الوسيط
تخرج عمرو خضر من الكلية الفنية العسكرية عام 1986، وعلى مدى خمسة عشر عاماً حظي المهندس العسكري الشاب بحياة مهنية واعدة، متنقلا بين عدد من المواقع والمشروعات العسكرية في سيناء والبحر الأحمر والقاهرة، حيث حصل على عدد من الترقيات وشهادات التميز كأفضل قائد كتيبة في قطاع الأشغال العامة بالقوات المسلحة.
وحصد خضر ثمرة تميزه في أحد أيام نوفمبر 2000 عندما تم اختياره للالتحاق بالسكرتارية الخاصة لرئيس الجمهورية حسني مبارك، الذي كان قد طلب تعيين مهندس عسكري جديد للإشراف على مقراته الرئاسية المتعددة. انتقل خضر للعمل في المقر الرئيسي لإقامة مبارك، المعروف باسم قصر العروبة، والذي يقع على مقربة من مقر عمل الرئيس بقصر الاتحادية في ضاحية مصر الجديدة. كان المسمى الوظيفي الجديد لخضر يبدو مرموقا: المشرف على المقرات الرئاسية للشئون الهندسية، لكنه اكتشف سريعا أن عمله الجديد لم يتطلب أي خبرة عسكرية أو هندسية. فعندما سألته النيابة لاحقا عن طبيعة عمله أجاب بأنه "تنفيذ كافة الأعمال التي أُكَلَف بها من رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك وزوجته سوزان ثابت وولديه جمال وعلاء مبارك وزوجتيهما".
اليوم وبعد أربعة عشر عام يقف خضر، البالغ من العمر 51 سنة، داخل قفص الاتهام بإحدى دوائر محكمة جنايات القاهرة بصحبة الرئيس الأسبق وولديه، حيث يواجهون جميعا تهماً بالفساد والتزوير والاستيلاء على الأموال العامة. ومن المقرر أن تصدر المحكمة حكمها في القضية غدا الأربعاء الموافق 21 مايو. حصلت "مدى مصر" على ملف القضية الذي يقدم في أكثر من ألفي صفحة صورة نادرة لحياة الرئيس المخلوع وأسرته والشبكة المعقدة للفساد الذي هيمن على سنواته الأخيرة في الحكم.
على مدى عقد كامل كان خضر يقضي يومه في مقر إقامة مبارك في تلقي التكليفات من أفراد الأسرة الحاكمة، خاصة سوزان مبارك وزوجتي ابنيها، من إجراء الترميمات والتشطيبات وتغيير الديكورات إلى شراء الأجهزة الكهربائية وقطع الأثاث، وحتى توفير مستلزمات المطابخ في كل من قصر العروبة وعدد من المنازل الخاصة والمكاتب التي يمكلها أفراد آل مبارك. (كانت القصور والمقرات المملوكة للدولة مثل قصري الاتحادية وعابدين في القاهرة، والمعمورة ورأس التين في الإسكندرية تخضع لسلطة وإشراف وزارة الآثار وليس لرئاسة الجمهورية).
بعد وقت قصير من انتقاله للعمل في مقر إقامة الرئيس تلقى خضر، حسب أقواله للنيابة، أمراً من زوجة الرئيس لشراء "خمس ثلاجات ألمانية الصنع اثنين باب" وأمراً من مبارك نفسه لشراء مقعد خاص له ولحفيديه الصغيرين.
لم ينزعج خضر من الطبيعة الخدمية لوظيفته الجديدة مقارنة بتاريخ خدمته العسكرية، فلا شك أن العمل في الدائرة المقربة لمبارك جاء مع مكانة ومميزات غير قليلة. لكن أحد جوانب العمل الجديد بالتحديد شكل مصدرا دائما للقلق والانزعاج للمهندس العسكري حسب شهادته لاحقا.
فقد كانت جميع أعمال الإنشاءات والترميمات والمشتريات التي تولاها خضر تخص ممتلكات خاصة لآل مبارك، وبالتالي لم يكن من الممكن دفع تكلفتها من أموال الدولة. لكنه تلقى تعليمات بإخفاء طبيعة هذه العمليات والمشتريات وتصويرها على أنها تكاليف لأعمال صيانة وهمية في عدد من أبراج الاتصالات المنتشرة في أنحاء الجمهورية بغرض توفير خطوط اتصال آمنة لرئيس الجمهورية.
وبعد القبض عليه في مارس 2013 قال خضر لمحققي النيابة: "كنت أنفذ تعليمات رئيس الجمهورية وأسرته. لم يكن لي أن أرفض تنفيذ الأوامر.. وقالوا لي إن هذا هو النظام الذي كان متبعاً حتى قبل أن أنتقل للعمل في السكرتارية الخاصة."
تقدر النيابة العامة أن أكثر من 125 مليون جنيها تم الاستيلاء عليها بين عامي 2003 وتنحي مبارك عن الرئاسة في مطلع 2011 لإنفاقها على المملتكات الخاصة لآل مبارك مع تزوير المستندات الرسمية لتصويرها على أنها نفقات صيانة مراكز الاتصالات الرئاسية.
كانت التحقيقات الأولية قد أشارت إلى أن عملية الفساد هذه بدأت على الأقل منذ عام 1990، أي بعد تسعة أعوام على تولي مبارك الرئاسة، لكن النيابة العامة قررت استبعاد أي صور لفواتير لم تستطع الحصول على أصولها وبالتالي اقتصرت فترة الاتهام وحجم الأموال المسروقة على الجرائم المرتكبة بعد عام 2003.
قدم خضر للنيابة شرحا تفصيليا لكيفية ارتكاب الجريمة: كان يتلقى التكليف من أحد أفراد آل مبارك لإجراء أعمال أو شراء مستلزمات، ثم يقوم بتحويل الطلب إلى أحد مقاولي الباطن الذين يتم اختيارهم من قاعدة بيانات تقوم السكرتارية الخاصة للرئيس بتجميعها وتحديثها دوريا. وبعد انتهاء مقاول الباطن من تنفيذ الأعمال المطلوبة أو شراء الأجهزة والمستلزمات كان يقوم بتقديم الفاتورة إلى خضر، الذي يقوم بدوره بمراجعتها وإضافة توقيعه الخاص، قبل أن يرسل المقاول مع الفاتورة إلى موظف آخر برئاسة الجمهورية يدعى محي الدين فرهود. كان فرهود، وهو أيضا أحد المتهمين الخاضعين للمحاكمة حاليا في نفس القضية، مسئولا عن مراكز الاتصالات الرئاسية المعنية بتوفير خطوط الاتصال الآمنة للرئيس. وعندما كان أحد مقاولي الباطن يقدم لفرهود أي فاتورة تحمل توقيع خضر، كان فرهود يعمل مع المقاول على إعداد فاتورة أخرى وهمية تشير زورا إلى أن نفس القيمة المالية قد تم إنفاقها على صيانة أحد أبراج اتصالات الرئاسة.
كان المقاول بعدها يذهب بالفاتورة المزورة إلى إحدى شركات المقاولات المملوكة للدولة، والمكلفة بصيانة أبراج الاتصالات الرئاسية، حيث تقوم الشركة باعتماد الفاتورة الوهمية، وإضافة هامش ربح للشركة، ثم إصدار أمر بالدفع لمقاول الباطن من أموال الدولة.
تقول النيابة أن الشركة العامة التي سهلت الاستيلاء على ملايين الجنيهات من موازنة الدولة لإنفاقها على القصور الخاصة لآل مبارك هي شركة المقاولين العرب. وبينما يخضع الآن اثنان من موظفي الشركة الصغار للمحاكمة في نفس القضية بتهم تسهيل الفساد والتزوير وإهدار الأموال العامة، فإن قرار الاتهام جاء خاليا من اسم رئيس مجلس إدارة الشركة طوال نفس الفترة، رغم أن مذكرات التحقيقات اتهمته بالاسم بالاشتراك في ارتكاب نفس الجرائم. وبين عامي 2001 و2012 كان رئيس الشركة هو إبراهيم محلب، الذي تم تعيينه رئيسا لوزراء مصر في فبراير الماضي.
المحقق
كان القبض على عمرو خضر وتعاونه مع سلطات التحقيق يمثل نصرا وردا للاعتبار للضابط معتصم فتحي، محقق الفساد الذي كشف عن الجريمة وأحالها للنيابة العامة من أجل بدء التحقيقات في القضية. كان ضابط الشرطة السابق فتحي قد انتقل في عام 1998 للعمل بهيئة الرقابة الإدارية، التي تتولى التحقيق في جرائم فساد موظفي الحكومة والقطاع العام. وتعمل الهيئة "السيادية" التي أنشأها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في الستينات من القرن الماضي بطريقة أقرب لجهاز مخابرات، حيث تأتي الغالبية الساحقة من ضباطها من الجيش والشرطة ويتمتعون بصلاحيات واسعة في إجراء التحقيقات والتفتيش والمراقبة.
في مقابلة مع "مدى مصر" قال معتصم فتحي، البالغ من العمر 41 عاما: "كان المناخ السياسي صعبا وقت حكم مبارك لعدم وجود إرادة سياسية حقيقية في ملاحقة كبار المسئولين الفاسدين". وأضاف المحقق بصوته الهادئ أن الهيئة يعمل بها عدد من المحققين الأكفاء والمجتهدين، لكنهم كان عليهم أن يضغطوا في كل خطوة على الطريق بدءا من استصدار أمر إحالة إلى القضاء، وصولا إلى الحصول على حكم بإدانة المتهمين. ويضيف فتحي: "كنت أعتقد أن كل ذلك سيتغير مع الإطاحة بمبارك، لكن الثورة لم تحصل على فرصة لكي تحكم".
تم تصعيد فتحي سريعا داخل هيئة الرقابة الإدارية، حتى وصل إلى إدارة العمليات الخاصة التي تضم نخبة من ضباط الهيئة وتتولى التحقيق في فساد الوزراء ورؤساء الهيئات العامة.
لكن فتحي تقدم باستقالته من الهيئة في أول يناير 2011 احتجاجا على ضغوط وقرارات نقل عقابية، قال إنه تعرض لها من قيادات الهيئة بسبب جهده في ملاحقة كبار مسئولي الإسكان القريبين وقتها من مبارك وولده جمال. وعندما تم إجبار مبارك على التنحي بعد بضعة أسابيع في مواجهة الانتفاضة الحاشدة ضد حكمه، قرر فتحي أن يسعى للعودة لوظيفته، وأن يعلن عن تفاصيل تحقيقاته. ففي نهاية فبراير 2011 تقدم فتحي إلى النائب العام
ببلاغ اتهم فيه مبارك وعددا من كبار معاونيه بالفساد، خصوصا في مجال تخصيص أراضي الدولة والوحدات السكنية، كما أجرى عددا من المقابلات الإعلامية التي ناقش فيها كيف اتخذ الفساد طابعا منهجيا وواسع النطاق تحت حكم الرئيس المخلوع.
بعد عام ونصف لم يكن بلاغ معتصم فتحي ومقابلاته الإعلامية قد أثمروا عن أي نتائج في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة البلاد بعد مبارك. وعندما قام الرئيس المنتخب حديثا وقتها بإصدار إعلانه الدستوري الأول في أغسطس 2012، والذي سعى من خلاله إلى تأكيد سلطته على المجلس العسكري عبر إقالة وزير الدفاع وكبار قادة القوات المسلحة، قرر فتحي أن يكرر المحاولة. ذهب فتحي مجددا إلى النائب العام، لكنه هذه المرة استهدف رئيسه السابق، لواء الجيش المتقاعد محمد فريد التهامي، الذي كان مبارك قد عينّه في 2004 رئيسا لهيئة الرقابة الإدارية بعد تقاعده كمدير للمخابرات الحربية. وفي
البلاغ الجديد وجه فتحي الاتهام المباشر للتهامي بالتواطؤ على الفساد، عبر إعاقة التحقيقات التي عمل عليها ضباط الرقابة الإدارية بسبب صلاته القريبة بمبارك وكبار مسئوليه. وفي
مقابلة تلفزيونية أجراها وقتها على إحدى القنوات الفضائية قال فتحي إن بلاغه تضمن 14 واقعة محددة قام فيها التهامي بتجاهل أدلة قدمها ضباط الرقابة الإدارية، أو منع إجراء تحقيقات في قضايا جديدة، أو رفض الموافقة على إحالة بلاغات مكتملة إلى السلطات القضائية.
تم استدعاء فتحي بعد بضعة أيام إلى قصر الاتحادية الرئاسي لمقابلة اثنين من كبار معاوني مرسي. وانتهى الاجتماع إلى إصدار قرار رئاسي في 2 سبتمبر 2012 بإقالة التهامي من منصبه وتعيين أحد كبار ضباط الهيئة كرئيس جديد للرقابة الإدارية.
يذكر فتحي أن معاوني مرسي قد عرضوا عليه وقتها إصدار قرار بإعادته لعمله بالهيئة، حيث إنه كان قد تقدم بطعن إلى لجنة فض المنازعات، مطالبا باستعادة وظيفته على أساس أن استقالته لم تكن إرادية، وإنما نتجت عن مضايقات تعرض لها من رؤسائه. لكنه فضل أن ينتظر صدور قرار قضائي. يقول فتحي: "أردت العودة للهيئة على أساس قانوني سليم. لم أكن أريد منح الفرصة لأحد أن يزعم أنني استعدت وظيفتي عبر منحة من الإخوان المسلمين، ولكن المثير للسخرية أن هذا بالتحديد هو ما يقوله الكثيرون عني الآن".
حصل فتحي على قرار من القضاء بالعودة لعمله، واسترد وظيفته في يوم 25 يناير 2013.
لكن فتحي لم يعد للعمل في إدارة العمليات الخاصة، وإنما تم تكليفه بالالتحاق بإدارة الإسكان. كانت الوظيفة الجديدة أقل تميزا من دوره السابق في الهيئة، لكنها أتاحت لفتحي الفرصة لمتابعة الخيوط التي قادته للكشف عن قضية قصور آل مبارك والاستيلاء على الأموال العامة عبر شركة المقاولين العرب.
كان عمرو خضر، الضابط المهندس بالرئاسة، هو أهم تلك الخيوط. ولا يُخفي فتحي تعاطفه مع خضر حيث قال لـ"مدى مصر": "خضر من أسرة محترمة ولم يكن من سلطته رفض أوامر مبارك. لم يقم بالاستيلاء على هذه الأموال لنفسه ولم يقم بتزوير تلك الفواتير. كان ينفذ التعليمات، بالطبع كان يمكنه رفض تنفيذ الأوامر والاستقالة احتجاجا، لكن عليك أن تتذكر كيف كانت الأحوال في عهد مبارك."
بعد يوم واحد من إلقاء القبض عليه قرر خضر التعاون مع المحققين. "لم يكن يريد أي بهدلة. كان في حالة انهيار بعد تحوله من لواء جيش في السكرتارية الخاصة برئاسة الجمهورية إلى متهم في قضية فساد" يضيف فتحي.
قام فتحي باصطحاب خضر لنيابة أمن الدولة، وهناك أذهل خضر محققي النيابة عندما كشف أنه طوال تلك الأعوام التي قضاها في الرئاسة كان يقوم سرا بتصوير الفواتير الأصلية والوهمية والاحتفاظ بها.
عندما سأله وكيل النيابة عن سبب إقدامه على ذلك قال خضر: "كنت خايف من بطش الرئاسة كان ممكن في أي يوم يتهموني بتزوير الفواتير وإنى احتفظت بفرق الفلوس في جيبي".
انتقل خضر مع وفد من النيابة العامة والرقابة الإدارية، كان من ضمنه معتصم فتحي، إلى شقة في التجمع الخامس، حيث وجد المحققون صناديق تحوي 1007 فاتورة أصلية مرفقا بكل منها الفواتير المزيفة. كان هذا الكنز هو ما مكن المحققين من تركيب الصورة المعقدة لكيفية عمل آلة الفساد برئاسة الجمهورية.
لكن صلة معتصم فتحي انقطعت الآن بالقضية التي كشف عنها وساعد في بنائها. ففي يوم 3 يوليو من ذلك العام قام القائد العام للقوات المسلحة بإقالة مرسي من منصبه بعد أن كان الأخير قد عينه وزيرا للدفاع قبلها بعام. وبعدها بيومين صدر قرار بإقالة اللواء رأفت شحاتة الذي كان مرسي قد اختاره مديرا للمخابرات العامة.
ومن أجل شغل أعلى منصب أمني في البلاد وقع اختيار السيسي على معلمه وقائده السابق اللواء متقاعد محمد فريد التهامي. وقتها وجد الكثيرون في قرار إعادة التهامي من التقاعد محاولة من السيسي لتعويضه عن إقالته المهينة على يد مرسي من رئاسة هيئة الرقابة الإدارية.
لم يستغرق الأمر طويلا لكي يشعر معتصم فتحي بنتيجة إعادة التهامي إلى السلطة. فبعد ثلاثة أسابيع صدر قرار مفاجئ بنقله إلى فرع صغير للرقابة الإدارية بمحافظة البحيرة. وقبل انتهاء السنة تم تجريد فتحي من رتبته ونقله لوظيفة مدنية مكتبية في إدارة الشئون القانونية بوزارة التجارة.
المتهمون
حصلت "مدى مصر" على نسخ من الفواتير التي قدمها خضر للنيابة العامة. وتقدم الفواتير التي تنشر
هنا للمرة الأولى لمحة نادرة عن نمط الحياة الباذج داخل البلاط الملكي لآل مبارك، كما تظهر استعداد أفراد الأسرة الحاكمة لتحميل موازنة الدولة حتى أبسط تكاليف معيشتهم.
فقد أنفق المصريون دون علمهم ملايين الجنيهات على تجهيز وتأثيث ومشتريات وفواتير استهلاك الخدمات في المكتبين الخاصين اللذين استخدمهما علاء وجمال مبارك لإدارة استثماراتهما المربحة في شارع السعادة بروكسي في مصر الجديدة. وقامت هايدي راسخ زوجة علاء بتحميل الدولة فواتير كل جنيه قامت بإنفاقه على ترميم وتجهيز الفيلا الجديدة التي اشتراها الزوجان في منطقة الجولف الراقية بالقطامية هايتس في القاهرة الجديدة. وعندما أنجب جمال وزوجته خديجة طفلتهما الأولى في 2010 قامت شركة المقاولين العرب بدفع تكلفة تصميم وإنشاء وتأثيث جناح جديد منفصل للمولودة فريدة في قصر العروبة بمصر الجديدة.
وعندما قررت سوزان مبارك يوما ما أن يكون لها مكتب خاص في فندق سيتي ستارز انتركونتيننتال الجديد، دفع المصريون تكلفة ديكوراته وكل قطعة من أثاثه. وبعد وفاة حفيد مبارك الأكبر البالغ من العمر 12 عاما في حادث مأساوي أثناء لعبه في عام 2009، استخدمت شركة المقاولين العرب موازنة مراكز الاتصالات الرئاسية في بناء مقبرة جديدة ضخمة لآل مبارك في مدينة نصر. كما يُفَصِل عدد كبير من الفواتير مصروفات تم إنفاقها على الفيلات الخمس، التي امتلكها مبارك وولداه في أحد منتجعات شرم الشيخ ضمن أملاكهم الخاصة ، وعلى مزرعة تبلغ مساحتها 25 فدانا يمتكلها جمال وعلاء على طريق القاهرة – الإسماعيلية.
من بين الأعمال التي غطتها موازنة الدولة تركيب مصعد داخلي بفيلا علاء وهايدي في القطامية للوصول إلى سطح الفيلا من أجل صيانة أطباق الدِش الموجودة على السطح، وتركيب حمام جاكوزي في مقر الإقامة العام بمصر الجديدة، وتكلفة استئجار خيمة عملاقة وشراء شموع من أجل حفلة بإحدى فيلات شرم الشيخ.
"فكر كم مصريا يعيشون في الفقر، وقل لي لماذا احتاج أفراد أسرة مبارك إلى تحميل المواطنين تكلفة مصروفاتهم الخاصة بكل هذه التكلفة؟"، يسأل معتصم فتحي بغضب واضح، مضيفا أنه لا أحد من بين أفراد الأسرة كان في حاجة إلى المال. فكل من علاء وجمال قد صنعا ثروة كبيرة عبر استثماراتهما الخاصة وتزوجا من ابنتي اثنين من أكثر رجال الأعمال ثراء في مصر.
"انظر إلى السهولة التي قاما بها بإعادة الأموال إلى الخزانة العامة، حتى قبل إحالة القضية للمحكمة" يقول فتحي. فعلاء وجمال مبارك كلفا محامي الأسرة أثناء التحقيقات في القضية بدفع أكثر من 104 مليون جنيه من أموالهما التي تم فرض الحراسة عليها، على ذمة محاكمات الفساد التي يخضعان لها. (سدد المحامون 104 مليونا فقط من أصل 125 مليونا نص عليها قرار الاتهام لأنهم يدفعون بأن الفارق المتمثل في 21 مليونا كان لتغطية نفقات إنشاءات اقترحها الحرس الجمهوري ضمن إجراءات تأمين الرئيس الأسبق أو تم إنفاقها على مقرات مملوكة للدولة.) وبينما لا تعد إعادة الأموال لخزينة الدولة إقرارا من قبل المتهمين بصحة الاتهامات فإن القصد منها إظهار حسن النية.
أنكر حسني مبارك وولداه جميع التهم الموجهة لهم، ودفعوا ببراءتهم وبأنهم لم يسعوا أبدا إلى الاستيلاء على المال العام، وأنه بافتراض أن خزانة الدولة قد قامت فعلا بتغطية نفقاتهم الخاصة فإن ذلك قد تم دون علمهم.
لكن معتصم فتحي يصر أن آل مبارك كانوا على علم بما يحدث. "على مدى عشرين عام قاموا بإنفاق عدة مئات من الملايين دون أن يقوموا مرة بتحرير شيك أو تحويل بنكي، من أين اعتقدوا أن هذه الأموال تأتي؟" يتسائل فتحي بضحكة غاضبة أخرى.
تحتوي أوراق القضية على مئات من الصفحات من إفادات عشرات الشهود الذين يرجحون رواية فتحي. فكل من عمرو خضر ومحي الدين فرهود من طاقم الرئاسة أخبر محققي النيابة أن الأوامر والتكليفات جاءت في العادة من أفراد أسرة مبارك مباشرة. كما قامت النيابة باستدعاء شهود مثل ندى حسن علام، مصممة الديكور الشهيرة التي قدمت استشارات مجانية لسوزان مبارك، فضلا عن مجموعة من أكثر من أربعين من مقاولي الباطن الذين جمعهم معتصم فتحي وقدمهم للنيابة واحدا تلو الآخر، حيث شهدوا جميعا بأن التكليفات كانت تأتيهم من الأسرة الحاكمة، وأنهم طُلب منهم فيما بعد تقديم فواتير مزورة بدعوى أن ذلك "لدواع أمنية" وأن موظفي شركة المقاولين العرب كانوا على علم بذلك الاتفاق.
بين الأدلة الورقية واعترافات بعض المتهمين وعشرات من شهادات شهود الإثبات، فضلا عن تقرير بالإدانة أصدرته لجنة فنية عينتها النيابة من خمسة أعضاء من المحاسبين والمعماريين، تبدو قضية النيابة محكمة. لكن معتصم فتحي يترقب بقلق حكم المحكمة المتوقع صدوره غدا.
يقول فتحي: "القضية قوية على الورق، لكننا نعيش اليوم في بلد ثانٍ مختلف عن البلد التي عشنا فيها عندما بدأتُ إجراء التحقيقات من سنة." ويشير فتحي إلى الجهود التي بذلها فريد الديب، محامي أسرة مبارك، في الإعلام وفي جلسات المحكمة ليصور القضية بوصفها مؤامرة من الإخوان المسلمين لتصفية حساباتهم مع مبارك.
(قامت "مدى مصر" بالاتصال بفريد الديب الذي أعرب عن عدم رغبته في التعليق على هذا التحقيق)
تبدو مخاوف فتحي مبررة، ففي الوقت الذي تعرض فيه بسبب قيامه بعمله إلى النقل ثم التهديد وأخيرا الفصل من الهيئة، فإن عددا من الرموز الذين كشفت تحقيقاته في قضية قصور مبارك عن تورطهم في الاستيلاء على المال العام قد أفلتوا تماما من الملاحقة القضائية.
"الهانم"
في يوم 13 مايو 2011 أصدر جهاز الكسب غير المشروع بوزارة العدل قرارا بحبس سوزان مبارك 15 يوما على ذمة التحقيق معها في تهم تتعلق بالفساد المالي بعد أن فشلت في تفسير ثروتها الضخمة.
أثناء التحقيق مع سوزان ظهرت معلومة مذهلة: فقد اتضح أن قصر العروبة، الذي أقام فيه آل مبارك منذ عام 1979 وقتما كان حسني مبارك نائبا لرئيس الجمهورية، تم بيعه سرا في عام 2002 من الدولة المصرية لسوزان مبارك التي قامت بتسجيله باسمها الأصلي. ومن أجل إتمام صفقة البيع تم تصميم عملية معقدة قامت الخزانة العامة بمقتضاها ببيع القصر كملكية عامة إلى جهاز المخابرات العامة، الذي قام بدوره ببيعه إلى شركة خاصة تملكها المخابرات باسم شركة "فالي للاستثمار العقاري"، التي باعت القصر فيما بعد كملكية خاصة لسوزان.
بعد أربعة أيام قضتها سوزان مبارك في سجن النساء بالقناطر تم إخلاء سبيلها وحفظ التحقيق معها. وانتشرت وقتها تقارير لم يتم تأكيدها بأن أنظمة خليجية قد ضغطت على قيادات المجلس العسكري من أجل عدم ملاحقة أي من نساء آل مبارك، إن كان المجلس مصراً على ملاحقة أي من أفراد أسرته أصلا. ومن أجل حفظ التحقيقات قامت سوزان، وفقا
لبيان صدر وقتها عن وزارة العدل، بالتنازل عن ثروتها الخاصة التي قدرت بمبلغ 24 مليون جنيه لم تتمكن من تحديد مصادر مشروعة لها. أما فيما يخص قصر العروبة فقد حضر إلى جهاز الكسب غير المشروع مندوب عن جهاز المخابرات العامة وتطوع بتقديم إقرار يُظهر أن المخابرات كانت قد قامت ببيع القصر لسوزان "لأسباب أمنية". ووفقا لبيان وزارة العدل فإن سوزان وافقت على توقيع عقد بإعادة بيع قصر العروبة مرة أخرى للحكومة المصرية مقابل حفظ التحقيق معها. وفي عام 2013 لم تقم النيابة العامة باتهام أو استجواب أو حتى استدعاء سوزان مبارك أو زوجتي ابنيها أثناء التحقيق في قضية فساد قصور مبارك وتسهيل الاستيلاء على الأموال المخصصة لشركة المقاولين العرب، وذلك على الرغم من وجود العشرات من بنود الصرف في الفواتير التي قدمها خضر للنيابة والتي أشارت إلى نفقات ومشتريات باسم "الهانم" وهو اللقب الذي عرفت به سوزان أثناء حكم زوجها.
المذهل أن جمال مبارك ـ أثناء تحقيق النيابة معه في القضية بسجن طرة في 16 أبريل 2013 ـ كشف للمحقق عن أن والدته مازالت تعيش في قصر العروبة حتى هذا اليوم، مضيفا أن ذلك يتم "وفقا للقانون الذي يلزم الدولة بتوفير مقر آمن لإقامتها." ويبدو على فتحي الغضب بشكل خاص حيال هذه التفصيلة. "حتى إن كان القانون ينص على ذلك، كيف يسمح لها بالإقامة في هذا القصر بالتحديد بعد أن واجهت اتهاما بسرقته من الدولة، وبينما تجري محاكمة زوجها وولديها عن تهم فساد تتعلق بنفس المقر؟" يسأل فتحي بإحباط ظاهر.
رئيس الوزراء
الشخص الآخر الذي استهدفته التحقيقات الأولية ثم قامت أطراف خفية بتحصينه من المساءلة، كان رئيس الوزراء الحالي إبراهيم محلب. وكانت مذكرة التحقيقات الأولى في القضية، التي حررها الضابط معتصم فتحي في مارس 2013 ورسمت الإطار العام للقضية، قد أشارت إلى محلب بالاسم كشريك في جريمة الاستيلاء على المال العام. وكان محلب قد قضى 42 عاما كموظف بشركة المقاولين العرب وتولى منصب نائب رئيس مجلس إدارة الشركة عام 1997 ثم ترأس مجلس الإدارة في عام 2001 وشغل المنصب حتى تقدمه باستقالته في سبتمبر 2012. ويؤكد فتحي أنه من غير المعقول تصور أن تكون الشركة المملوكة للدولة قد أنفقت ملايين الجنيهات خلال كل هذه السنوات على القصور الخاصة المملوكة لأسرة مبارك دون علم رئيس مجلس إدارتها.
يقول فتحي: "كيف لم يصل ذلك إلى علمه؟ لقد قدمنا للنيابة العامة صورا فوتوغرافية يظهر فيها شخصيا وهو يشرف على العمال أثناء عملهم في القصور".
ولا يعتقد فتحي أن رئيس الوزراء الحالي كان من بين من تربحوا شخصيا من جريمة الاستيلاء على المال العام، غير أنه يعتبره من بين الكثيرين الذين "عملوا كجزء من النظام وقبلوا أو تجاهلوا أن النظام كان بطبيعته فاسدا".
فور استقالته من رئاسة المقاولين العرب ترك محلب البلاد، ليتولى منصب الرئيس التنفيذي لشركة مقاولات سعودية، وظل مقيما في السعودية حتى تم استدعاؤه للعودة لمصر لتولي منصب وزير الإسكان في حكومة حازم الببلاوي التي تم تعيينها بعد الإطاحة بمرسي في يوليو 2013.
ووفقا
لمقال لكاتب الصحفي المؤيد للجيش صلاح منتصر بصحيفة الأهرام الحكومية، فإن محلب كان قد صدر بحقه أمر ضبط وإحضار من النيابة العامة أثناء إقامته في السعودية. وقام محلب بالاتصال بمحاميه قبل العودة لمصر في يوليو 2013 حيث تم الإعداد لاستقباله "على سلم الطائرة" عند عودته واصطحابه إلى مكتب الببلاوي حيث قام بأداء اليمين كوزير للإسكان.
وقد أقر محامو شركة المقاولين العرب بأن الشركة قد قامت بأداء أعمال لصالح أسرة مبارك، لكنهم دفعوا بأن هذه الأعمال تمت وفقا لتعاقدات خاصة تلقت الشركة مقابل أتعابها من أفراد الأسرة. وكانت الشركة قد اعتمدت سياسة خاصة بالأعمال المسندة إليها من رئاسة الجمهورية "نظرا لطبيعتها الحساسة" تقضي باستثناء تلك الأعمال من إجراءات المناقصات العامة، قبل تكليف مقاولي الباطن بأي من تلك المشروعات، ويزعم قيادات الشركة أنهاكانت تدفع مقابل تلك الأعمال دون معاينة المشروعات والتأكد من إتمامها وفقا للإجراءات المتبعة مع غيرها من الأعمال المنفذة. ويمثل اثنان من موظفي الشركة، عملا كمدير ومشرف على مشروع مراكز اتصالات الرئاسة، للمحاكمة بصحبة مبارك وولديه جمال وعلاء وموظفي الرئاسة عمرو خضر ومحي الدين فرهود. لكن الاتهامات لم تطل أيا من قيادات الشركة. وعلى العكس من موظفي الشركة يرى فتحي أن "محلب كان ذكيا. ليس له أي توقيعات أو خيط مستندي أو أي طريقة لإثبات علمه بأن الأعمال التي دفعت شركته مقابلها تم تمويلها من أموال عامة تم الاستيلاء عليها." وبينما لم يتم استدعاء محلب للتحقيق أو حتى للشهادة في القضية، فإن عددا من الشهود، فضلا عن اثنين من المتهمين، أشاروا صراحة في أقوالهم أمام النيابة إلى إشرافه المباشر بل وزياراته الشخصية لمواقع تنفيذ الأعمال في القصور الرئاسية لآل مبارك لمتابعة التنفيذ.
كان طاهر ممدوح الشيخ ـ الذي يملك شركة خاصة متخصصة في تصميم وصيانة الحدائق ـ أحد هؤلاء الشهود. فقد ذكر الشيخ في أقواله أمام النيابة في يوم 6 مارس 2013 أنه تم تكليفه في الفترة من 2002 إلى 2003 شخصيا من وزير الإسكان وقتها إبراهيم سليمان بتصميم حديقة مشتركة للفيلات الخمس التي امتلكها مبارك وولداه في شرم الشيخ، وأنه قام بتصميم الحديقة كمقاول من الباطن لحساب شركة المقاولين العرب. وأضاف الشيخ في شهادته: "كان رئيس المقاولين العرب إبراهيم محلب والوزير محمد إبراهيم سليمان يقومان بزيارة الموقع بصفة دورية للتأكد من تنفيذ الأعمال".
كان محلب عضوا بالحزب الوطني الديمقراطي برئاسة حسني مبارك، وانضم إلى لجنة السياسات بالحزب، التي شكلها وترأسها ابنه جمال الذي كان يتم إعداده فيما يبدو لتولي الرئاسة بعد والده. وفي يونيو 2010 أصدر مبارك قرارا بتعيين محلب كعضو بمجلس الشورى.
يتوقع معتصم فتحي ـ "إن سارت الأمور بشكل طبيعي" على حد قوله ـ أن تتم إدانة مبارك وولديه، وأن تصدر عقوبات أخف بحق موظفي الرئاسة والمقاولين العرب. لكنه يتوقع أيضا أن يطعن أفراد أسرة مبارك على الأحكام أمام محكمة النقض في عملية قد تستغرق بضع سنوات. ويشعر فتحي بالإحباط لأن حضور المحاكمة كان متاحا فقط للمحامين ووسائل الإعلام وأقارب المتهمين. فبعد استبعاده من هيئة الرقابة العامة لم يعد له حق حضور المحاكمة. وفي شهر مارس الماضي تقدم فتحي بطلب كتابي لرئيس المحكمة القاضي أسامة شاهين ليمثل أمام هيئة المحكمة كشاهد نظرا لعلاقته الوثيقة بالقضية. لكن المحكمة لم ترد على الطلب.
في هذه الأثناء، ينشغل فتحي الآن بمعركته الشخصية. فقد تقدم ببلاغ للنائب العام يطلب فيه التحقيق في مكالمات هاتفية يقول إنه تلقاها في شهر مارس، تضمنت تهديدات له ولأسرته إن أصر على الشهادة في المحكمة. كما أقام دعوى قضائية بمحكمة القضاء الإداري يطعن فيها على قرار فصله من هيئة الرقابة الإدارية ويطالب، مرة أخرى، باستعادة وظيفته. ومن المقرر أن تصدر المحكمة قرارها في الدعوى في أغسطس القادم. جزء من دوافع فتحي ذو طبيعة مالية، فقد ترتب على نقله إلى وزارة التجارة تخفيض راتبه الشهري من 12 ألف جنيه إلى 1400 جنيه، كما فقد كل امتيازاته التأمينية وتم حرمانه من مكافأة نهاية الخدمة بعد 15 عاما قضاها كضابط بالرقابة الإدارية. لكن فتحي يؤكد أن محركه الأساسي لإقامة الدعوى هو شعوره بالظلم الذي تعرض له وافتقاده لوظيفته التي أحبها. يقول فتحي: "محاربة الفساد هو العمل الوحيد الذي أجيده. إنها الوظيفة الوحيدة التي أستطيع ممارستها".