن التراجع -حتي الآن- في مسيرة هذه التنظيمات يعني الانتهاء أو الفشل، بقدر ما كان يعني الخفوت نحو المراجعة والتقييم، فإذا بالمراجعة تنتج جيلا آخر قادرا علي الاستمرار، بعدما يكون الجيل الذي سبقه قد استنفد أغراضه، أو فقد قدرته علي الاستمرار في مواجهة خصومه، فإذا بجيل آخر يظهر بعد حين بعد إجراء تغييرات في الاستراتيجية. ولا تزال الظاهرة مستمرة، ويصعب التكهن بنهاية محددة لها. لكن الثابت في دورة تغير تنظيمات العنف، عبر أجيال متتالية، أن هناك تمايزا بين هذه الأجيال، وهناك اختلافات تظهر بين جيل والجيل الذي يليه، أو ربما داخل الجيل ذاته. وهناك إشكاليات غالبا ما تثار في رؤي هذه الأجيال في تصاعدها وفي تراجعها، غالبا ما كانت تؤثر في فكر هذه التنظيمات، وفي ممارساتها في الواقع. ونعرض لهذه الإشكاليات بقدر من التفصيل:
أولا- إشكالية تناقض الأهداف (العدو القريب أم العدو البعيد؟):
يري كثير من الباحثين أن أنصار الجيل الأول، "التنظيمات المركزية الكبري"، قد تأثروا بأفكار القطب الإخواني سيد قطب، الذي كان يري أن الإسلام مهمته تغيير الواقع، وأن التوحيد بمنزلة الثورة ضد الطغاة، وأن الخضوع للاستبداد يعد شركا، ومن ثم فهناك ضرورة لمجاهدة "العدو القريب"، أي نظم الحكم في الدول العربية والإسلامية، بحسبانها نظم حكم علمانية لا تحكم بالشريعة الإسلامية، وأنها غير وطنية بسبب موالاتها للغرب. ولذا، فإن الأولوية في فكر "قطب" يجب أن تعطي للكفاح ضد "العدو القريب"
من هذا المنطلق، نشطت تنظيمات الجيل الأول، منذ منتصف السبعينيات وحتي نهاية التسعينيات، في حرب ممتدة مع "العدو القريب"، فيما أحجمت عن مكافحة الغرب، وهو "العدو البعيد". ومن ثم، فقد وجه أنصار الجيل الأول جل أنشطتهم العنيفة إلي مواجهة النظام المصري العلماني، طبقا لوجهة نظرهم. وكانت هناك مقالة شهيرة لأيمن الظواهري -قائد تنظيم الجهاد المصري- عنوانها "الطريق للقدس تمر بالقاهرة"، أي أن القدس لن تتحرر إلا عندما تتحرر القاهرة من حكامها العلمانيين، إذ عُد ذلك ضرورة استراتيجية، وواجبا دينيا.
في المقابل، فإن جيل التنظيمات الجهادية الأممية -ممثلا في أسامة بن لادن وجماعته- قد دعا لمواجهة العدو البعيد، بعد أن نجحوا في حشد الآلاف من المجاهدين من دول العالم الإسلامي لمواجهة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية محل استهداف أو عداء من قبل المجاهدين. بل علي العكس من ذلك، كانت واشنطن تدعم المجاهدين في مواجهة الاتحاد السوفيتي، لكن التحول تجاه استعداء الولايات المتحدة حدث فيما بين عامي 1990 و1991. فطبقا لرأي الدكتور فواز جرجس، فإن التدخل الأمريكي في حرب الخليج (تحرير الكويت)، والوجود العسكري الثابت للقوات الأمريكية علي الأراضي السعودية، كانا السبب الرئيسي في هذا التحول، حيث عده "بن لادن" مؤامرة أمريكية لتأسيس قواعد ثابتة للقوات الأمريكية، ولإقرار الهيمنة علي البلدان الإسلامية، ونهب مواردها النفطية. ثم أعلن "بن لادن" عن عدائه الصريح للولايات المتحدة، حيث دعا إلي مقاومة العدو الذي غزا أرض الأمة، ودنس شرفها، وأراق دماء أبنائها، واحتل مقدساتها. ورأي بن لادن في نهاية عا م 1995 أن الجهاد الأممي هو الأداة الوحيدة الفاعلة في صد الهجوم الأمريكي، وإجباره علي الخروج من الأرض العربية والإسلامية. ثم أعلن في نهاية التسعينيات عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين".
ومن هنا، كانت انطلاقة القاعدة الرسمية، وقد انضم إليها أيمن الظواهري -قائد تنظيم الجهاد المصري، ممثل الجيل الأول لتنظيمات العنف- لكنه وجد معارضة شديدة من أنصاره في تنظيم "الجهاد"، رافضين تحوله لجهاد "العدو البعيد" بدلا من جهاد "العدو القريب" الذي كرس تاريخه الجهادي له.
أما أسامة بن لادن، فقد عارض طيلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي قتال المسلم للمسلم تأثرا بأفكار أستاذه عبد الله عزام الذي عارض إراقة دماء المسلمين، بمن فيهم الحكام القوميون، لأن التوجه إلي العدو القريب فيه إضرار بالجهاد والمجاهدين، إذ يؤدي إلي تنفير الناس من الحديث عن الجهاد، وخسارة تعاطف الرأي العام. وذكر "بن لادن" مرارا أن الجماعات المجاهدة التي أصرت علي البدء بالعدو الداخلي قد تعثرت مسيرتها، ولم تحقق أهدافها كإخوان سوريا، وليبيا، والجزائر.
لكن في مرحلة تراجع تنظيم القاعدة، بعد خروجه من أفغانستان بعد الحرب الأمريكية عليها، جري تحول في استراتيجية القاعدة، حيث انتشر أنصارها في الأقاليم، وانهمكوا في القتال ضد الأعداء المحليين "العدو القريب"، وذلك بالمخالفة لدعوة "بن لادن"، التي أكد فيها ضرورة تجنب القيام بعمليات في الدول الإسلامية، تجنبا لسقوط ضحايا من المسلمين، لكن يبدو أنه كان قد فقد السيطرة علي تنظيمه وفروعه في الدول العربية والإسلامية.
وليس أدل علي ذلك من قصة الخلاف الحاد الذي نشأ بين بن لادن مع "أبي مصعب الزقاوي"، قائد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، حول طبيعة العمل الجهادي وأولوياته في العراق. ففيما رأي الزرقاوي ضرورة التركيز علي "قتال طوائف الردة"، كان لـ "بن لادن" رأي آخر، حيث دعا إلي التركيز علي قتال المحتلين، قياسا علي تجربة الصومال، وإدراكا لحساسية سقوط الجندي الأمريكي في المعركة، قياسا بسقوط العراقيين، بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن خيارات الاحتلال، حيث لم ير بن لادن فائدة من القتال المشار إليه من قبل الزرقاوي، الذي كان يعني قتال كل الجهات التي تعمل مع الاحتلال الأمريكي. وقد اشترط الزرقاوي موافقة بن لادن علي أولوية "قتال طوائف الردة" شرطا للبيعة. وفي حال عدم تحقق الشرط، فإن الخيار هو "التعاون علي الخير، والتعاضد علي الجهاد".
أما الجيل الثالث من تنظيمات العنف، فقد آثر قتال ومهاجمة "العدو القريب"، ممثلا في حكومات الدول العربية والإسلامية، مثل جماعة "أنصار بيت المقدس" في مصر، أو مهاجمة العدوين معا (القريب والبعيد) مثل تنظيمي "داعش"، و"بوكو حرام". وإذا كان أنصار الجيلين الأول والثاني قد قاتلوا العدوين القريب والبعيد، أملا في قيام دولة الإسلام، كهدف بعيد المدي، فإن التنظيم الرئيسي في الجيل الثالث للعنف وبعض التنظيمات الأخري يري أن وقت إعلان هذه الدولة (الخلافة) قد حان.
ثانيا- الموقف تجاه إنشاء كيان مؤسسي (دولة أو إمارة):
حيث كان هناك خلاف جذري بين أجيال التنظيمات الجهادية، فالجيل الثاني (تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن) كان يحذر من فكرة الإقدام علي إنشاء كيان جغرافي محدد للتنظيم تحت مسمي الدولة أو الإمارة، في حين أن مسألة تأسيس دولة لدي بعض تنظيمات الجيل الثالث كانت بمنزلة "الحلم"، مثل تجربة "أبي بكر البغدادي" بإعلانه قيام الدولة الإسلامية في العراق، ومحاولة تنظيم "بوكو حرام" -بالتعاون مع حركة "أزواد"- تأسيس إمارة إسلامية في شمال مالي في أبريل 2012. ولكل من الجيلين وجهة نظره فيما يخص إنشاء الدولة، أو كيان جغرفي محدد.
فلم يكن الجيل الثاني -ممثلا في بن لادن وتنظيم القاعدة- مولعا بفكرة تأسيس دولة أو إمارة علي كيان جغرافي محدد، فقد كشفت الوثائق -التي وجدت في مخبأ بن لادن بعد اغتياله- مناقشات جرت بين زعيم القاعدة وقادة التنظيم في جزيرة العرب حول جدوي إنشاء إمارة إسلامية في اليمن، تكون منطلقا للتوسع نحو دول الخليج. فقد حذر"بن لادن" أنصاره من مغبة الإقدام علي تأسيس هذه الإمارة، ودعا إلي التركيز علي "عدو اليمن الخارجي"، ومحاولة كسب رضا السكان المحليين والقبائل، منتقدا العمليات التي نفذتها "القاعدة" ضد القوات اليمنية في كل من "مآرب" و"عتق"، مبررا هذا العدوان بقوله "عسي أن تكون هناك ضرورة دفعت إليها كالدفاع عن النفس". وأضاف "أما المجاهدون، فإذا أحسنوا التعامل مع القبائل، فستنحاز إليهم، إذ إن أثر الدم في المجتمعات القبلية عظيم". وقال بن لادن أيضا "لا نريد أن نزج أنفسنا وأهلنا في اليمن في هذا الأمر في هذا الوقت، قبل أن تتهيأ الأوضاع، فنكون كالذي يبني في مجري سيل. فإذا سال، اجتاح ذلك البناء وأسقطه. ثم إذا أردنا بناء البيت مرة ثانية، نفر الناس وانفضوا عن مساعدتنا".
ولاشك في أن قادة القاعدة قد فشلوا في اتباع مشورة بن لادن في كسب ود السكان المحليين، بعد أن دخلوا "أبين"، و"شبوة"، و"جعار"، و"عزان"، و"زنجبار"، مستخدمين العنف والقوة. كما أن ممارساتهم في هذه المناطق، كقطع الأيدي والرءوس، وقتل المدنيين، قد خلقت عداوة بين القاعدة والسكان المحليين.
والخلاصة أن "أسامة بن لادن" لم يكن مشجعا لفكرة إنشاء إمارة، مالم تكن هناك ظروف مهيأة ومشجعة علي ذلك، وبرضاء السكان المحليين. بل تشير تحليلات أخري إلي أنه كانت لديه حساسية قصوي من إقامة أي إمارة إسلامية.
أما "أبوبكر البغدادي"، فقد كانت تسيطر عليه فكرة تكوين الدولة من خلال السيطرة علي مساحة من الأراضي، تكون نواة لإقامة الدولة الإسلامية الكبري "دولة الخلافة"، من خلال مجابهة العدو القريب. لذا، فقد استغل سيطرة تنظيمه علي الموصل، وتكريت في العراق، وسارع بإعلان الدولة الإسلامية، في سابقة هي الأولي من نوعها، وتم تنصيبه خليفة للمسلمين، ودعا المسلمين إلي طاعته، وهو الأمر الذي جعله ينافس أيمن الظواهري -خليفة بن لادن- بقوة علي قيادة الجماعات الجهادية في العالم.
كما سعت "الدولة الإسلامية"، "داعش سابقا"، إلي إعادة رسم الجغرافية السياسية في المنطقة، وهدم نموذج الدولة القومية القطرية، وبناء نموذج متجاوز لنموذج "سايكس-بيكو"، حيث أعلنت الدولة الإسلامية عن إنشاء ولاية "الفرات"، تضم مدينة "البوكمال" السورية، ومدينة "القائم" العراقية، بحيث تُلغي الحدود بين البلدين، ويكون هناك تواصل أرضي بينهما، مستهدفة من ذلك إزالة الحدود التي فرضتها قوي الاستعمار علي الدول العربية. ومن هنا، كان شغلها الشاغل هو الإعلان عن الدولة الإسلامية في العراق.
وفي الواقع، فإن "دولة البغدادي الإسلامية" تفتقد مقومات الدولة، كما أنها تهدد وحدة العراق، وهي تسعي لفرض الشريعة والأحكام الشرعية علي الناس مباشرة، من خلال محاكمها، وقضاتها، ومؤسساتها البدائية. كما أن هذه الدولة ليست لها حدود متعارف عليها باستثناء خريطة تخيلية تضم مناطق من شرق آسيا لشرق أوروبا، وتشمل مساحات كبيرة من إفريقيا.
ومن ناحية أخري لا تعترف هذه الدولة بأية قواعد استقر عليها المجتمع الدولي، وترفض فكرة الدولة الحديثة، سواء من حيث الحدود، أو الالتزامات الدولية، وتحارب كل القيم الحديثة من خلال مشروع قائم علي "الاستباحة غير المحدودة للجميع"، علي حد قول د. شريف يونس. كما أن هذه الدولة لا تملك من سلطات الدولة سوي توقيع الجزاءات والعقوبات علي السكان المدنيين في المناطق التي يستولون عليها بدون إطار تشريعي أو قانوني سوي ما استقر في وجدانهم من فكر متشدد في تطبيق الشريعة الإسلامية. فبأي منطق يتم طرد مسيحيي الموصل و"الأيزيديين" الذين عاشوا عقودا طويلة كمواطنين أحرار في أمن وسلام في كنف العراق، الدولة الإسلامية والعربية؟، فضلا عما نسب لهم من ممارسات كسبي النساء، وبيعهم كجوار، وبيع أطفالهم كرقيق، وأخذ الفتيات عنوة للزواج من رجالهم، فليست هذه سمات الخلافة الراشدة التي يدعون.
فرسول الإسلام الكريم محمد -صلي الله عليه وسلم- عايش وتعايش مع اليهود من خلال "وثيقة المدينة"، التي تضمنت قيم ومبادئ التعايش المشترك بين كل مواطنيها من المسلمين، واليهود، وبعض المشركين، والإقرار بمبدأ التعددية، والقبول بالآخر المختلف دينيا وعرقيا وثقافيا. كما أن الدارس والمدقق في سيرة نبي الإسلام -صلي الله عليه وسلم- وسنته، يجده قد قدم مثلا إنسانيا رفيعا في التعامل مع الآخر، واحترام حقوقه ومقدساته.
وأين هم من حكم الخلفاء الراشدين؟، فالخليفة الأول أبوبكر الصديق كان يوصي قادة جيوشه بألا يقطعوا شجرة، وألا يهلكوا زرعا، أو حرثا، ولا يقتلوا شاة إلا لمأكلة، وألا يعتدوا علي الشيوخ، والنساء، والأطفال، وألا يتعرضوا لراهب أو عابد في صومعة، فقد كان يحذر جنوده من تدمير المدن، وعدم الاعتداء علي المدنيين. كما أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب منح مسيحيي بيت المقدس "العهدة العمرية"، وهي تعهد موقع من خليفة المسلمين، آمن فيها أهل بيت المقدس علي صلبانهم، وكنائسهم، ومعتقداتهم، وحرياتهم الدينية.
لكن إعلان "البغدادي" للدولة الإسلامية، وتنصيبه خليفة لم يجد ترحيبا من قادة الجهاد العالميين ومنظريه. فالمنظر الجهادي أبو محمد المقدسي أصدر بيانا من محبسه في الأردن، انتقد فيه البغدادي، وقال إن فتواه بضرورة طاعة كل المسلمين له إنما تؤدي إلي المزيد من سفك دم المسلمين، وتبث الفرقة والتنابذ بين الجهاديين. كما بث أنصار الظواهري فيديو يشار فيه إلي مبايعة أسامة بن لادن للملا عمر، زعيم حركة طالبان، ووصفه بأمير المؤمنين، وكان الهدف من ذلك تأكيد أن القاعدة وفروعها ملتزمة ببيعة الملا عمر. كما أعلن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ولاءه للظواهري، وانتقد دولة البغدادي التي لم تبحث عن دعم كبار قادة الجهاد مثل الظواهري، والملا عمر الذي ضحي بدولة كاملة، وهي أفغانستان، من أجل مجموعة صغيرة من المجاهدين، من بينهم أبو مصعب الزرقاوي، مؤسس الدولة الإسلامية في العراق. كما أشار أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة في سوريا، إلي أن خلافة البغدادي باطلة، وتدفع إلي القتال بين المجاهدين.
والغريب أن "الصراع المسلح" كان هو وسيلة التفاهم عندما دب الخلاف بين تنظيمي "البغدادي" و"الجولاني"، بعد أن ضاق الأخير ذرعا من مراقبة الأول له، ورغبته في السيطرة عليه. وقد سقط نتيجة هذا الصراع أربعة آلاف قتيل، وهنا تدخل الظواهري، وأعلن بقاء تنظيم الدولة الإسلامية في مكانها داخل العراق، وجبهة النصرة في سوريا والشام، دون الدمج بينهما، لكن الطرفين لم يستجيبا لذلك، ودخلت المواجهة بينهما حربا مفتوحة من التكفير والتفجير، مما عده قادة القاعدة انتكاسة للنموذج القاعدي.
ثالثا- إشكاليات الربيع العربي:
لاشك في أن ثورات الربيع العربي التي هبت علي مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا، واليمن كانت بمنزلة "الحدث الجلل" كما وصفها بن لادن نفسه، الذي كان مدركا ما آل إليه تنظيمه من تراجع حاد في شعبيته بين العرب والمسلمين، وتصاعد مشاعر العداء تجاهها. كما أن دعوته للجهاد الأممي لم تعد تجد ما ينصت لها بسبب الأعمال الإرهابية المحسوبة علي القاعدة، والتي طالت بعض الدول العربية والإسلامية، وما تسبب فيه تنظيمه من عداء سافر بين الدول الغربية والدول الإسلامية، وشيوع ما يسمي بـ "الإسلاموفوبيا"، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتسببه في تدمير منشآت سيادية أمريكية. وترتب علي هذا الحادث أن أعلنت الولايات المتحدة حربا عالمية علي الإرهاب، كانت نتيجتها احتلال وتدمير كل من أفغانستان والعراق.
ولكن ما إن حدثت ثورات الربيع، إلا ووجد بن لادن وتنظيمه في حرج شديد، فقد كشفت الثورات عن تراجع تنظيمه وفقدانه للمصداقية. فها هي الشعوب قد طالبت بالديمقراطية والتغيير بدون أي دور للقاعدة، وبدون أية وسائط إسلامية متشددة. ففيما كانت الشعوب تطالب بالديمقراطية، كانت القاعدة تعدها "بدعة"، وأنها "كفر بواح"، ولم تجد مقولاتهم بشأن التغيير بالعنف والإرهاب أي صدي في مطالب الثوار. وقد حاول "بن لادن" الاستفادة من الحدث، وركوب الموجة، كما فعل الكثيرون، بأن حث الشعوب التي لم تثر بعد، وشجعها علي الخروج علي الحكام، علي أساس أنه واجب شرعي، مع الأمل في القدرة علي قيادتها بعيدا عن "أنصاف الحلول" التي كانت تدعو إليها السياسات الديمقراطية العلمانية.
زعيم القاعدة كان يقول هذا وهو يعلم أن القاعدة كانت غائبة تماما عن المشهد، فلم تقدم برنامجا سياسيا، أو حتي رؤية عامة للمستقبل. وفي الوقت الذي كان فيه قادة القاعدة يرفضون المشاركة السياسية، وينادون بالعنف والإرهاب، كوسيلة للتغيير، كانت الثورات العربية سلمية. لقد كانت الجماهير تطالب بالحرية، والديمقراطية، وفصل السلطات، وإقامة حياة برلمانية، وكانت كل هذه المطالب رفضا تاما لكل الأفكار التي قام علي أساسها تنظيم القاعدة. ومن هنا، بدا وكأن هناك انفصاما تاما بين الشعوب العربية ومطالبها، والقاعدة وادعاءاتها.
وكما كانت ثورات الربيع العربي كاشفة عن تراجع جيل تنظيم القاعدة، فقد كانت فرصة أيضا لتقدم وصعود جيل ثالث من تنظيمات العنف، نشأ علي هامش الثورات العربية، واستفاد من أخطائها، ومن الفوضي التي أعقبت الثورات، وكذلك من المخاض المتعثر للربيع العربي، وللإخفاق الذي أصاب بعض تجاربه.
وهذا الجيل الثالث من التنظيمات الجهادية الذي نشأ عقب الربيع العربي يتناوله ملف "السياسة الدولية" بقدر كبير من البحث والتحليل، من خلال العديد من المحاور، حيث تم التركيز في جزء منها علي الجانب المفاهيمي الذي يتناول نشأة الظاهرة، وإشكاليات تطور أجيالها، ومصادرها الفكرية، والتصنيفات المتعددة لأجيال العنف، خاصة الجيل الثالث وسماته، في حين تناول الجزء الآخر دراسات حالة منتقاة لظاهرة الجيل الثالث للعنف في عدد من دول الإقليم التي انتشرت فيها هذه الظاهرة بوضوح، وهي مصر، والعراق، وسوريا، وليبيا، والمغرب العربي، والساحل والصحراء.
(*) تقديم ملف " الجيل الثالث للعنف.. فيم يختلف؟ وكيف ينتشر؟، مجلة السياسة الدولية، العدد 198، أكتوبر 2014
تعريف الكاتب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق