لم يعد يتحمَّل آلام
الجوع ولم تعد تُهَدِّىء منها جرعات قليلة من المياه فى هذا الجو شديد البرودة، يومان
كاملان لم يدق بابه صبي المطعم، ليزوده بطعام الفطور والعشاء كما اتفق مع صاحب
المطعم ولم يهتدِ لسبب مقنع لذلك، ينتفض من فراشه ملقياً بكتابه على يمينه، مندفعاً
إلى المطبخ متفقداً ما تبقى من طعام فطوره، فلم يجد سوى كسرات قليلة من الخبز
الأسمر الجاف، وبقايا جبن مالح وقطعة صغيرة من ثمرة طماطم فاسدة، كان قد استخلص
منها ما يصلح فى الصباح، وقد حاصرتهم أسراب من النمل من كل صوب، وقف مندهشاً يتأمل
حركة النمل وأخذ يفكر هل يستطعم النمل أيضا الجبن المالح مع الطماطم؟ هل غَيَّر
النمل نظامه الغذائي وانصرف عن كل ما هو حلو ومسكر؟ أم تراه مضطراً بعد رحلة بحث
شاقة فلم يجد أثراً لديه لمبتغاه فى مطبخه المتواضع جداً؟! قرر أن يُهدىء من جوعه
بكوب دافىء من الشاي، ولكنه لم يقتنع بالفكرة، فنظر فى ساعته واتجه للنافذة المطلة
على الشارع وألقى نظرة عليه فوجد مطعم السعادة مازالت أبوابه مواربة، فلم يتردد فى
النزول وتناسى تماماً القصيدة التى يلقيها عليه كل مرة "عم سيد" صاحب
المطعم، فتلَّفح وعدَّل من ملابسه قليلاً وهبط درجات السلم، كان هناك قليل من
الزبائن وقد ارتاح قليلا أن رآهم وقد تلفَّحوا وتلثَّموا مثله لدرء الصقيع الشديد،
واندهش أن وقع بصر عم سيد عليه ولم يلقِ عليه قصيدته المعتادة من الترحيب والتهليل
بالمدير الكبير، بابن الأصول، النزيه، الشريف، ابن حتتنا اللى مشرَّفنا ورافع
راسنا ورجع لحارته القديمة علشان مايمدش إيده للحرام، وزادت دهشته أن لم يسأله حتى
عن طلبه ويوصي أحد صبيانه بتجهيزه، ولكنه لاحظ أنه لا يوجد صبيان وأن عم سيد هو من
يخدم الزبائن بنفسه، انتبه على صوت عم سيد مشيراً له بيده قائلاً : (طلبك يا
أستاذ، لمؤاخذة مشيت الصبيان، معادتش جايبه همها) ..
عاد لمطبخه وتناول طعامه، واحتفظ بقليلاً منه
لفطور الصباح، وهمَّ مرة أخرى لعمل كوب من الشاى، ولكنه تذكَّر أسراب النمل فعاد
للنظر إليها وضحك فى نفسه متسائلاً : (هل ممكن أن يصاب النمل بأمراض البشر؟ وهل
الملح الزائد ممكن أن يصيبهم بارتفاع الضغط مثلاً أو يهدد وظائف الكلى؟ وهل إذا
شعروا بزيادة الملوحة يزيدون من شرب المياه؟ وهل تؤذيهم مياهنا كما تؤذينا؟ ثم وجَّه
أسئلته تلك للنمل وبعد أن انتهى ولم يجد إجابة بل وجدهم مستمرين فى حركتهم الدؤوبة،
قرر أن يهِّددهم فقال لهم: (ممكن أن أقضي عليكم جميعاً وألقي بكم فى غيابة الجب، وممكن
أن أترككم تذهبون إن وعدتموني بعدم إزعاجى من جديد، ولم يتوقفوا أيضاً عن حركتهم، فقرر
التخلص منهم، فأشعل موقد صغيراً ليعد الشاي ونظر إليهم ولكنه تراجع عن الفكرة، إذ
تذكر أن الحرق حرام، وقال فى نفسه ولابد أيضاً أن الموت خنقا بالمبيد حرام، ثم
تذكر أنه لا يملك أي مبيدات، ولكنه لم يستطع أن يقرر إذا ما ألقى فوقهم بعض من
المياه فماتوا غرقى فهل هذا أيضاً حرام أم حلال؟ لذلك تراجع عن الفكرة تماماً،
وأخذ يتأمل حركتهم مبتسماً واضعاً كوب الشاى الدافىء بين كفيه ملتمساً بعض الدفء،
تاركاً لهم مصباح المطبخ مضيئاً ليسَهل عليهم حركتهم، وعاد ليستكمل قراءة كتابه فاكتشف
أنه لم يتذكر أين توقف، فبدأ القراءة من جديد..