الجمعة، 22 سبتمبر 2017

قصة قصيرة : عزة .

كان الطابور طويل ومتعرج، لا أرى أوله، ولكنه قادم من أحد الغرف، فى ممر ضيق، وممتد إلى آخره، مما كان يعوق الحركة من وإلى دورة المياه، نتيجة لحركة المغاردين من الغرفة، الوافدين إليها للاستفسار، أخيرا، تراءت لى غرفة ضيقة، مزدحمة بثلاثة مكاتب متلاصقة، وبرغم النداءات المتكررة خلفى وأمامي، ما بين "وسع ياحاج"، "طريق يا أستاذ"، ممن أنهى توقيعه وسدد الرسوم، والتى أحبطت محاولتي لفهم كيف اجتازت الموظفات الثلاثة تلك المكاتب الخشبية الأقرب للصناديق، ليصلن إلى أماكنهن؟ قفزا أو عن طريق الزحزحة كل مرة، إلا أنى عدت وسرحت ثانية، محاولا استيعاب لماذا اختلفوا فى منحي لقب الحاج والأستاذ، ورحت أطالع هيئتي وأقارنها بالآخرين ثم حاولت أن أقوم باستقصاء سريع وتحليل لهيئة كل من المنادين بالحاج مستعينا بعلم الإحصاء فى مخيلتي لأجد أوجه الشبه والاختلاف بينهم، ولم أجد شىء مشترك بينهم سوى ملامح الشقاء على وجوههم، ورائحة العرق النفاذة. اقتربت من النهاية ولم يعد أمامى إلا رجل وشاب، واستطعت أن أشاهد عن قرب، محتويات الغرفة التى تحوي خزنة حديدية مثبتة بجدار حائط قريب من الشباك، وأوراق ملونة ممزقة تكسو بعض من أسطح تلك المكاتب المعدنية، وفى أحد الأركان أرفف خشبية لم أستطع تحديد لونها، مكدسة بملفات قد برزت أحشاؤها من كل جانب، وفى اليمين يرقد سخان شاي كهربائي وبالقرب منه برطمان زجاجى للسكر، وآخر أقل منه للشاي، ها أنا قد أصبحت فى مواجهة ثلاثة سيدات متشحات بالسواد، بدون أن تنظر لي، استلمت الأولى الأوراق مني، ثم انهالت عليها بكتابة أقرب منها للشخبطة الحمراء، وأزاحتها للثانية على يمينها، فرأيتها تكتب أرقاما كثيرة فى دفتر تحصيل صغير لم أتعرف على أي رقم منهم ولكنى متأكد أن جميعها كانت بكسور عشرية، ثم كررت إزاحة الأوراق مرة أخرى إلى الثالثة، بعدما أرفقت الإيصال، وتناولته الأخيرة لتدونه فى دفتر عريض حاولت أن أحصي خاناته وهى توزع المبالغ ولم أفهم كيف كانت أسرع منى إذ فاجئتني بطلب توقيعي فى آخر خانة، وبينما أهم بتناول أوراقى والإنصراف، وضعت يدها على الورق، وفاجئتنى للمرة الثانية بسؤالها وهى تنظر لي: (مش عارفني؟!)، نظرت إلى نقابها وأعتقد أنى عدت برأسي قليلا للوراء، وقبل أن أجيب قالت: (أنا عزة) ،وبسرعة اشتغل محرك البحث برأسي، واكتشفت أننى لم أصادف من قبل هذا الاسم، لا صديقة بالجامعة ولا زميلة ولا حتى ممن كن مشاريع خطوبة، ولم أعثر فى ذاكرة الأسماء لدي إلا عن "أبوعزة" الذي كان منزله على اليمين بواجهة عريضة، ومنذ وعيت كان المنزل مغلق لسنوات طويلة، حتى عاد إليه يسكنه وحيدا، كان قصير نسبيا، بشعر أبيض طويل، قيل أنه كان ضابط وأحيل للتقاعد، ولا أتذكر عنه سوى أنه لم يكن ليظهر كثيرا فى الشارع، ولكنه كان دائم الجلوس فى البلكونة، ينادي على المارة بصوت مرتفع ويتشاجر مع الباعة الجائلين لو توقفوا أمام منزله، ويدخن بشراهة ويضحك كثيرا، ولا يعلم أحد من كان يقوم بخدمته، ثم كما ظهر فجأة، اختفى أيضا فجأة، وهدم منزله بعد سنوات. ابتسمت وتمتمت بكلمات لا أعرفها، ولكنى أشرت إلى النقاب وأعتقد أنها كانت حركة لا إرادية مني، فقالت: (أنا عزة جارتكم فى الحى القديم) ، رحبت بها ومازلت لم أتذكر، كانت مستمرة فى طرح الأسئلة، عن والدتي، وأخواتي، وأخوانى، قبل أن أجيب عليها أنقذتني زميلة لها تطلب سخان الشاي، وحين مدت يدها به، لمحت شامة بلون بنى داكن، على كفها الأيسر، وتذكرت على الفور، ذلك الصباح الممطر الذي استوقفتها فيه والدتى لتصحبني معها للمدرسة، كانت بيضاء، بشعر أسود، وعينان واسعتان، حينما أمسكت بكفي، كانت عيناي بمحاذاة الشامة البني وأتذكر أنى لامستها بأناملي، فابتسمت وأعتقد أن والدتى اطمئنت لها فكانت تنتظرها لتصطحبنى معها كل يوم، إلى أن اكتشفت أنها تسكن على مقربة منا، ببدروم أحد العمارات، وعندما كبرت قليلا، عرفت أن والدها كان عامل بمصنع الغزل والنسيج، وأن بلال أخوها، ترك التعليم، وكان دائم الشجار بالشارع، وحين كبرت كانت تزورنا فى بعض الأحيان، بعد عدة سنوات، انتقلنا إلى حي آخر، وصادف أن شاهدت بلال يفترش أحد الأرصفة ببعض من الأحذية، وتعمدت أن أمر به دون أن يراني، أصرت أن ترافقنى إلى خارج الغرفة، وحين نهضت، ارتج المكان كله، ولكنها حلت لي اللغز حين حملت بيديها مكتبها المعدنى وأدارته، لكى تمر، محدثة ضوضاء كانت كفيلة أن تزعج الموتى، وأدركت حينها أن لا يوجد أدنى علاقة بين السمنة المفرطة و النحافة، وبين المستوى المادي والتعليمي، وعند باب الخروج، سألتها: (ما أخبار بلال؟) فابتسمت وهى تنظر لي فى دهشة، ثم أشارت إلى صورة معلقة على جدار المدخل، مكتوب أسفلها: "انتخبوا الشيخ بلال خير من يمثلكم" .

الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

بعيدا عن السياسة : ارتباك

فى المساء، زارتنا جارتنا، وطلبت منى أن أصحبها إلى البنك لسحب مبلغ لشراء شقة، ولم أكد  أذكرها أن الصباح هو أول أيام رمضان لأعتذر عن المهمة،  حتى نظرت لى أمى قائلة: طبعا، وفى أي وقت، أنت أخته، وفى الصباح بينما كنت  أنتظر جارتنا أمام الباب الداخلي للبنك والذي نصل إليه من خلال صعودنا لدرجات سلم مرتفع، تذكرت أول مرة سمعت فيها قصة ميراث والد جارتي من أخيها، كنا زميلين فى المرحلة الثانوية، وقد مر على القضية عشر سنوات، وكل عام ينتظرون الحكم، وقد علم بقضية الميراث، كل أصدقائنا، حتى أصبحت مثارا للسخرية بيننا، مات والدها، وهاجر أخوها، وبقيت هي ووالدتها المريضة تتابعان القضية، وتحولت السخرية منا إلى شفقة لحالهم الذي كان يسوء عاما بعد عام، كبرت جارتنا، وأمها ترتجف خوفا مع كل عريس يتقدم لها خشية أن تتخلى عن رعايتها، وبينما أتأمل حال جارتنا بعد حصولها على الميراث، وإختلاط مشاعرها ما بين بهجة وحيرة وهى تحدثنى فى الطريق عن المستقبل بخوف وترقب، إقتربت منى إحداهن لم أستطع أن أحدد إذا كانت إمرأة أو فتاة، وسألتنى : من أين تستطيع الحصول على قرض؟! فأشرت لها إلى موظف الأمن الجالس فى مدخل البنك لكي تستفسر منه، فإنصرفت . ولكني لاحظت ارتباكها الواضح فى الكلام وفى خطواتها ، وشغلت نفسي بمتابعة حركة الناس على رصيف البنك المطل على النيل، وأتذكر الفيلل التى هدمت ونشأت مكانها المباني العالية بمحلات كثيرة أسفلها فزاد من زحام الطريق، وحيرة مالكي السيارات فى الحصول على موقف،  واندهشت كيف لم يتفتق ذهن المسئولين عن فكرة ربط اصدار الرخص بتوفير مكان لعدد الوحدات السكنية بكل برج؟! هل ذلك متعمد لكى يكدروا الناس صباحا مساءً أم إنعدم الخيال إلى هذا الحد؟! وكيف يقبل السكان تلك المعاناة اليومية فى الدخول والخروج إلى منطقة سكنهم برغم المبالغ الكبيرة التى دفعوها مقابل تلك الوحدات ؟! وتوقفت عن حديث النفس حين لمحت تلك الفتاة مرت من أمامي تهبط درجات السلم بنفس الارتباك البادى فى خطواتها ولم أعلم هل حصلت على إجابة ترضيها لتلبية قرضها أم لأ . التفتت يمينا فوقع بصري على  العجوز الجالس أمام السور الحديدى للبنك واضعا أمامه بضع من أكياس المناديل الورقية وحاولت أحسب  كم يربح من هذا العدد الضئيل وكم تكلفة رحلة الوصول والعودة ، إلى البنك وبيته، حتى عادت الفتاة أدراجها صاعدة درجات السلم ومرت بجواري ولمحتها أكثر ارتباكا وحيرة من قبل، فتركت التفكير فى بائع المناديل واهتديت إلى أنه من المؤكد يعتمد على احسان بعض المارة وإستدرت  مواجها مدخل البنك منتظر خروجها، ولم تمض دقائق حتى عادت، فأقبلت عليها وسألتها: - هل وافقوا على القرض ؟ - لأ . اشترطوا وجود ضامن . - وهل لا تعلمي أن هذا شرط ضروري ؟ - فى التلفزيون كل يوم بيقولوا القروض متاحة بالبنوك لشراء ثلاجة أو صالون . - وما سبب حاجتك للقرض ؟ - زوجي يعمل نجارا على ماكينة خشب وقطعت أصابع يده اليمنى ولا يعمل منذ ستة أشهر، وعندى طفلان، ولا نملك أي مبالغ بالبيت، ورمضان دخل والعيد بعده ، وبعده فيه مدارس . - والدك موجود ؟ - نعم . - هل والدك يعلم ظروفك ؟ -لا أستطيع إخباره فظروفه سيئة هو أيضا . أثناء ذلك كنت مددت يدى وأخرجت مبلغا من المال قدمته إليها قائلا اعتبري هذا المبلغ جزءا من القرض، رديه حين يتيسر لك ، كنت منتظر فرحتها ولكنها فاجئتني ببكاء ورفض قائلة : لا أستطيع ، ماذا أخبر زوجي عن مصدر المبلغ ؟!
خرجت جارتنا، حاملة كيس النقود، متجهة ناحيتى تحثني على الذهاب، فدسست المبلغ فى يد زوجة النجار ولم انتظر منها رفضا وتركتها وذهبت مسرعا، فى مكتب الشهر العقارى كان ينتظرنا رجلان، أحدهما صاحب الشقة، والآخر هو الوسيط، الذي ما إن رآنى حتى صافحنى بحرارة شديدة، كان فى الأصل يعمل محصل كهرباء، بعد انتهاء إجراءات التسجيل، طلب المحصل، حقه فى اللبيع، وطلبت مني جارتنا أن أتوسط لديه لأخفض المبلغ، ولكنى لا أدري لماذا ارتبكت فلم أرد، ولم أحاول .     

