كعادتي كل ليلة حينما أعود إلى البيت متأخراً.. أشعل عود الثقاب وأتحسس على ضوئه مكان المفتاح بالباب .. وسرعان ما أديره ببطء حتى لا يستيقظ أبي ويسألني نفس الأسئلة ..
تسللت إلى الداخل ولم تمر ثوان حتى سمعت صوت أبي يناديني .. وقفت أحدد مصدر الصوت فلم يكن آتياً من ناحية غرفته .. لم يكن ذلك خوفٌ من أبي .. فلم يكن قاسياً كي أخافه .. ولكن أخجل من نفسي أن أراني أقف أمامه وأنا أعلم بمدى حزنه أن يرى حصيلة تعبه وتربيته تمر به الأيام وقد قاربت على العام؛ ولم يتحصَّل بعد على وظيفة .. لا أنسى تلك المرة التي زارنا فيها أحد أصدقائه القدامى، وكنت أجلس معهم؛ وفجأة كأنه تذكر شيء حينما علم أني لا أعمل وعرض علي عمل في قرية بأطراف المدينة كأمين مخزن .. وبغض النظر عن مدى علاقة دراستي بتلك الوظيفة.. إلا أنني سألته على الراتب، فقط من أجل أن أخفف من على والدي .. وسرعان ما ردَّ بحماس وفخر كالمنتصر موجهاً حديثه لأبي : ( بخمسة وثمانين جنيهاً، من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً، وممكن أكلم لك المدير يرفعها لمائة ) .. فقلت : ( إيه ؟!! ) .. نظر أبي لأسفل وهز رأسه حيرة .. ثم قال : ( الرأي رأيه.. أنا لا أفرض شيء على أولادي ) .. لم أنتظر، فجدت نفسي أقول بغيظ وبصوت مرتفع قليلاً : ( بعد الدراسة دي كلها أشتغل أمين مخزن وبخمسة وثمانين جنيه ؟! دا أنا أنام في البيت أحسن ) ، ثم أخذت أضحك بهيستيرية حتى ضحك أبي وكأنه يوافقني أيضاً .. ولم أفق إلا حينما لمحت الابتسامة تختفي من على وجه أبي تدريجياً وترتسم عليه علامات الحزن التي أعرفها .. نظرت إلى صديقه فشعرت أنه في موقف حرج، ويبدو أنني تماديت، فليس معنى أن أبي يناقشنا في أية أمور وخاصة الخاصة بنا؛ ولا يفرض شيء علينا في النهاية، وأن أجلس معه ومع أصدقائه أن أسمح لنفسي بما حدث، ولو كان أبي على اتفاق معي .. لذا فقد حاولت أن أخفف من حدة الموقف موجهاً كلامي لأبي وصديقه كمن يشرح شيء خفي : ( أنا قصدي إنني برغم تلك الوظيفة فسأظل آخذ مصروفي، فلن تتوقف إمدادات أبي لي، فهي لا تكفي قيمة مواصلات وحاجة آكلها طوال اليوم ) ..
نظر صديق أبي إليه وامتطَّ شفتيه قائلاً : ( فعلاً شيء يحزن !! ) ، كمن يقول أنا عملت اللي عليَّ .. ولم يكن مطلوب منه شيء .. قلت ضاحكاً محاولاً أن أبدد تلك الغُمة : ( أنا من باكر سأعمل رسَّام .. رسام موبيليا .. صديق لي قديم أسعده الحظ ولم يكمل تعليمه قابلته أمس صدفة، يعمل بدهان غرف النوم ويعرف موهبتي في الرسم؛ عرض عليَّ أن أعمل بالقطعة .. أقصد بالغرفة .. بيقول إن دخلها المادي كبير.. ) ، كان أبي يعرف أن كثيراً من زملاء دراستي عملوا في ذلك المجال من قبل ويعلم أني كنت أرفضه .. لذا نظر إليَّ وأحذ يحرك مسبحته ثم قال: ( المهم يا بني تكون مقتنع )، اتجهت إلى صوت أبي .. إذ كان يجلس في ركن مظلم في البلكونة المطلة على الشارع .. حينما نظر إليَّ تلك النظرة الحزينة؛ شعرت ما يدور برأسه .. كأنه يود أن يسألني إلى متى سأظل على هذا الحال .. كنت قد بدأت أعمل في رسم الموبيليا، استيقظ في العاشرة أو الحادية عشر ثم أعود لأتناول الغذاء في العصر، وكثيراً ما كنت أتناول غذائي خارج البيت .. فقد كثرت الجنيهات معي .. كان يود أن يقول الكثير وربما لاحظ أن أصدقائي كثروا أو بالأحرى تغيروا وتنوعوا، فلم يعد هناك من يؤانسني، فقد أصبحت من أرباب الحرف ومن الصعب أن أفصل نفسي عنهم .. كان يود أن يقول الكثير ولكن ربما لم يكن لديه الحل .. أشار لي بالجلوس وهو لا يزال يحرك مسبحته ويتمتم بشفتيه .. أطأطيء رأسي لأسفل، ثم أنظر إليه لأجده ما زال ينظر إليَّ .. حتى بادرني بقوله : ( إنتَ مرتاح يا بني ومقتنع بالشغل ده ؟! ) .. لم يجد مني إجابة .. لذا فقد استطرد قائلاً : ( هل طلبت منك شيء أو إنني أشكو من مصاريف ؟! الحمد لله مستورة، اعتبر نفسك ما زلت في الكلية ونظم يوم، اصحى الصبح بدري، صلي وافطر وانزل اشتري الجرايد واقرأ في كتبك وربنا هيفرجها إن شاء الله، وتابع الإعلانات واعمل اللي عليك، ومن يتقِّ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ..مات أبي ومازلت أصحو مبكراً أنفذ وصيته .. ومازالت أمي تدعو لي كل صباح .. ربنا ينجيك ويفرحك بأولادك ويوسع رزقك .. ويقبل دعاء الناس ليك ..
انطلق إلى عملي .. أدعو لأبي رحمه الله .. لم أختر مهنتي .. ولم أختر الكتابة "هوايتي" .. لكنني اخترت أن أكون سعيداً في حياتي ..