الجمعة، 19 مايو 2017

فى العيادة . قصة قصيرة

تأكد من اللافتة المثبتة على يمين باب الشقة، تقدم ببطء متلفتا وباحثا عن مكان سداد قيمة الكشف، فوجدها تجلس بغرفة صغيرة خلف مكتب تبدو كسكرتيرة، تغاير الصورة التي بذهنه من عشرات السنين والتي كان يطلق عليها الممرضة، وبمجرد أن سألها عن قيمة الكشف وبدون أن تنظر إليه قالت بحدة مصطنعة : (مفيش كشف قبل شهر، كل المواعيد محجوزة) ، ألقى نظرة واحدة سريعة للجالسين، أدرك معها أن وقتا طويلا سيقضيه في الانتظار، فالصالة كانت ملأى بالمرضى رجالا ونساء.. أعاد بصره إليها، وقد استند بكلتا يديه على المكتب ومال برأسه ناحيتها وسألها بصرامة : (أنا بسأل عن قيمة الكشف) .. - مية وخمسين جنيه . دس يده فى جيبه، فأخرج ورقة بمائتين، مدها إليها قائلا: (هذا الكشف والباقي لك)، لم تتردد، ابتسمت ومدت يدها بسرعة قائلة: (شكرا يافندم على ذوقك)، ثم أردفت قائلة: (مش هقدر أدخلك على طول، بعد اتنين تلاتة علشان محدش ياخد باله).. خرج من غرفتها باحثا عن مقعد، كان هناك في آخر الصالة مكانان ولكن تمهل قليلا قبل التحرك ناحيتهما، محاولا البحث عن مصدر هذا البكاء والعويل حتى لمح صاحبتهما،على يمينها رجلان، يبدو أن أحدهما زوجها والآخر والدها وعلى اليسار سيدتان، فجأة نهض أحد المرضى قرب باب غرفة الطبيب، فأسرع بالجلوس، وبدأ يراقب المرضى والسكرتيرة متنقلا ببصره بينهما، كانت أعمار جميع المرضى أكبر منه سنا أو هكذا بدا له، ثم سرعان ما قال لنفسه، بعد أن تجلت له علامات الشقاء على وجوههم، ربما كان هذا سببا ليبدو أكبر سنا .. تذكر آخر مرة زار فيها طبيبا قبل غيابه عن مصر لسنوات، ارتفعت قيمة الكشف من خمسة جنيهات إلى مئات الجنيهات، وأخذ يحسب كم ضعفا زادت، ثم قال بل كم ضعفا هبطت قيمة الجنيه؟ وبينما كان يعيد النظر إلى وجوه المرضى، انتبه لصوت أحد المرافقين لمريض يطلب من الآخر أن يزوده بباقى قيمة الكشف، فشعر بحزن شديد، و حدث نفسه، بالطبع كلما زادت أعداد الغلابة، فلا شك من زيادة أعداد اللصوص والمرتشين أيضا، وتعجب كيف ينفق هؤلاء من تلك الأموال الحرام على طعامهم، وإن لم يكن هناك رب ليخافوه، فهل لا يخشون الفضيحة؟! ثم تذكر أول مرة عمل فيها بمصر، لم يكن عمل بل كانت فترة تدريب بعد التخرج، سلمه صاحب المكتب ظرف مغلق، ونبه عليه أن يسلمه لموظف بالسجل التجاري، كان نائب رئيس السجل، وحين بدا منه الامتعاض، قال له صاحب المكتب : (هذه ليست رشوة، هذا مقابل أن أحصل لموكلى على حقه، واستشهد له بآية قرآنية"ومن اضطر "، ولا تعبأ بوجهه المتجهم ولا صراخه، تذكر أنه فى النهاية موظف فاسد، كل ماعليك أن تتوجه إليه وتبلغه أنى أرسل له السلام، وتدس الظرف أمامه بالملف وتضعه على مكتبه).. بعد أن أنهى مهمة الرشوة بنجاح، انصرف إلى أحد المقاهي، وأخذ يفكر فيما فعله، وانتهى أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال ولن يكرر ذلك مرة أخرى، وشعر برغبة فى ترك العمل، وحين هم بالمغادرة، لمح نائب الرئيس، يمر أمامه حاملا أكياس الفاكهة والخضروات، وأخذ يتفرس ملامح وجهه الهادئة والراضية، هل هذه شخصيته الطبيعية، هل هى مشاعر الانتصار، أم الذل والانكسار؟ كانت ملابسه أقل من العادية، لا يبدو عليه أي مظاهر للترف أو الثراء، هل هو مضطر لأن يكون مرتشي؟ ما شعوره لو علم بذلك أولاده؟ ماذا سيفعل لو ناديت عليه الآن، يا مرتشي؟! ارتفع صوت السكرتيرة مؤكدة لأحد المرضى بكل حدة : (قلت مفيش حجز قبل شهر، نظر للمرضى حوله وسأل نفسه، هل كل هؤلاء حجزوا من شهر؟ هل كانوا يعلمون بمرضهم مستقبلا؟ أم دفعوا مثله؟! ثم قال لنفسه، الطبيب صديق قديم، لو اتصلت به، مؤكد كان سمح لى بتجاوز الحجز، ولكنى قدمت رشوة، لتكن صدقة مني، حين أقابل الطبيب ، سوف أبلغه بملاحظاتى، عاد صوت البكاء والعويل مرة أخرى يرتفع، واشتد الزحام بالمكان، وبرغم برودة الشتاء فى يناير، شعر بجو خانق وحرارة شديدة تسري فى جسده، فأشار لأحد المرضى الواقفين قرب الباب بالجلوس مكانه، ولم يلبث أن غادر العيادة. 20 فبراير 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق