طالما أمسكت قلمى عن الدكتور عصام شرف وقت أن كان السلطة السابقة، الفاسدة المستبدة، لا يزالون طلقاء. قلت وقتها إن نقد الرجل قد يصب فى صالح «الثورة المضادة». الآن وبعد أن سيق مبارك وعصابته إلى العدالة فقد تخففت من حمل ثقيل، لأجد نفسى فى حاجة ماسة للعودة إلى دورى القديم، مستلهما بعض ما سمعته من مصريين كثر فى حلى وترحالى. أيام مبارك كنت أهاجم نظامه بلا هوادة، وكان شرف نفسه يقرأ أحيانا وهاتفنى مرة واحدة قبل عام مستملحا ومادحا أحد مقالاتى، بطريقة مهذبة كانت تنم عن رجل يكره النظام البائد، لكنه يعبر عن كراهيته فى الخفاء. اليوم أعود، ليس إلى هجوم، فلا تزال أمام شرف فرص عظيمة للتصحيح، إنما لقول رفيق رقيق، من قبيل «النقد البناء» الذى لا أروم منه إلا وجه الوطن، ولا خير فىّ إن لم أقل ما أتصور أنه الصواب، ولا خير فى الدكتور شرف إن لم يسمع إلى أصوات منتقديه قبل مادحيه.
أعرف تماما تفاصيل اختيار شرف، وأعلم أن الرجل بدا زاهدا، هكذا قال لمن ذهبوا إلى بيته يطلبون منه أن يتولى المنصب، وأعلم أن الرجل كان لديه ما يشغله ويحقق له ما يوفر له حياة كريمة، لكنه آثر أن يخدم وطنه فى هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه، إلا أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفى، والإخلاص إن لم يرادفه الصواب، لا يفلح فى بلوغ الهدف، والوصول إلى الغاية، كما أن الأدب الجم والتواضع لا يكفيان وحدهما عنصرين لترجيح رجل وضعنا جزءا لا يستهان به من مستقبل ثورتنا العظيمة فى يديه، فالمرحلة إن كانت تحتاج إلى قيادة رجل شريف ونزيه وكفء فتتطلب أيضا رجلا يجمع بين فضيلة الإنصات إلى مستشارين عدول وبين قوة الشكيمة وصلابة الإرادة والثقة بالنفس واستحضار عظمة الثورة وشمولها فى مواجهة أعدائها والانتصار لمطالبها.
جاء الدكتور عصام شرف إلى الوزارة عقب الفريق أحمد شفيق، الذى كان أشهر ما قاله وقت الثورة إنه سيحول ميدان التحرير إلى «هايد بارك» ويرسل «البونبونى» للمعتصمين فيه. أمام ضغط الثوار رحل شفيق لكنه يبدو أنه قد ترك «البونبونى» فى أروقة مجلس الوزارة، ليوزعه شرف على من ثاروا، أما الدولة وشؤونها فهى تسير وفق طريقة مبارك، حيث يأتى الوزراء والمحافظون وكل من يديرون دولاب العمل من الأبواب القديمة التى تجمع بين اختيارات الأمن وتحكمات البيروقراطية العتيقة وأهل الثقة وبعض زملاء الطريق.
يفتح شرف باب مكتبه لمن يطلب من الثوار، ويوصى بحجرة لـ«ائتلاف شباب الثورة»، فهم أولاده ويجب أن يأخذهم فى حضنه، هكذا كان يقول بالضبط عمر سليمان وصفوت الشريف وأحمد شفيق، أما القرارات فهى جيدة نسبيا فى الاستجابة لمطلب هدم «النظام البائد» أما البناء فيتم وفق المثل العامى الذى يقول: «من ذقنه وافتل له». تتردد معلومات عن مشاركة لواء فى صناعة حدث اعتصام ضباط الجيش بميدان التحرير فيتم تعيينه محافظا بدلا من التحقيق فيما يتم تداوله بشأنه. ويتظاهر طلاب ضد رئيس جامعة لأنه متعاون مع أمن الدولة فيكافأ بمحافظة كاملة. ويفاجأ موظفو ديوان محافظتى حلوان و6 أكتوبر بإلغائهما، ويفتح شباب تحت العشرين أذرعهم للمصفحات والقنابل وخراطيم المياه والهراوات فى الشوارع فيأتى أجدادهم من «مقاهى المعاشات» ليجلسوا فى كراسى الحكم، ويقول شرف للشباب: «اسمعوا إلى الكبار». ومعه فى هذا بعض حق، فلا هو واثق من أن من يستمع إليهم يمثلون ثورة شارك الشعب كله فى صنعها، ولا الناس مقتنعة بأن هؤلاء يمكن أن يديروا الأمور. لكن مصر غنية برجال كبار فى المقام والوطنية والنزاهة والكفاءة والخبرة كل فى مجاله وتخصصه، كانوا يناضلون ضد مبارك، وقت أن كان شرف يجلس على مقعد وزير النقل أو يستمتع بمجرد متابعة وقائع النضال فى بيته الدافئ. ودعنا من المناضلين، إن كان ذكرهم لا يريح أصحاب الياقات البيضاء، فهناك رجال يتمتعون بالصفات ذاتها لكنهم لم يتعاونوا أبدا مع النظام الفاسد المستبد.
هؤلاء جميعا لا ينفتح شرف عليهم إلا فى مقام «الكلام» أما مجال «الفعل» فينفتح فيه على رجال آخرين مروا من البوابة ذاتها التى كان يمر منها كل من تقدم الصفوف بلا وجه حق أيام مبارك، وكأن ثورة لم تقم، وهى مسألة تعكسها مقولة يتداولها البعض حاليا مفادها: «شرف من ميدان التحرير أما أغلب الوزراء فمن ميدان مصطفى محمود»، كما يعكسها احتفاظ شرف برجال أفسدوا ديوان مجلس الوزراء على مدار سنين، وهنا أقول لرئيس الوزراء: أيها الرجل الشريف النظيف، كيف تطهر مصر من الفساد بينما هو يعشش على بعد أمتار من مكتبك.
إننى كلما تابعت ما يخرج عن مجلس الوزراء من قرارات برق فى ذاكرتى ما سمعته فى أول محاضرة لى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كانت فى «النظرية السياسية» وجاءت سيرة الثورة، فوصفها المحاضر فى جملة بسيطة قاطعة تقول: «إنها التغيير الجذرى».
أما التغيير من باب الأمن والبيروقراطية والعشم والشلة ووفق قاعدة «سكن تسلم» فلا ينتمى إلى «شرعية ثورية» ولا يؤمن بها. وإذا كان شرف لا يختار جميع من يعملون معه فعليه مسؤولية الموافقة، وإن كان هو الذى قد اختارهم جميعا فعليه كل المسؤولية، وإذا كان هناك من يشاركه، فكلاهما يتحمل تبعات هذا الأمر. إن شرف يساعد بقوة فى هدم النظام القديم، وهذا أمر يحسب لصالحه، لكن رحلة بناء نظام جديد تبدو متعثرة إلى حد كبير، وإن سارت على هذا المنوال فقد يعاد إنتاج النظام القديم لكن بوجوه جديدة، ومع بعض التحسينات التى لا تتناسب مع القوة الدافعة لثورة 25 يناير.
عزاؤنا أنها حكومة «تسيير أعمال» لكن حالة الإنهاك والتدمير التى ترك عليها مبارك البلاد تجعلنا ننتظر من هذه الحكومة ما هو أكبر من «التسيير»، ونعول عليها فى أن تستجيب للثورة فى «البناء» أكثر مما تستجيب لها فى «الهدم». ولأنها ثورة شعبية لم تصل بالثوار إلى السلطة، أصبح شرف، شئنا أم أبينا، هو ممثلها، لكنه لا يتصرف فى كثير من القرارات وفق ذلك، إنما وفق «وصل ما انقطع»، وهذا يساهم فى «الثورة المضادة» دون أن يقصد الرجل ذلك بالطبع.
أعلم أن شرف عليه حمل ثقيل، وأنه مشغول الآن برغيف الخبز وأنبوبة البوتوجاز وتوفير الأمن وكل ما يهم المواطنين، وهذه ضرورة، لكن: من بوسعه أن يساعد فى إنجاز هذه المهمة؟ رجل لا يهمه سوى ترتيب أحواله حتى يستمر فى موقعه أطول فترة ممكنة؟ أم رجل سيقاتل من أجل إنجاح الثورة وبالتالى سيعمل ما فى وسعه من أجل توفير حياة كريمة للناس ليشعروا بالفارق بين ما مضى وما سيأتى؟
أحب شرف لكن حبى لمصر أكبر، وللحق أشد. وأقول للمصريين: راح غرمان وجاء ربحان وبقيت على حالها دار لقمان. وصدق رب العزة حين يقول فى محكم التنزيل: «والعصر. إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وتواصوا بالحق. وتواصوا بالصبر».