لم أنتبه أن الوقت يمضي بي حتى كانت الساعة الرابعة والنصف عصراً .. تناولت كعادتي ساندويتش البيض المقلي بعد أن جفَّ تماماً .. ولكن لا يهم فأي شيء يملأ المعدة يهديء من آلام الجوع والسلام .. ما زال أمامي أكثر من ساعة ليبدأ عملي الإضافي في السادسة .. أديت صلاة العصر ثم ذهبت مسرعاً إلى غرفتي بالسكن لآخذ حماماً بارداً سريعاً يزيل آثار العرق، وليكن حداً فاصلاً بين فترتي العمل، فالأولى من الثامنة صباحاً حتى الخامسة بعد العصر، ومن المفترض أن يتخللها ساعة راحة من الثانية عشرة حتى الواحدة ظهراً .. والثانية تبدأ من السادسة حتى العاشرة مساءاً .. كان لابد لي من عمل إضافي لحاجتي لمزيد من الدخل، ورغبة مني في تقصير مدة غُربتي .. وأيضا وسيلة مفيدة لإشباع وقت الفراغ بعدما فشلت في ذلك القراءة .. هوايتي المحببة لنفسي .. وذلك لارتفاع أسعار الكتب بطريقة تحتاج إلى ميزانية شهرية كبيرة، أقتطعها من دخلي المحدود .. لم يبقَ أمامي سوى ربع ساعة .. استبدلت ملابسي بسرعة، ولم أجد للأسف جورباً نظيف .. فقد أجلت غسيلهم أكثر من مرة حتى لم يعد هناك سوى الرث والبالى .. لا أدري لماذا أحتفظ بهم، ولكن أحياناً ما ينفعون في مثل حالتي هذه .. تناولت أحدهم مضطراً .. أخذت الباص واتجهت للعمل .. لا أعلم هل بسبب الجوع أم بسبب الحمام البارد الذي أراح جسدي، وجدت نفسي أشعر برغبة شديدة في النوم كلما أرحت ظهري ورأسي إلى مؤخرة المقعد .. لذا فقد انتقلت إلى النافذة أتابع وأحصر السيارات، وأقارن بين ماركاتها وألوانها، وأُمني نفسي بإحداها .. حتى وجدت نفسي أقترب من وسط البلد .. حينها أعددت نفسي للنزول .. كان أمامي إشارة مرور، ثم عبور ثلاث شوارع متوازية متقاربة حتى أصل إلى عملي .. كنت أتمنى أن تكون المسافة أطول من ذلك لكي أعطي لنفسي قدراً أكبر من السير لتخف آلام ظهري بسبب طبيعة عملي التي تتطلب الجلوس لفترات طويلة .. كان صوت آذان المغرب بدأ يتعالى في المساجد، وأخذت المحال تغلق أبوابها لحين الانتهاء من أداء الصلاة .. هممت أن أتجه إلى أحد المساجد القريبة، ولكني تراجعت فجأة كمن تذكر شيء هام .. انعطفت يميناً بأحد الشوارع .. أتخلل الطرقات الضيقة منها كمن يتبعه أحد ويريد الفرار منه .. كان علي أن أسير حتى يتم قضاء الصلاة .. شعرت بخجل شديد .. فقد اُفترشت الأرض لإقامة الصلاة أمام المحال، ولم يبقَ في الطرقات غير بعض النساء والأطفال .. حتى جاءني ذلك الشيطان بهاجس مجنون .. يسألني لو لم يكن ممنوع غلق المحال لإقامة الصلاة هل كانت أُغلقت أم لا ؟! وربما أنا الذي أتحت له أن يتسلل إلى عقلي لذلك المانع الذي أراه مخجلاً ومانعاً لكي أذهب للصلاة .. ها أنذا أسير في الطرقات لا أصلي .. تذكرت أبي رحمه الله، لم يكن ليغضب منَّا في شيءٍ سوى عدم انتظام الصلاة .. كان يصحبنا معه للمسجد ونحن صغاراً .. وكم كان سعيداً أني سافرت للعمل هنا حتى أشبع نفسي وألتزم بالصلاة والعبادة .. ذات مرة سألني أبي : ( لمَ لم تعد تصلي الجمعة ؟! ) لم يكن أمامي إلا أن أجيبه كعادتي بصراحة .. فحين تعلمنا الصلاة؛ كان لصلاة الجمعة بالذات هيبتها وأهميتها لكونها جماعة، ليلتقي الجيران والأهل ويتصالح المتخاصمون .. حتى كانت آخر صلاة جمعة لي، لم أعد أحتمل الإستماع إلى الخطبة، لأني لا أشعر أني استفدت شيء منها .. كلام مُستهلك لا يتعدَّاه خطباء المساجد .. كانت الخطبة عن بعض العلماء في الغرب الذين يدَّعون أن أصل الإنسان قرد .. وأخذ الخطيب يلعنهم ويكفرهم وكيف أن الله كرم الإنسان .. وفي " الزاوية " القريبة منا لم نعد نسمع صوت خطيبها منذ ذلك اليوم الذي تحدث فيه عن مذابح المسلمين، وأننا كلنا مساءلون ومحاسبون عن ذلك .. وأنه يجب أن نقوم بالجهاد .. شعرت فجأة بخجل شديد وصوت يهمس في آذاني .. يتعالى داخلي .. أنت منافق .. منافق .. عيون الناس كأنها سهام تصوب في صدري .. ترجمني، وتمتمة شفاههم كأنها تستعيذ مني بالله .. وجدت نفسي أهرول ناحية أقرب مسجد .. أخلع حذائي وأصلي .. لم أنتبه إذا ما رأى أحد جوربي الممزق أم لا ؟! ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق