ظل ملتزماً حتى اللحظة الأخيرة، رفض كل محاولات التحريض، كان يقول لمحدثيه: «إنها الشرعية، والرئيس الفائز جاء بأصوات الشعب وليس بأصواتى أنا»، كنت أشفق عليه وأنا أراه منكسراً، لكنه كان يصر دائماً على أنه فى أعتى لحظات القوة.
عرفت المشير حسين طنطاوى منذ سنوات، كان ساخطاً على الكثير من الأوضاع فى زمن مبارك، كان ينتقد، يرفض، يقاوم، فى مجلس الوزراء من خلف ستار، لكنه كان يقول لمحدثيه دوماً: «أنا لست انقلابياً، الجيش مع الشرعية، والشرعية حتى الآن فى يد الرئيس».
وبعد الثورة، كان مصراً على إجراء انتخابات نزيهة، لقد انحاز الجيش إلى الشعب، رفض إطلاق الرصاص على المتظاهرين، كان مبارك غاضباً عليه، وينتظر اللحظة المناسبة لإبعاده هو ورئيس الأركان الفريق سامى عنان، لكنه صمد، وأصر على الاستمرار، حتى أجبر الرئيس السابق على التنحى.
لم تكن السلطة هدفاً لديه، كان يقول لى دوماً: «لا أريد شيئاً، أريد أن أسلم البلاد لرئيس منتخب، الجيش يريد العودة لثكناته، دورنا هو على الحدود لحماية الأمن القومى للبلاد، أنا لا أريد شيئاً، أريد أن تمضى المرحلة الانتقالية على خير، ساعتها سأكون أسعد الناس، أريد أن أستريح، ليس لى مطامع ولا طموح فى السلطة».
لم يصدق أحد حتى من زملائه أن الرجل سيسلم السلطة بهدوء، ويقبل أداء التحية لرئيس مدنى إخوانى، لكنه كان يقول لهم دائماً: أنا لا يمهنى إخوانى ولا غير إخوانى، أليس الإخوانى خيار الشعب، أنا مع الشرعية وسأسلم السلطة، وأمضى إلى حال سبيلى.
لم يكن لدى أحد من هؤلاء الرجال موقف معادٍ، لقد كنت أجلس بعد انتخابات الشورى بيومين مع الفريق سامى عنان ومعى أحد الأصدقاء، وتطرق الحديث إلى انتخابات الشورى، فقال: لا يمهنا من يأتى بالأغلبية المهم ألا يكون هناك تزوير، واستكمل الحديث بالقول: «لقد سألتنى ابنتى يوم الانتخاب إلى من أعطى صوتى فى انتخابات الشورى، فقلت لها بلا تردد: أعطيه للحرية والعدالة طبعاً».
ساعتها أبديت دهشتى، فقال لى: «ومن على الساحة غيرهم، ثم إنهم عانوا فى زمن النظام السابق، ومن ظُلم قطعاً لن يَظلِم»، وعندما احتدمت الأزمة بعد ذلك بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى رويت هذه الحكاية للدكتور سعد الكتاتنى، لأدلل على أن المجلس العسكرى ليس له موقف مسبق منهم.
وكان المشير حريصاً على أن ينأى بالقوات المسلحة بعيداً عن الصراعات، كان يقول لى دوماً: «هدف الأمريكان والإسرائيليين هو الجيش، لقد حاولوا كثيراً وفشلوا، لا يريدون لمصر أن تكون قوية، سيأتى يوم يكتشف فيه الناس حقيقة ما يجرى، أنا لا يمهنى شىء، ولن أسمح أبداً بتوريط الجيش فى حرب مع الشعب، لأن هذا هو هدفهم.
وفى أحد اللقاءات التى كانت تجرى بحضور رؤساء الأحزاب مع المشير وعدد من قادة المجلس العسكرى لمناقشة تشكيل الجمعية التأسيسية، احتد النقاش بينى وبين المشير بعد أن قلت له: إلى متى سيظل الجيش ساكتاً على تدهور الأوضاع فى البلاد، أنا أحملكم مسئولية ما نحن فيه، فانتفض الرجل فجأة، وقال: «أعرف أن هذا رأيك، ولكن ماذا تريد منى أن أفعل، أنا أحاول أن أنأى بالجيش عن أى مشاكل، نحن ننتظر تسليم السلطة بفارغ الصبر، أنا أعد الأيام، أتمنى أن يأتى 30 يونيو غداً، أحمد الله أننى حميت الجيش من التورط، هذا جيش مصر، جيش المصريين، ولن أسامح نفسى لو وجه الجيش بنادقه إلى صدور شعبه».
كثيرون كانوا يتهمون المشير بالضعف والتردد، لكنه كان يقول: «لن أجور على الشرعية أبداً، مهما كان الثمن فى المقابل، الجيش سيحمى اختيارات الشعب، لأن هذا هو دورنا».
فى الأيام الأخيرة لاحظ الكثيرون أن العلاقة بين الرئيس والمشير ازدادت وثوقاً، وبدا أن المخاوف التى كانت تتردد من الجانبين قد تلاشت، لقد أصر الرئيس على أن يظل المشير فى موقعه كرئيس للمجلس الأعلى ووزير للدفاع، وعندما طلب منه أن ينحى اللواء حمدى بدين، قائد الشرطة العسكرية عن موقعه، لم يتردد المشير أبداً.
أطاح الرئيس بعدد من القادة الكبار، منهم مدير المخابرات العامة، قائد الحرس الجمهورى، وقبلهما لم يتدخل المشير للإبقاء على وزراء الداخلية أو العدل أو الإعلام، كان عوناً للرئيس فى كل قراراته، وكان يتحاشى أن يقال: «إن المشير ينازع الرئيس فى سلطاته».
وحتى عندما جاء وزير الدفاع الأمريكى فى زيارة إلى القاهرة، فوجئ بهذا التنسيق المشترك بين الرجلين، مما دعاه بعد أن التقاهما كل على انفراد إلى القول: «إنه لم يشعر بأى خلافات بينهما»، وهو عكس ما كانت تردده هيلارى كلينتون.
مضت الأيام سريعاً، وجاء حادث رفح، لم يكن هو نقطة الفصل، بل كان المنطلق، نقطة الفصل كانت يوم أن أطلق المشير تصريحه الشهير أمام جنوده وضباطه فى أعقاب لقائه مع كلينتون، الذى قال فيه: «لن نسمح لتيار معين أو مجموعة معينة بالسيطرة والاستيلاء على مصر».