الجمعة، 19 مايو 2017

فى العيادة . قصة قصيرة

تأكد من اللافتة المثبتة على يمين باب الشقة، تقدم ببطء متلفتا وباحثا عن مكان سداد قيمة الكشف، فوجدها تجلس بغرفة صغيرة خلف مكتب تبدو كسكرتيرة، تغاير الصورة التي بذهنه من عشرات السنين والتي كان يطلق عليها الممرضة، وبمجرد أن سألها عن قيمة الكشف وبدون أن تنظر إليه قالت بحدة مصطنعة : (مفيش كشف قبل شهر، كل المواعيد محجوزة) ، ألقى نظرة واحدة سريعة للجالسين، أدرك معها أن وقتا طويلا سيقضيه في الانتظار، فالصالة كانت ملأى بالمرضى رجالا ونساء.. أعاد بصره إليها، وقد استند بكلتا يديه على المكتب ومال برأسه ناحيتها وسألها بصرامة : (أنا بسأل عن قيمة الكشف) .. - مية وخمسين جنيه . دس يده فى جيبه، فأخرج ورقة بمائتين، مدها إليها قائلا: (هذا الكشف والباقي لك)، لم تتردد، ابتسمت ومدت يدها بسرعة قائلة: (شكرا يافندم على ذوقك)، ثم أردفت قائلة: (مش هقدر أدخلك على طول، بعد اتنين تلاتة علشان محدش ياخد باله).. خرج من غرفتها باحثا عن مقعد، كان هناك في آخر الصالة مكانان ولكن تمهل قليلا قبل التحرك ناحيتهما، محاولا البحث عن مصدر هذا البكاء والعويل حتى لمح صاحبتهما،على يمينها رجلان، يبدو أن أحدهما زوجها والآخر والدها وعلى اليسار سيدتان، فجأة نهض أحد المرضى قرب باب غرفة الطبيب، فأسرع بالجلوس، وبدأ يراقب المرضى والسكرتيرة متنقلا ببصره بينهما، كانت أعمار جميع المرضى أكبر منه سنا أو هكذا بدا له، ثم سرعان ما قال لنفسه، بعد أن تجلت له علامات الشقاء على وجوههم، ربما كان هذا سببا ليبدو أكبر سنا .. تذكر آخر مرة زار فيها طبيبا قبل غيابه عن مصر لسنوات، ارتفعت قيمة الكشف من خمسة جنيهات إلى مئات الجنيهات، وأخذ يحسب كم ضعفا زادت، ثم قال بل كم ضعفا هبطت قيمة الجنيه؟ وبينما كان يعيد النظر إلى وجوه المرضى، انتبه لصوت أحد المرافقين لمريض يطلب من الآخر أن يزوده بباقى قيمة الكشف، فشعر بحزن شديد، و حدث نفسه، بالطبع كلما زادت أعداد الغلابة، فلا شك من زيادة أعداد اللصوص والمرتشين أيضا، وتعجب كيف ينفق هؤلاء من تلك الأموال الحرام على طعامهم، وإن لم يكن هناك رب ليخافوه، فهل لا يخشون الفضيحة؟! ثم تذكر أول مرة عمل فيها بمصر، لم يكن عمل بل كانت فترة تدريب بعد التخرج، سلمه صاحب المكتب ظرف مغلق، ونبه عليه أن يسلمه لموظف بالسجل التجاري، كان نائب رئيس السجل، وحين بدا منه الامتعاض، قال له صاحب المكتب : (هذه ليست رشوة، هذا مقابل أن أحصل لموكلى على حقه، واستشهد له بآية قرآنية"ومن اضطر "، ولا تعبأ بوجهه المتجهم ولا صراخه، تذكر أنه فى النهاية موظف فاسد، كل ماعليك أن تتوجه إليه وتبلغه أنى أرسل له السلام، وتدس الظرف أمامه بالملف وتضعه على مكتبه).. بعد أن أنهى مهمة الرشوة بنجاح، انصرف إلى أحد المقاهي، وأخذ يفكر فيما فعله، وانتهى أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال ولن يكرر ذلك مرة أخرى، وشعر برغبة فى ترك العمل، وحين هم بالمغادرة، لمح نائب الرئيس، يمر أمامه حاملا أكياس الفاكهة والخضروات، وأخذ يتفرس ملامح وجهه الهادئة والراضية، هل هذه شخصيته الطبيعية، هل هى مشاعر الانتصار، أم الذل والانكسار؟ كانت ملابسه أقل من العادية، لا يبدو عليه أي مظاهر للترف أو الثراء، هل هو مضطر لأن يكون مرتشي؟ ما شعوره لو علم بذلك أولاده؟ ماذا سيفعل لو ناديت عليه الآن، يا مرتشي؟! ارتفع صوت السكرتيرة مؤكدة لأحد المرضى بكل حدة : (قلت مفيش حجز قبل شهر، نظر للمرضى حوله وسأل نفسه، هل كل هؤلاء حجزوا من شهر؟ هل كانوا يعلمون بمرضهم مستقبلا؟ أم دفعوا مثله؟! ثم قال لنفسه، الطبيب صديق قديم، لو اتصلت به، مؤكد كان سمح لى بتجاوز الحجز، ولكنى قدمت رشوة، لتكن صدقة مني، حين أقابل الطبيب ، سوف أبلغه بملاحظاتى، عاد صوت البكاء والعويل مرة أخرى يرتفع، واشتد الزحام بالمكان، وبرغم برودة الشتاء فى يناير، شعر بجو خانق وحرارة شديدة تسري فى جسده، فأشار لأحد المرضى الواقفين قرب الباب بالجلوس مكانه، ولم يلبث أن غادر العيادة. 20 فبراير 2017

الجمعة، 12 مايو 2017

فنجان قهوة . قصة قصيرة .

وافقت على الفور على قبول دعوته لتناول القهوة بدون أي تردد، ربما كانت فرصة لى لأستمتع بسطوع الشمس فى أيام يناير الباردة، كنت قد تعرفت عليه من خلال حوار دار بيننا على صفحة أحد الأصدقاء بالفيس بوك، و دار بيننا الحوار أكثر من مرة على الخاص، كانت طريقتة للتعرف عليّ عبارة عن توجيه أسئلة كثيرة متلاحقة ولم أتردد فى الإجابة، فلم أعد أنزعج من هذا الأسلوب الذي اعتدت عليه من بعض الأصدقاء بمجرد قبول الإضافة، وألتمس لهم العذر، وأحيانا قليلة أضطر لعمل حظر لمن يتدخل فى أمور شخصية، بعدها أصبحنا أصدقاء، كانت دعوته تلك هى المرة الثالثة، فى المرة الأولى، قضينا وقتاً طويلاً ربما لم نبرح مكاننا لمدة أربع ساعات متواصلة، لا أعلم لماذا حكى لى قصة حياته كاملة، منذ تخرج من كلية الشرطة التى التحق بها رغماً عنه، نزولاً لرغبة والده التاجر، الذي توفى فى حادث قبل تخرجه بأشهر، وذكر لى مواقف كثيرة بعمله لم يكن راضٍ عنها وكانت تمثل له ضغطاً عصبياً شديداً، أثر على علاقته بزوجته، فنشأت الخلافات بينهما ولم تتوقف وتفاقمت المشاكل بعد 25 يناير، حين صارحها برغبته فى تقديم الاستقالة وبدء حياة جديدة، وكان لوقع الخبرعليها صدمة شديدة لم يفهم لها سبباً محدداً، ولم يقتنع بكل ما أبدته من تخوفات على حياتهم المعيشية مستقبلاً، ولم تقتنع هى أيضاً بأن مكافأته مهما كانت تفى لتأمين حياتهم، ولا بمشروعه الذي عرضه عليها وهو شركة أمن، فإذا كنت ستعمل بالأمن مرة أخرى فما الداعي للإستقالة، ويبدو أنه اقتنع بوحهة نظرها على أن يستمر سنوات قليلة حتى يصل لسن المعاش ومن المؤكد سيكون معاشه الشهري أكبر، وكذلك مكافأة نهاية الخدمة.
عندما قبلت دعوته فى المرة الثانية، لاحظت أنه أقل توتراً عن أول لقاء، ولكي أكون دقيقاً، فأول مرة شعرت أنه يحاول أن يبدي وقاراً وهيبة على هيئته، ولكنه سرعان ما خارت عزيمته فجأة حين بدأ ينساب فى الحديث عن أسرته، ولاحظت أن نظرات عينيه لا تستقر فى مكان وتكاد جفونه ترتخي، وكان ملفت جداً أنه يبتسم بلا سبب واضح أثناء حديثه، ثم لا يلبث أن يتراجع وتحتد نظرته ويتكرر الوضع، وفطنت إلى أنني أمام شخص إما يعاني مشاكل نفسية شديدة، وإما أنه يتعاطى بعض المواد المخدرة، وقد تكون معاناته هى السبب أو الدافع لذلك، ولم تكن تلك المرة الأولى لي التي ألتقي فيها بمثل تلك الحالة، مما أكسبنى نوعاً ما من الخبرة، أدركت معه أن أهم ما أقدمه لذلك الصديق هو إبداء الاهتمام بمشكلته والاستماع له بإنصات وبدون مقاطعة حتى يفرغ كل معاناته، فى المقابلة الثانية، توقفت طويلاً عندما قال لي أن أصعب أوقات يمر بها هي الأوقات التي تسبق النوم وخاصة في الليل، تبدأ الهواجس تجتاحه، ويتخيل أن هناك من سيقتحم عليه بيته، وينزعج من أدنى صوت يسمعه، فيهب من فراشه، يراقب مصدر الأصوات من بين فتحات النوافذ، ويقضي الليل بطوله على هذا الحال، وكما توقعت؛ أسرى لى أنه بدأ فى تعاطي المهدئات بكافة أنواعها، ولم تفلح معه، يظل عقله يقظاً، بيد لي أنه كان على وشك أن يبوح بأشياء ولكنه تردد وتمالك نفسه، ثم لاحظت أن عيناه تنظر فى جميع الاتجاهات، واهتزت سيجارته بين أصابعه كثيراً، ثم قال: (أتدرى أننى قضيت ليلة أمس فى أحد الأقسام، بسبب نزاع على كلب؟ نعم كلب!! لذلك كنت رافض أن أعمل مع رجل، أعلم مسبقا أنه لا يريدنى إلا "شماشرجى" ، مؤلم أن أتملق رتب صغيرة، كانت تقف لى تحية وتعظيماً، أطلب منهم تسوية نزاع كلب، أو رخصة قيادة أو جواز سفر لأبناء النائب، أي كان الراتب والمقابل) ، ثم ساد صمت طويل بيننا، قطعه بالنظر إلى ساعته، واستأذن للإنصراف على أن نلتقي مرة أخرى شاكراً وممتناً جداً للراحة التى يشعرها معى.
نسيت أن أذكر، أنه كان يحرص كل مرة أن نلتقي فى مقهى شعبي يغيره كل مرة، فلا يحب أن يجلس فى أماكن قد يتعرف إليه البعض، واحترمت رغبته، وربما لأنى أيضا أحب تلك الأماكن المزدحمة والتى تقربنى من حياة الناس البسيطة.
كان المقهى هذه المرة ضيق جداً، وشعبي جداً، وكنت أجلس فى أول مقعد من الباب بشكل يسمح لى بمراقبة الشارع والجالسين، كانت تلك أول مرة يدعونى للقاء فى الصباح، وأعتقد أنه لم ينم ليلته، وكانت نبرة صوته مضطربة، مضت نصف ساعة فى انتظاره، ولم يرد على اتصالي به، وكنت أسلى نفسي بالمارة ونداءات الباعة الجائلين والواقفين، والمفترشين للطريق، وكان يصل لسمعي، حديث شابين، أدركت بشكل واضح جداً أنهما مندوبا مبيعات لفلاتر مياه، وكان كل منهما يشكو للآخر، فشلهم فى بيع فلتر واحد خلال الأسبوع الماضي، وكانا يسخران من مديرهما الذي وجههما لتلك الحارة الشعبية، وتشتت تركيزي لحديثهما حينما وجدت حركة غريبة تحدث فجأة، وأصوات تتعالى وأجساد تتحرك فى كل اتجاه، وبدأت الصيحات تتعالى: ( حملة..حملة.. ) فأدركت أن المرافق تلاحق الباعة الجائلين، وفر من فر، وصرخ من وقع منهم بين أيدى شرطة المرافق، ولا أعرف كم مر من الوقت تحديداً، حتى خلا الشارع، وعاودت الإتصال بصديقى مرة أخرى، ولم يرد ولمحت من بعيد على ناصية الشارع، عربات زرقاء وسوداء، ورجال كثيرين بملابس رسمية، وأدركت أنها زيارة رسمية لمسئول، استطعت أن أحدده من بين الملتفين حوله، يتقدمون بعرض الشارع، تسبقهم الكاميرات، وبعض الجنود، كانت خطوته مميزة لا أجهلها، يرتكز على أطراف قدميه، وكأنه يصغط على أعقاب السجائر، ويمد رقبته لأعلى، ربما ليزداد طولا، والتف عددا من أصحاب المحال حوله، كان يستمع لهم، وأحد معاونيه يتسلم منهم الشكاوى، واخذ يقترب من المقهى ولم يعد يفصل بينى وبينه أكثر من مترين، تذكرته ووجدت نفسي أبتسم، فلم يطرأ عليه تغييرا عن أيام المرحلة الإبتدائية، سوى شحوم تراكمت حول صدغيه، وترهل بمنطقة البطن، وتذكرت كم كان مميزا وهو يتأهب لانتهاء الحصة، فينقض كالأسد، وبسرعة كالغزال يحتضن  الكراسات، ينقلها من الفصل لغرفة التدريس، وأحياناً إلى منازل المدرسين، وكان يفعل ذلك تطوعاً بدون طلب منهم، ويجد متعة كبيرة فى ذلك، وكان ينظم وقته جدا، ويجد الوقت الكافى للراحة، باقى الحصة، كان طيبا سمحا، لا يعكر صفو مزاجه، مزاح بعض المدرسين بسبب درجاته المتواضعة، وحين ارتص اللفيف أمام دورة مياه جديدة، للمسجد الملاصق للمقهى، مبتسمين للكاميرات، أدركت سبب الزيارة، وانتبهت لأحد العمائم فوق جسد يكاد يكون أطولهم، مازال يحتفظ بنحافته، ونظرته البلهاء، فقد حباه الله بطول قامة أعلى من كل المدرسين، كان لذلك سببا وجيها لكى يكون رئيسا للفصل، يلمح من يهمس لزميله، ويكتب اسمه أعلى السبورة، فنعجز عن أي محاولة لمسحه، ومازلت أتذكر يوم أن خلع المدرس نعليه، وانهال على قدميه ضربا، لأنه لم يحفظ الآيات، ولم تشفع توسلاته للمدرس بأنه رئيس الفصل، وبينما أنا أتابع هذا الحشد العظيم على يميني، تحولت نظراتهم إلى يساري، فالتفت إلى اليسار، كان صديقى المنتظر، يسير متخلفاً لأحدهم بخطوة، حتى وصل إلى الجمع، ومر أمامى ولم يعرنِ أي اهتمام، فانحنى بشدة يصافح كبيرهم، حتى هوى على الأرض، فدفعت حساب القهوة وانصرفت.

السبت 18 مارس 2017م


الاثنين، 24 أبريل 2017

قصة قصيرة : نهار سعيد .

أجساد وأعمار مختلفة من البشر، تتشابه فى السمرة والنحافة، تراصت على حافة الرصيف، صباح كل يوم، من أول وهلة تدرك أنهم قطعوا مئات الكيلومترات من الجنوب للشمال ليبحثوا عن فرصة عمل، أمام كل منهم أزميل حديدي طويل وسميك، يسميه البعض منهم أجنة أو مسمار، ومطرقة ثقيلة وضعوها نصب أعينهم فى وضع التأهب، ومنهم من أضاف إليها الجاروف ليصنع شكل هندسي هرمي يشبه منصة الصواريخ، تذكرني جلستهم بصورتى أثناء فترة التجنيد أمام مخزن السلاح وأنا قابض على سلاحى فى وضع الاستعداد، أو أعلى التبة الجنوبية بالكتيبة، يستطيع المار بجوارهم بقليل من التمهل والتأمل أن يتيقن من وجود قصة وراء كل منهم، ربما حملها معه وربما حملته للنزوح من قريته، قد تخدعك نظراتهم فتظن بهم السذاجة، ولكن لو اقتربت منهم، وراقبت تلك العيون برغم اصفرارها، وبروز محجريها، ستجدها تحوم كالوحوش الساكنة التى تنتظر أول فريسة قادمة فتنقض عليها، ربما تنجح فى اقتناص ما يكفى لسد جوعها والاحتفاظ بما يكفى لأفواه تنتظر ولا تغيب  صورتها أبدا عن عقل وقلب كل منهم.
أتابعهم كل يوم أثناء تناول فطوري بالمقهى، بعض منهم أصبحوا معروفين بالاسم، يأتيهم من يقلهم كل صباح، لينطلقوا فى أعمال هدم جدار و ترحيل دماره، يضحك أحدهم قائلا للمهندس: (الراجل صاحب البيت بقى له على الحال دا ياما، كسر كل البيت، والله أنى صعبان عليً فلوسه)، يضحك المهندس قائلا له: (رزقك يا عم سعيد ورزق أولادك)، كنت على وشك أن أسأله: (لماذا هجرت الزراعة فى قريتك؟!) ولكن لم تحن الفرص
.

الخميس، 23 مارس 2017

مقال : صديقى العزيزجوجل(7): التوت، والنبوت .



الحكاية باختصار وببساطة شديدة عزيزي جوجل كل الأطراف التى تقابلت مصالحها واجتمعت وتضافرت جهودها لرحيل الاخوان، هى نفسهاأطراف الصراع الآن، الفارق أن تلك الأطراف نفسها، تكاثرت ونتج عنها أطراف عدة،لذلك فالتخبط هو النتيجة الطبيعية لما نعيشه الآن، صراع على الغنائم، ليس حبا فى وطن، ولا خوفا على مصلحة عامة، لاحظ، أن الغالبية العظمى من الشعب لا دور له فى هذا الصراع ، و لم يعد عذرا له أن يقع فريسة للتوجهات . وعلينا أن نتذكر أنه حين استاء الشعب من حكم الاخوان بعد أشهر قليلة، كان ناتج من المعاناة فى الحياة المعيشية كالكهرباء والطاقة وفقد الأمن، لم يكن أبدا وقتها أي حديث عن خيانة أوتجسس أو إرهاب، حتى تلك التهم التى يواجهها مرسى الآن مازالت تتداول أمام القضاء،تلك الأطراف المتنازعة استخدمت سلاحا أشد للضغط على النظام الحالى، لنشر حالة من الاستياء العام بين الناس ولكن بشكل يبدو بطيئا ولكنه أشد تأثيرا وهو قوتالناس، ولكن علينا أن نتذكر أنه فى كلتا الحالتين، يشترك النظام الحالى ونظام الاخوان فى ضعف الرؤية، ونقص الخبرة فى الأداء وهذا ما لم يستفد منه النظام الحالى ولم يستوعب الدرس جيدا ولم يدرك قدراته ولا قدرات المنافسين أو بالأحرى المتصارعين والمتكالبين على السلطة .
ويبقى قطاع كبير من الشعب العظيم محافظا على دوره، كما صوره لنا "نجيب محفظ" فى الحرافيش، يراقب سقوط فتوة، ليتخلص من أتباعه وحاشيته،  ليبدء عهدا جديدا، مع فتوة آخر، وأتباع جدد، ويظل متعلقا بأمل جديد، يدارى به خيبته وخنوعه وخضوعه،
مستعينا بأغلفة دينية ، يحرص على توزيعها شيوخ الفتوة، الذين لا يتبدلون ولا يتحولون .

الأربعاء، 8 مارس 2017

صديقى العزيز جوجل (6) : الحليف


بالأمس القريب، شاهدت فيلم بعنوان "الحليف - Allied" ، قصة الفيلم عن عمل مخابراتي وجاسوسية أثناء الحرب العالمية الثانية، بالطبع ليس هو أول عمل سينمائي أشاهده، ولكي يُحقق أي عمل جديد النجاح لابد أن يتناوله المؤلف والمخرج من زاوية أخرى غير مكررة، وبالتالي يترك أثراً جديداً على المشاهد، الفيلم شأنه شأن جميع الأفلام الغربية، تهتم جداً بالتفاصيل الدقيقة، ولك أن تتخيل أنَّ هذا فى الأفلام العادية الدرامية والكوميدية، فكيف يكون الإهتمام بعمل فني تتناول قصته جانب من أعمال المخابرات وتعاملها مع الجواسيس، ودورها فى دعم حلفائها أو تصفية أعدائها ؟! .. من المهم جداً، أن نتذكر أن أي عمل لمخابرات أجنبية داخل حدود أي دولة، لا يمكن أبداً أن يتم بأي صورة إلا عن طريق عملاء محليين متعاونين لسبب ما، فقد يكون من أجل المال فقط، وقد يكون لعداء مع النظام الحاكم، وهذا ما جاء بالفيلم، فى صورة دعم من مخابرات أجنبية، لجماعات مقاومة للنظام، وحتى لا نسترسل طويلاً فى شرح قصة الفيلم، دعني عزيزي جوجل أن أذكر مشهدين قد لفتا نظري وتوقفت عندهما كثيراً، المشهد الأول : جملة مكتوبة داخل المقر العسكري(Remember, the enemy is listening) وترجمتها بالطبع تعرفها يا جوجل (تذكَّر، العدو يُصغي)، ولا أخفي عليك أني حين قرأتها شعرت بخيبة كبيرة، خاصة حين تعرف أن زمن هذ العمل أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ تذكرت كم الشائعات أو الأخبار الكاذبة والمخجلة التى مرت بنا خاصة على مدار الست سنوات الماضية، ويحضرنى منها مؤخراً حضور مستشار مزيف للرئاسة مؤتمراً يحضره الرئيس، وتكتشفه صحيفة المصري اليوم وليس الجهات الأمنية، ومر بخاطرى أيضاً أثناء مشاهدة الفيلم، كَمّ الأخبار التى يتناقلها نقلاً وبالمسطرة بعض الناس الطيبين عن أعمال لا يمكن أن يكون مصدرها إلا أجهزة مخابراتنا وبدون أي مصدر، وكان آخرها عملية جبل الحلال ومئات المليارات التى تم اكتشافها وأمور كثيرة لا تدعو سوى للشفقة وليس الفخر، هذه أمثلة سريعة تذكرتها وأنا أقرأ (تذكر أن العدو ينصت) واعلم يا جوجل أن هناك أناس طيبين أيضاً لن يقتنعوا بفداحة تلك الأمثلة وخطرها، بل على العكس، سيهونون كثيراً منها ويتضاحكون، وربما لم يصل إدراكهم بعد أن العمل الجاسوسي تعدى الآن مرحلة الإنصات وجمع المعلومات، فأمورنا الآن أصبحت مكشوفة للجميع، حتى أخبار تسليحنا، لم تعد سراً حربياً من الدرجة الأولى، لا يدركون أن العمل الجاسوسي يسبق العمل العسكري، ولا يقل عنه أهمية، بل أحياناً كثيرة يُكتفى بالعمل الجاسوسي الناجح، إذا حقق هدفه وكسر الروح المعنوية للدولة المستهدفة، وبدون أي تدخل عسكرى مسلح!! شعرت بحزن وخجل شديد وأنا أتخيل العدو وهو يقرأ ويتابع تلك النوعية شديدة السذاجة من الأخبار وكيف يستقبلها أو يحللها، وشعرت بحزن أشد لأنني لم أجد من ينتبه لذلك، وإن تنبه فلم يتمخض عقله إلا أن يحجب رأي، ويمنع ويصادر جريدة أو كاتب أو برنامج، وسألت نفسي: (هل ذلك يرفع من درجة الوعى؟ هل وحدة الصف في أن تكون جموع الشعب كورال من الببغاوات مهما كان اللحن نشازاً ومهما كانت الكلمات رديئة؟! ، هل سننتصر على العدو حين ننعق كالغربان؟! ) .. المشهد الثاني : استدعاء بطل الفيلم للتحقيق معه فى اشتباه قيام زوجته بالتجسس ونقل معلومات، برغم كونه أحد القيادات العسكرية المهمة والذي نفَّذ أعمال بطولية، ولم يشفع له ذلك كله فلا أحد فوق مستوى الشبهات، وتذكرت مدى الحساسية التى أصابتنا وقسمتنا وصنفتنا بدون تمييز ووصمتنا بالتهم، من مجرد حوار يذكر فيه اسم الجيش، أو ظابط جيش، ونسينا أننا فى عام 1978 أنتجنا فيلم "الصعود إلى الهاوية" عن قصة لصالح مرسي، تدور أحداثها أثناء حرب الاستنزاف، وهى قصة حقيقية مأخوذة من ملفات المخابرات، تورط فيها ضابط مهندس.. هل تعلم يا جوجل، أن صباح اليوم التالى قد شاءت الأقدار أن أقرأ بالصحف نقلاً عن جريدة إسرائيلية، تشكيكاً فى قصة رأفت الهجان"رفعت الجمال"، لم أهتم بالأمر كثيراً، ولكني لم أجد من يرد على هذا الإدعاء ويدرك أيضاً فداحته التى ذكرتها من قبل، وهي إضعاف الروح المعنوية، وتحطيم أي نموذج بطولي عشناه، وسألت نفسي: (لماذا توقفنا عن إنتاج تلك الأعمال؟!)، وللأسف لم أجد إجابة ..

الجمعة، 17 فبراير 2017

مسجد عباد الرحمن . قصة قصيرة .


مضى أكثر من ثلاثة شهور والحاج عبد الرحمن راقد بالفراش، لا يقوى على الحركة منذ خانته عصاه وفلتت منه،فسقط على درج سلم المسجد أثناء خروجه بعدما أنهى صلاة الفجر، لم يكن يحرص فقط على صلاة الفجر بالمسجد بل على جميع الصلوات، يقضى الصلاة ويجلس بعض الوقت مع أهل القرية هو والإمام خاصة إذا ما كان هناك من أمور يناقشونها بخصوص المسجد كإصلاح بعض النوافذ أو تغيير السجاد أو تخصيص بعض المقاعد لكبار السن في الصفوف الأمامية أو لزيادة الإضاءة، فمنذ تبرع ببناء ذلك المسجد منذ سنوات طويلة وهو الذي يتولى الانفاق عليه،وعلى جماعة تحفيظ القرآن، خاصة أن منزله يفصل ما بينه وبين المسجد بسور واحد .
وكثيرا ما كان يذكر للناس فضل الله وكرمه عليه منذ بنى المسجد، وهو كان صادق جدا، ولكنه لم يذكر القصة كاملة،فلا يذكر أنه أتى إلى تلك العزبة الصغيرة منذ سنوات، بإتفاق مسبق ليؤدي مهمة ، وهى شراء أراض زراعية,وبعد الشراء يشرع فى بناء مسجد، يسمى بإسمه، ولا مانع من بناء منزل يليق بالإمام، ثم تهل عليه نفحات بناء المسجد، فتقرر الدولة شق طريق على جانبي أرضه بمحاذاة بيت الله، فيبدأ بتقسيم الأراضي وبيعها، يحتفظ لنفسه بنصيبه ويرد الجزء الأكبر لولي نعمته،وقد كان نصيبه كافيا جدا لكى يتملك بضعة فدادين، استطاع أن يحافظ عليها وينميها،و عندما اشتد عليه المرض، طلب استدعاء بنتيه وأصر أن يحضرا مع زوجيهما، وحين اجتمعت البنتان مع باقى أولاده، طلب منهما أن يقتربا منه، مشيرا إلى إحداها أن تجلس على يمينه، والأخرى على يساره، بينما جلس أولاده الذكور وزوجا ابنتيه في مواجهته مع زوجته، ثم قال وهو يقبض على كف كل منهما : "أعلم أنكما غاضبتان مني، وأعلم أنكما تريان أنني ظلمتكما حين حرمتكما من ثروتي عند توزيع الميراث، ولم أعاملكما كأخوانكما، وأعلم أن ذلك سبب هجركما لي، ولكني سعيد أني وفقت في اختيار زوجيكما، فلم يبخلا عليكما بشىء، وقد مضت سنوات وبرغم ذلك لا أنسى ما فعلته معكما، ولأني على فراش الموت رغبت أن أكفر عن ذنبي لألقى الله غير آثم وأرجو أن تساعدوني جميعا.. ولم يكد ينهي جملته الاخيرة، حتى دعى له الجميع بالصحة وطول العمر، وبدت السعادة على وجه بنتيه وزوجيهما، بينما كانت الدهشة والترقب على وجه الزوجة والابنين.. ثم أردف قائلا : "العمر مهما طال قصير جدا، وقد أدركت ذلك بعدما مررت بتلك المحنة العصيبة، لذلك لن آخذ معي شيئا من متاع الدنيا،ولن ينفعني إلا عملي، لا مال ولا أرض، ثم ضغط بقوة بكفيه على كفي ابنتيه، فربتت كل منهما على كفه قائلتين : "ربنا يباركلك في صحتك وينور بصيرتك ويغفرلك ذنبك" ..
عاد قائلا : "طلب واحد أخير بطلبه منكم وقد لا ألقاكم بعد اليوم، أعلم أني مخطيء  ، فلقد حاولت أن أعيد توزيع الميراث وفشلت، سامحوني، هكذا خلقني الله لا أستطيع" .. ولم يتفوه أحدا منهم بكلمة وأطبق الصمت عليهم دقائق حتى قطعه انصراف زوج الأولى وتبعه الثاني، ثم أفلتت كل بنت يدها، وتبعت كل منهما زوجها في هدوء.. في الصباح طاف الميكروفون القرية وضواحيها يعلن نبأ وفاة الحاج عبد الرحمن، وينبه أن الجنازة سوف تكون عقب صلاة الظهر من مسجد المرحوم، "مسجد عباد الرحمن" ،عند الظهر سمعت البنتان صوت أخيهما الأكبر يعلن في ميكروفون المسجد أنه يتعهد بسداد أي دين في ذمة والده لأي شخص، بشرط أن يحضر معه ما يفيد ذلك من مستندات، ثم أجهش بالبكاء..

الثلاثاء، 17 يناير 2017

قصة قصيرة : كوب شاي

لم يعد يتحمَّل آلام الجوع ولم تعد تُهَدِّىء منها جرعات قليلة من المياه فى هذا الجو شديد البرودة، يومان كاملان لم يدق بابه صبي المطعم، ليزوده بطعام الفطور والعشاء كما اتفق مع صاحب المطعم ولم يهتدِ لسبب مقنع لذلك، ينتفض من فراشه ملقياً بكتابه على يمينه، مندفعاً إلى المطبخ متفقداً ما تبقى من طعام فطوره، فلم يجد سوى كسرات قليلة من الخبز الأسمر الجاف، وبقايا جبن مالح وقطعة صغيرة من ثمرة طماطم فاسدة، كان قد استخلص منها ما يصلح فى الصباح، وقد حاصرتهم أسراب من النمل من كل صوب، وقف مندهشاً يتأمل حركة النمل وأخذ يفكر هل يستطعم النمل أيضا الجبن المالح مع الطماطم؟ هل غَيَّر النمل نظامه الغذائي وانصرف عن كل ما هو حلو ومسكر؟ أم تراه مضطراً بعد رحلة بحث شاقة فلم يجد أثراً لديه لمبتغاه فى مطبخه المتواضع جداً؟! قرر أن يُهدىء من جوعه بكوب دافىء من الشاي، ولكنه لم يقتنع بالفكرة، فنظر فى ساعته واتجه للنافذة المطلة على الشارع وألقى نظرة عليه فوجد مطعم السعادة مازالت أبوابه مواربة، فلم يتردد فى النزول وتناسى تماماً القصيدة التى يلقيها عليه كل مرة "عم سيد" صاحب المطعم، فتلَّفح وعدَّل من ملابسه قليلاً وهبط درجات السلم، كان هناك قليل من الزبائن وقد ارتاح قليلا أن رآهم وقد تلفَّحوا وتلثَّموا مثله لدرء الصقيع الشديد، واندهش أن وقع بصر عم سيد عليه ولم يلقِ عليه قصيدته المعتادة من الترحيب والتهليل بالمدير الكبير، بابن الأصول، النزيه، الشريف، ابن حتتنا اللى مشرَّفنا ورافع راسنا ورجع لحارته القديمة علشان مايمدش إيده للحرام، وزادت دهشته أن لم يسأله حتى عن طلبه ويوصي أحد صبيانه بتجهيزه، ولكنه لاحظ أنه لا يوجد صبيان وأن عم سيد هو من يخدم الزبائن بنفسه، انتبه على صوت عم سيد مشيراً له بيده قائلاً : (طلبك يا أستاذ، لمؤاخذة مشيت الصبيان، معادتش جايبه همها) ..

 عاد لمطبخه وتناول طعامه، واحتفظ بقليلاً منه لفطور الصباح، وهمَّ مرة أخرى لعمل كوب من الشاى، ولكنه تذكَّر أسراب النمل فعاد للنظر إليها وضحك فى نفسه متسائلاً : (هل ممكن أن يصاب النمل بأمراض البشر؟ وهل الملح الزائد ممكن أن يصيبهم بارتفاع الضغط مثلاً أو يهدد وظائف الكلى؟ وهل إذا شعروا بزيادة الملوحة يزيدون من شرب المياه؟ وهل تؤذيهم مياهنا كما تؤذينا؟ ثم وجَّه أسئلته تلك للنمل وبعد أن انتهى ولم يجد إجابة بل وجدهم مستمرين فى حركتهم الدؤوبة، قرر أن يهِّددهم فقال لهم: (ممكن أن أقضي عليكم جميعاً وألقي بكم فى غيابة الجب، وممكن أن أترككم تذهبون إن وعدتموني بعدم إزعاجى من جديد، ولم يتوقفوا أيضاً عن حركتهم، فقرر التخلص منهم، فأشعل موقد صغيراً ليعد الشاي ونظر إليهم ولكنه تراجع عن الفكرة، إذ تذكر أن الحرق حرام، وقال فى نفسه ولابد أيضاً أن الموت خنقا بالمبيد حرام، ثم تذكر أنه لا يملك أي مبيدات، ولكنه لم يستطع أن يقرر إذا ما ألقى فوقهم بعض من المياه فماتوا غرقى فهل هذا أيضاً حرام أم حلال؟ لذلك تراجع عن الفكرة تماماً، وأخذ يتأمل حركتهم مبتسماً واضعاً كوب الشاى الدافىء بين كفيه ملتمساً بعض الدفء، تاركاً لهم مصباح المطبخ مضيئاً ليسَهل عليهم حركتهم، وعاد ليستكمل قراءة كتابه فاكتشف أنه لم يتذكر أين توقف، فبدأ القراءة من جديد..

مقال : صديقي العزيز جوجل(5) : الخونة البررة !

مضى أكثر من شهرين لم أرسل لك رسالة جديدة، فلقد كانت الإخفاقات بمصرنا الحبيبة كثيرة، وانشغل الناس فيها بقوت يومهم وعلاجهم، وآثرت البعد قليلاً وقضيت وقتاً طويلاً بالقراءة، أو بالأحرى إعادة قراءة لكتب كنت قد قرأتها فيما مضى، فقرأت مسرحية "الطعام لكل فم" للحكيم، وأيضاً "السلطان الحائر"، وقرأت "رواية أرض النفاق" ليوسف السباعى، وقرأت "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وسألت نفسي ماذا يمكنني أن أكتب بعد كل هؤلاء؟! إنها لخيبة كبيرة إن لم يقرأ أحدٌ لهم، حتى أنني أصبحت على يقين تام أن لا أمل فى مسئول واحد لم يقرأ لهم .
ولكن لأن الحدث اليوم جلل عظيم تجاوز كل إخفاقٍ مرت به مصر من قبل، وتجاوز كل المؤامرات الغربية والعربية والكونية على مر الزمان؛ فقد رأيت أنه من الواجب أن أخبرك صديقي جوجل، بخيبة كبيرة حلت علينا كمصريين..
- سَجِّل يا جوجل على صفحاتك، فلم أعد أثق فيمن يكتب التاريخ، أن حفنة من نشطاء السبوبة ونشطاء الغبرة ونشطاء الفيسبوك العاطلين عن العمل انصاعوا لرهط من الخونة والعملاء والممولين وكارهي البلد على رأسهم ثلاثة أشخاص، منهم محاميان؛ يدعى الأول "خالد على" ، والثاني "مالك عدلي" وثالثهم لواء وسفير سابق يُدعى معصوم مرزوق، وقاموا بتدشين صفحات وإنشاء هاشتاج أن تيران وصنافير مصرية، ولأنهم عاطلون فلم يجدوا غضاضة فى أن يضحوا بوقتهم من أجل البحث والتقصي للوصول إلى خرائط ومستندات ووثائق تثبت مصرية الجزيرتين، ولأنهم خونة فلم ينصاعوا ولم يخضعوا ولم يثقوا في اتفاقية وقعت عليها حكومة مصرية، ووصلت بهم الخيانة ألا يثقوا فى رئيس دولتهم الذي بادر بتلك الاتفاقية وقال صراحة وبكل وضوح ألا يريد مزيد من الكلام فى هذا الموضوع..

- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء الخونة والعملاء لم يكتفوا بذلك بل اعترضوا وبشدة وبدون خجل أو مواربة ورفضوا أن يقول كائن ما أن جيش مصر كان محتلاً يوما ما..
- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء الخونة استهزأوا وسخروا من الوثيقة التى كشفت عنها ابنة جمال عبدالناصر ولم يصدقوها، وأن هؤلاء سخروا من خبير عسكرى صرح مؤخراً لنفي مصرية تيران وصنافير : (بأن سيناء لم تكن ضمن الحدود المصرية كاملة تحت حكم الدولة العثمانية)..

- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء الخونة والعملاء انضم إليهم كثير من المحبطين والمتشائمين وأن تلك الواقعة لم تكن الأولى، فهؤلاء هم أنفسهم الذين لم يقتنعوا بجهاز اللواء العظيم الدكتور عبد العاطي لأن نفوسهم المريضة سيطرت على عقولهم وأبت كل ما يعود بالنفع على مرضى مصريين لدرجة أنهم رفضوا أن يمنحوهم أي أمل فى العلاج..

- سَجِّل يا جوجل واحفظ على صفحاتك لكي يقرأ أولادنا مستقبلاَ أن هؤلاء الخونة والعملاء قد نشروا المناخ التشاؤمي فى الأرض، ولم يقتنعوا بفكرة قناة السويس الجديدة، لدرجة أن وصل بهم حد الحقد أن أطلقوا عليها التفريعة، وقالوا عنها أنها بلا جدوى وشككوا فيما ردده مسؤلون كبار بالدولة عن إيراداتها المتوقعة مما كان له أثر بالغ على تدنى عوائدها..

- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء المحبطين غير المتخصصين دائمى الاعتراض والنقد الهدَّام، اعترضوا على ثبات سعر الصرف لأكثر من عام وعلى الفارق الشاسع الذي وصل للضغف بالسوق السوداء وكانوا يسألون لمصلحة من يقوم البنك المركزى أسبوعياً بطرح ملايين الدولارات، ولماذا لا يقوم بتحرير سعر الصرف تدريجياً حتى يستطيع أن يمتص السوق أثر زيادة ارتفاع الأسعار ولا يحدث زلزالاً مرعبا في حياة المواطنين..

- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء كانوا من المصدقين جدا لتقرير هشام جنبنة عن حجم الفساد وأنهم حتى الآن متعاطفين معه..

- سَجِّل يا جوجل أن مازال هؤلاء العملاء والخونة والمحبطين يحاولون التشكيك فى المشروعات العملاقة التى تقوم بها الدولة كالعاصمة الإدارية ..
- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء لا يرون أية بارقة أمل فى غدٍ أفضل مع انتهاج نفس السياسة المُتَّبَعة، ويرون أن الإعلام الحالي هو إعلام موجه لتغييب العقول وبث الرعب والدعوة للاستكانة بين المواطنين..


- سَجِّل يا جوجل أن هؤلاء الخونة ليس لهم أي انتماءات، ولا يتمسكون إلا بمصريتهم ولا يحركهم إلا ضمائرهم الحرة..

- سَجِّل يا جوجل عني أني متفائل جداً وأني أثق فى الشعب المصري طالما كان أمثال هؤلاء النابهين متربصين لكل منافق وفاسد ومغيب وساذج..
- سجل يا جوجل عنى أيضاً، إذا كان التمسك بالأرض خيانة، فليبارك الله لنا فى هؤلاء الخونة البررة، ويرزق مصر المزيد منهم ويسدد خطاهم ويقوى شوكتهم..

حفظ الله مصر من أهلها..