الجمعة، 22 سبتمبر 2017

قصة قصيرة : عزة .

كان الطابور طويل ومتعرج، لا أرى أوله، ولكنه قادم من أحد الغرف، فى ممر ضيق، وممتد إلى آخره، مما كان يعوق الحركة من وإلى دورة المياه، نتيجة لحركة المغاردين من الغرفة، الوافدين إليها للاستفسار، أخيرا، تراءت لى غرفة ضيقة، مزدحمة بثلاثة مكاتب متلاصقة، وبرغم النداءات المتكررة خلفى وأمامي، ما بين "وسع ياحاج"، "طريق يا أستاذ"، ممن أنهى توقيعه وسدد الرسوم، والتى أحبطت محاولتي لفهم كيف اجتازت الموظفات الثلاثة تلك المكاتب الخشبية الأقرب للصناديق، ليصلن إلى أماكنهن؟ قفزا أو عن طريق الزحزحة كل مرة، إلا أنى عدت وسرحت ثانية، محاولا استيعاب لماذا اختلفوا فى منحي لقب الحاج والأستاذ، ورحت أطالع هيئتي وأقارنها بالآخرين ثم حاولت أن أقوم باستقصاء سريع وتحليل لهيئة كل من المنادين بالحاج مستعينا بعلم الإحصاء فى مخيلتي لأجد أوجه الشبه والاختلاف بينهم، ولم أجد شىء مشترك بينهم سوى ملامح الشقاء على وجوههم، ورائحة العرق النفاذة. اقتربت من النهاية ولم يعد أمامى إلا رجل وشاب، واستطعت أن أشاهد عن قرب، محتويات الغرفة التى تحوي خزنة حديدية مثبتة بجدار حائط قريب من الشباك، وأوراق ملونة ممزقة تكسو بعض من أسطح تلك المكاتب المعدنية، وفى أحد الأركان أرفف خشبية لم أستطع تحديد لونها، مكدسة بملفات قد برزت أحشاؤها من كل جانب، وفى اليمين يرقد سخان شاي كهربائي وبالقرب منه برطمان زجاجى للسكر، وآخر أقل منه للشاي، ها أنا قد أصبحت فى مواجهة ثلاثة سيدات متشحات بالسواد، بدون أن تنظر لي، استلمت الأولى الأوراق مني، ثم انهالت عليها بكتابة أقرب منها للشخبطة الحمراء، وأزاحتها للثانية على يمينها، فرأيتها تكتب أرقاما كثيرة فى دفتر تحصيل صغير لم أتعرف على أي رقم منهم ولكنى متأكد أن جميعها كانت بكسور عشرية، ثم كررت إزاحة الأوراق مرة أخرى إلى الثالثة، بعدما أرفقت الإيصال، وتناولته الأخيرة لتدونه فى دفتر عريض حاولت أن أحصي خاناته وهى توزع المبالغ ولم أفهم كيف كانت أسرع منى إذ فاجئتني بطلب توقيعي فى آخر خانة، وبينما أهم بتناول أوراقى والإنصراف، وضعت يدها على الورق، وفاجئتنى للمرة الثانية بسؤالها وهى تنظر لي: (مش عارفني؟!)، نظرت إلى نقابها وأعتقد أنى عدت برأسي قليلا للوراء، وقبل أن أجيب قالت: (أنا عزة) ،وبسرعة اشتغل محرك البحث برأسي، واكتشفت أننى لم أصادف من قبل هذا الاسم، لا صديقة بالجامعة ولا زميلة ولا حتى ممن كن مشاريع خطوبة، ولم أعثر فى ذاكرة الأسماء لدي إلا عن "أبوعزة" الذي كان منزله على اليمين بواجهة عريضة، ومنذ وعيت كان المنزل مغلق لسنوات طويلة، حتى عاد إليه يسكنه وحيدا، كان قصير نسبيا، بشعر أبيض طويل، قيل أنه كان ضابط وأحيل للتقاعد، ولا أتذكر عنه سوى أنه لم يكن ليظهر كثيرا فى الشارع، ولكنه كان دائم الجلوس فى البلكونة، ينادي على المارة بصوت مرتفع ويتشاجر مع الباعة الجائلين لو توقفوا أمام منزله، ويدخن بشراهة ويضحك كثيرا، ولا يعلم أحد من كان يقوم بخدمته، ثم كما ظهر فجأة، اختفى أيضا فجأة، وهدم منزله بعد سنوات. ابتسمت وتمتمت بكلمات لا أعرفها، ولكنى أشرت إلى النقاب وأعتقد أنها كانت حركة لا إرادية مني، فقالت: (أنا عزة جارتكم فى الحى القديم) ، رحبت بها ومازلت لم أتذكر، كانت مستمرة فى طرح الأسئلة، عن والدتي، وأخواتي، وأخوانى، قبل أن أجيب عليها أنقذتني زميلة لها تطلب سخان الشاي، وحين مدت يدها به، لمحت شامة بلون بنى داكن، على كفها الأيسر، وتذكرت على الفور، ذلك الصباح الممطر الذي استوقفتها فيه والدتى لتصحبني معها للمدرسة، كانت بيضاء، بشعر أسود، وعينان واسعتان، حينما أمسكت بكفي، كانت عيناي بمحاذاة الشامة البني وأتذكر أنى لامستها بأناملي، فابتسمت وأعتقد أن والدتى اطمئنت لها فكانت تنتظرها لتصطحبنى معها كل يوم، إلى أن اكتشفت أنها تسكن على مقربة منا، ببدروم أحد العمارات، وعندما كبرت قليلا، عرفت أن والدها كان عامل بمصنع الغزل والنسيج، وأن بلال أخوها، ترك التعليم، وكان دائم الشجار بالشارع، وحين كبرت كانت تزورنا فى بعض الأحيان، بعد عدة سنوات، انتقلنا إلى حي آخر، وصادف أن شاهدت بلال يفترش أحد الأرصفة ببعض من الأحذية، وتعمدت أن أمر به دون أن يراني، أصرت أن ترافقنى إلى خارج الغرفة، وحين نهضت، ارتج المكان كله، ولكنها حلت لي اللغز حين حملت بيديها مكتبها المعدنى وأدارته، لكى تمر، محدثة ضوضاء كانت كفيلة أن تزعج الموتى، وأدركت حينها أن لا يوجد أدنى علاقة بين السمنة المفرطة و النحافة، وبين المستوى المادي والتعليمي، وعند باب الخروج، سألتها: (ما أخبار بلال؟) فابتسمت وهى تنظر لي فى دهشة، ثم أشارت إلى صورة معلقة على جدار المدخل، مكتوب أسفلها: "انتخبوا الشيخ بلال خير من يمثلكم" .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق