الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

حكايتي مع مدام شلاطة " قصة قصيرة - 2009 "



ما أن وقعت عينا خالي على الجريدة حتى أشار إليها متسائلاً عمن يقرأها ؟! كدت أن أجيبه خاصة أن والدي الجالس قبالته رمقني بنظرة مبتسماً .. ولكن خالي ما لبث أن استطرد حديثه واصفاً الجريدة بأنها مضللة، وكلها افتراءات وكذب وتصفية حسابات من أعداء الثورة، ويجب ألا يقرأها من هم في مثل سني ناظراً إلى أبي وكأن لسان حاله يقول له "كيف تتركه يقرأ تلك الجريدة" ؟! ولكن أبي كعادته كان قليل الكلام .. وكنا نفهمه من مجرد نظرة أو ابتسامة .. وكان ذلك يعني أنه موافق على ما أفعل، أو كان منتظراً سماع ردي .. الغريب في الأمر أنني لم أكن أقرأ من تلك الجريدة إلا صفحة واحدة .. كنت رأيتها في يد صديقي "إيهاب" الذي يعرف أني أتوق لتلك الصفحات الأدبية وهي صفحة مدام شلاطة .. رواية أدبية شَدَّني اسمُها .. خاصة أنه كان لي صديق في المرحلة الابتدائية يحمل نفس اللقب .. المهم أني ترددت كثيراً وكدت أن أخبره بحقيقة وسبب شرائي لتلك الجريدة .. ولكني تراجعت ربما شعرت بخجل خاصة أمام والدي الذي كان بعكس الجميع يشجعني على القراءة حتى يوم أن اكتشف إخوتي كشكول المدرسة المخبأ أسفل السرير، والذي كتبت به أول تجربة لي وكانوا يضحكون ويقرأون بعض الأسطر ويسخرون منها .. سمعت والدي الذي كان لتوه استيقظ من النوم وأمسك بالكشكول وأعاده إليَ وحذرهم من فعل ذلك ثانية .. ولكنني لم أستطع الكتابة بعدها ..

الغريب أنني لم أتعدَّ المرحلة الإعدادية في ذلك الوقت، ولا أذكر أنني كنت قد قرأت شيء ما دفعني للكتابة، ولكنها الفكرة .. فكرة القصة التي لاحت لي ولم أجد أحداً أسأله عنها، ربما حاولت إجابة نفسي بالكتابة .. ثم انقطعت بعد ذلك حتى المرحلة الثانوية، وكانت العودة مع مدام شلاطة .. لم يكن من طبيعتي أن أتقبل كلام بسهولة وبدون مناقشة ودليل وبقناعة مني .. وربما في تلك الفترة بالذات .. ولم يكن لدي معرفة وقراءة جيدة، فوجدت نفسي مباشرة أسأل خالي متعجباً إذا كان ما يقوله صحيح عن تلك الجريدة، فهل من المعقول أن تظل تكتب أسبوعياً تلك الموضوعات بدون أن يحاسبك أحد، أو ينكر وينفي ؟! بالطبع كان هناك ردود منه، ولكن صممت أُذني وتركزت فكرة واحدة لدي، أن لا تقتصر قراءتي على صفحة مدام شلاطة .. وكانت تلك البداية .. من جريدة لأخرى ثم من كتاب لكتاب، ولم أفوت فرصة الاستماع لحديث أمامي إلا وأشارك فيه .. وكنت أشعر بزهو وفرحة غامرة حين يؤَيَّد كلامي أو وجهة نظري ممن هم أكبر مني سناً، مما يدفعني للمزيد والمزيد من القراءة .. لم أنتبه وأنا أحكي لابني الأكبر وأحثه على القراءة أن ابني الصغير كان يسمع إلا حين فاجأني بسؤاله : ( يعني إيه شلاطة ؟! .. يعني شاطرة ؟!) .. ابتسمت وجاوبته.. ( هي فعلا ً كانت شاطرة ) ..

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

حدث بعد منتصف الليل " قصة قصيرة - 1992"



شيء ما يؤرقها ويمنعها من النوم .. تشعر باختناق .. بضيق في صدرها .. لا تدري ما السبب .. لم تعد تستطيع مذاكرة دروسها .. كلما داعب النوم جفونها، هرعت فرحة إلى فراشها كطفل خائف يرتمي في أحضان أمه .. لكن هيهات فسرعان ما يعاودها نفس الشعور .. فلم تعتاد أن تعيش بمفردها .. لا تدري إن كان والداها على حق أم لا ؟! فقد أصرا أن تدرس السنة الأخيرة من مرحلة الثانوي في بلدها حتى لا يكون هناك عقبات عند التحاقها بالجامعة، لكن أكان يجب عليهم أن يرافقوها أم يكتفون برعاية جدتها لها وما يرسلونه من نقود وحقائب ملابس ؟! تسأل نفسها ولا تجد إجابة !! أغلقت نافذة شرفتها ثم هوت إلى فراشها قابضة بكلتا يديها على رأسها .. أمسكت بعلبة الأقراص المهدئة التي أعطتها لها صديقتها وهمَّت أن تتناول منها ولكنها تراجعت بسرعة .. لا تعرف لِمَ أخذتها منها ! ربما لأنها صديقتها الوحيدة .. أو أقرب الزميلات إليها .. فسنوات سفرها الماضية أفقدتها كثير من صديقات الطفولة .. فكرت أن تكتب لوالدها لعل في هذه المرة يلبون رجاءها .. لكن سرعان ما تلاشت الفكرة من رأسها .. فقد يئست من هذه المحاولة .. نظرت إلى التليفون بجوارها .. فكرت فيمن تتصل به لتؤنس وحشتها في هذا الليل الكئيب علها تخلد للنوم .. تذكرت أن الساعة تجاوزت الثانية عشر بقليل والوقت لم يعد مناسب .. السكون يخيم على أرجاء المنزل، لا يقطعه سوى صوت جدتها النائمة عند كل شهيق وزفير .. حتى أن برامج التليفزيون لم تعد مسلية وربما انتهت الآن .. شعرت بغربة لم تلمسها في غربتها ..

تذكرت عندما كانت في زيارة عمتها الخميس الماضي، عندما ضحك عليها بنات عمتها حين احمر وجهها خجلاً لسماع أخيهم يتحدث عن مغامراته في التليفون ..أحست بفكرة شيطانية تراودها .. ترددت أن تفعلها .. كانت تسمع كثيراً من زميلاتها في المدرسة عن ذلك ويضحكن بلا مبالاة .. لم تتصور يوماً أن تفعل هذا أبداً .. شعرت برغبة ملحة عليها لأن تجرب .. ولمَ لا ؟ فلن يعرف أحد .. هكذا حدثت نفسها .. أدارت قرص الأرقام عابثة وسرعان ما سمعت رنين تليفون الطرف الآخر .. وانتابها خوف واضطربت دقات قلبها ولم تعرف ماذا تقول ؟!

- ألو .. ألو .. هانتظر دقيقة وأضع السماعة .. قالها بصوت حاد ..

وسرعان ما تمالكت نفسها ودار بينهما حديث طويل .. صارحته كيف اتصلت به .. عرفت عنه كل شيء تقريباً .. يعيش مع زوجة أبيه، فوالده دائماً مشغول عنه .. ربما لا يعرف في أي كلية أو أي سنة دراسية .. اتفقا أن يكونا صديقين .. لكن في التليفون فقط .. هكذا قالت له .. وعدته أن تتصل هي به بعد أن رفضت أن تعطيه رقم تليفونها .. لم ينته الحديث إلا حين سمعت صوت جدتها تقوم لتصلي الفجر .. خجلت من نفسها حين سمعت صوت الآذان .. تذكرت أنها لم تعد تصلي .. أصوات تتصارع داخلها .. تقنع نفسها أن ما فعلته ليس خطأ .. ولكنها توقن أنه ليس صواب ..

كانت المرة الثانية .. لا تدري كيف أدارت قرص الأرقام ولم ينتابها الخوف هذه المرة التي سمعت فيها جدتها كل الحوار .. اندهشت لما أصابها من تغيير .. حاولت أن تردعها عن فعلتها، فهددتها أن تخبر والدها، ولكنها لا تقوى على ذلك فهي تعرف كم هو قاسي .. لذا أرسلت لوالدتها .. فأرسلت الوالدة لابنتها ترجوها أن تكف عن عبثها وتعدها بالحضور في أجازة نصف العام .. لكنها لم تبالي .. ولم يعد يكفي التليفون .. قررا أن يلتقيا ليرى كل منهما الصورة التي رسمها للآخر في خياله .. انتظرها بسيارة أبيه الفاخرة .. انطلقا معاً .. أخبرها أنه قد تأخر عن موعد والده ويجب أن يعود .. ألحت عليه أن يبقى فكم تحب لحظة الغروب .. لمحت أحد أقاربها .. أخبرته .. انطلق بالسيارة مسرعاً .. اصطدم فانقلبت السيارة .. لم تعد تتذكر شيء ..أرسلوا لوالدها .. فوعدهم بالحضور ، فمشاكل العمل كثيرة ..

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

الدقائق الأخيرة " قصة قصيرة - 1990 "


لم يعد هناك ثمة عقبة أمامي .. أمام حبي .. لم يعد سوى ساعات ليولد حبي .. فمع طلوع هذا الفجر لم أعد طالباً .. ومع بزوغ هذا الفجر ستشرق أحلامي وترى الدنيا نورها في كل مكان .. عقارب الساعة تدق كصوت يد حنون تربت على كتفي تطمئني .. أنظر إليها في صمت .. أراها كأيام الماضي اللعينة .. تلوح لي بالرحيل .. لا أتحرك فقط أنظر إليها .. ربما لو شكرتها أو ودعتها عادت من جديد .. فهي لم تفهمني .. وربما لم أفهمها .. المهم أنها عذبتني حتى تمر .. ثانية ثانية .. النوم عاد يداعبني .. عيناي تتحديان .. أرتشف مزيد من قهوتي فهي وسيلتي للسهر .. إنها أيضاً لم تعد تتكفى .. لقد اعتدتها أيام حبي الأول .. ماهذا ؟! .. إني أتثاءب .. عيناي تكاد تغفلان .. قد أغفلت .. ها  قد ظهرت أنوار الفجر .. ها قد نجحت لم أعد طالباً .. لم يعد أمامي سوى خطوة واحدة .. سأخطو .. سأخطو بحذر .. ليولد حبي .. نعم .. سيولد .. لم تعد ولادة عسرة هاتفي ليسارعوا الحضور .. كانت الطريق بيني وبين حبي لا تتجاوز ساعتين .. عقارب الساعة من جديد عادت تلوح لي .. تهددني بالنظر إليها .. أكاد أصرخ .. أغمض عيني لعل الوقت يمضي .. لا أستطيع ..
ها قد وصلت .. قدماي تهرولان .. ما هذا ؟!
خطواتي غير مستقيمة .. دقات قلبي تكاد تزعج من حولي .. إنهم ينظرون لي .. وقفت أشعل سيجارة .. ربما أستعيد هدأتي .. ربما .. وصلت هناك .. إلى محرابي .. الذي طالما حلمت بدخوله .. كثيراً ما طفت حوله ..
أتأمل ملاكي فيه .. ما أروع تلك اللحظات !! أستشف الحياة من نظراته .. من خلال ستارة الوردي أعيد النظر له .. أرى ابتسامة صُبح يشرق لي .. ما هذا ؟! أليس هذا مكانها .. طريقها .. أسأل قلبي .. كفاك دق .. أخبرني ؟ هذه رائحة عطرها ؟ كيف ؟! كيف لي أن أنساها ؟! لا .. لا .. لكن ما هذا ؟! إنه ليس بمحرابي ! إنه بقايا .. قديم .. أطلال .. كيف ذهبت ؟! أين ذهبت ؟! فقد وعدتني بالانتظار .. إذن أحبتني .. نعم لم أبُح ولم تَبُح .. هل نسيتني ؟! لا .. ربما أوهمتني حباً .. ربما منحتني عطفاً .. لا .. ستعود .. ربما مع الغروب فهي كالشمس .. سأنتظر حتى الغد .. كي أرى وسترون، ألا تصدقون ؟! ما بك تحدث نفسك هكذا ؟!
يتراءى لي ما يشبهها .. إنها مثلها تماماً .. لكن ليست هي .. تلك .. نعم جميلة .. لكن ملاكي جذاب .. زهرة يانعة .. تلك ذابلة .. إنها تسير بجوار آدمي .. لا .. ليست ملاكي .. إنها تنظر لي .. تحملق في .. إنها تقترب مني .. ما زالت تحملق في عيناي .. إنها أمامي .. تبتسم .. تطلب السماح .. إنها هي .. إنها صبراً مللتني .. نعم سئمت الانتظار .. هل يضيع حبي ..
هل أنسى نفسي .. تذهب روحي .. آه ..آه ..
إن أهلي ينتظرون هاتفي .. ماذا أفعل ؟!
سأنتظر .. إنها لي .. أشعر بيد حنون تربت على كتفي .. تنادي اسمي ..
إنها أمي ..
توقظني من النوم .. حمداً لله .. إنه حلم .. حلم جديد .. تخبرني بنجاحي .. أصرخ فرحاً .. أقبل يداها .. أتناسى الحلم ..

حالة طواريء " قصة قصيرة - 1991 "


كان يجلس على مقعد قريب من التليفزيون، كما اعتاد ذلك منذ أن ضعف بصره .. بينما تجلس هي في المقعد المواجه له .. ويحتل أولادهما الثلاثة الضلع المقابل للتليفزيون ينظرون لوالدهم ليروا ماذا سينتج بعد أن صمت طويلاً وقطب حاجبيه .. كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساءاً في يوم الثلاثاء من شهر يناير عندما تم إعلان حالة الطواريء القصوى والقيام بحملة نظافة وتجديد شاملة .. هذا كله بمنزل " سيد " افندي .. ومن الطبيعي أن يكون السبب أمر هام يؤثر على مُجريات الأمور على مجتمع " سيد " افندي وخاصة على الخطط ( الاقتصادية ) التي وعدهم بها للإصلاح .. لذلك فهو يسمع لجميع الآراء والاقتراحات في جو يسوده الديموقراطية، ولأن " سيد " افندي يمنحها قليلاً كان لابد لها من منظم .. وهي حالة الطواريء حتى لا يسود المنزل نوع من الفوضى والاضطراب .. الساعات تمر والكل يعمل كخلية نحل .. الجميع يعرفون نوع عمل كل منهم .. فالأخت الصغيرة تقوم بتنظيف المنزل من الأرض حتى السقف، واقفة على كرسي تحمل عصا طويلة ينتهي أعلاها ببعض الريش القصير .. تحدث نفسها مازال هناك بعض العناكب التي تسللت في غفلة إلى هناك في الركن الأيمن .. متمنية هي الأخرى لو أنها قد أنهت دراستها .. حتى الأخ الوحيد يقوم بمساعدة والدته على مضض في فك ما استعصى عليها من صناديق معبأة بحاجيات طال انتظار استعمالها .. ما كاد ينفتح الصندوق حتى فاحت منه رائحة النفثالين المعتقة فتثير دهشته ويسأل أمه عن هذه الأشياء، فتخبره أنها موجودة وهو عمر سنتين .. يدق جرس الباب .. يدخل " سيد " افندي محملاً بمجموعة من الأكياس وعلب الكرتون .. كانت قد أوصته بها " أم أحمد " قائلة ربنا يطول عمرك ! يتوقف الجميع في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. تتفقد لجنة من الأم والأخت الصغيرة جميع محتويات المنزل .. تطول وقفتهم عند حجرة الجلوس .. ينظرون برضا إليها .. يرون الستائر كأنها تزغرد .. لا يدرون من الفرحة أم للإفراج عنها بعد قضاء المدة .. يتفقدون المقاعد .. ينظرون إلى الإضاءة بعد أن استكملوا المصابيح الناقصة .. الحجرة تبدو أكثر اتساعاً بعدما نقل أحمد سريره ومكتبه .. تسأل الأم عنها .. تنادي الأخت الصغيرة عليها وتجيب على نفسها : " لابد أنها ما زالت هائمة كعادتها " .. رائحة شيء يحترق .. الرائحة تزداد .. يسرعون إلى حجرة النوم .. كما قالت أختها .. يجدونها تقف بدلال أمام المرآة .. ينظرون إلى اليسار .. يجدون المكواة قد أطبقت على الفستان الأحمر الدانتيل فأحرقت طرفه .. ينهرونها .. ماذا نفعل ؟! ليس فستانها .. يحاولون إنقاذه بدون جدوى .. يستيقظون في الصباح الباكر ليتدبروا الأمر .. الساعة تعلن الواحدة ظهراً .. جرس التليفون يدق .. يقوم " سيد " افندي ببطء ليرفع السماعة .. أهلاً وسهلاً .. خيراً .. لا آسف ولا حاجة .. يعود الأب .. الكل يبدو أنهم فهموا ماذا تعنيه المكالمة .. تسأله " أم أحمد " .. فيجيب ( يعتذرون عن الحضور وسوف يخبروننا بموعد الزيارة القادمة ) .. يعود الوضع إلى ما كان عليه ..

الأحد، 6 ديسمبر 2009

عودة الغائب " قصة قصيرة - 1991 "


لحظات كئيبة، تلك اللحظات التي ينفض فيها جيرانها وأقاربها عنها، فالظلام قد أسدل ستائره حول قرص الشمس معلناً قد حان ليلٌ جديدٌ .. أشعلت جدتي ( أو هكذا كان الجميع ينادونها ) المصباح الكيروسين، تركها الجميع، ثم خرجت أنا وأمي أخيراً .. كانت تستأنس بجلوسنا معها، وكنت أستأنس بجدتي هذه أكثر، أرى فيها إرادة وصبر، أتعلم منها، فهي ينبوع التجارب والحكمة ..
 كانت عجوز، طيبة القلب، لذلك كان أهل القرية جميعهم يُلبُّون حاجاتها عن طيب خاطر، تعيش بمفردها في دارها الصغير، كل ما يشغلها هو تجهيز ما ستبيعه غداً وما يحتاج إليه أطفال القرية لكي تشتريه لهم .. فمنذ أن رحل زوجها عم " أبو أحمد " منذ أعوام وهي على هذه الحال، فقد حزن على ولده " أحمد "، وحيدهما الذي تأخرت رسائله عنهما بعد قيام الحرب بعامين، كان قد ذهب مثل أقرانه بالقرية للعمل بالعراق، ليحقق حلمه وحلم والده، يبني لهم الدار الصغيرة بالطوب المحروق والحديد المسلح، يفتح دكانه بالدار، يتحايل بها على قوته اليومي .. ظنَّا أنه استشهد في الحرب، وإن لم يكن ذلك صحيحاً فَلِمَ عاد صديقه " حسين " ولم يعد هو ؟! 
توضأت، أتمت صلاة العشاء، تمتمت ببعض آيات القرآن، تأكدت أن الأبواب موصدة جيداً، برغم حالها هذا كانت تعتقد أنه من الممكن أن يقتحم دارها أحد اللصوص، ويقتنص أكياس الملبس والفول واللب وبعض البالونات، ولم يكن هؤلاء اللصوص سوى الأطفال الذين اعتادوا معاكستها، بدأت عيناها تغفل، سمعت بعض الأصوات تقترب ناحية باب دارها، انتبهت، كأن يداً تنبش بأوراق، تُحْدِثُ صوتاً أقرب لحفيف الأشجار في أيام الخريف، صوت أنين، كأنه جريح يشكو من ألم، تذكرت ولدها .. دمعت عيناها، ربما وحيدها قد أتى، تشجعت، جففت دموعها، أمسكت بعصاها الغليظ، قد يكون أحد اللصوص، اقتربت من الباب في بطء .. من بالخارج ؟! لم يرد أحد، فتحت الباب بسرعة، لم ترَ أحد ، شيء ما قد ولج بالداخل مسرعاً، طاف بأنحائه في فرحة، ينزف دماً من ساقه، جسده مبلل وملطخ بالطين، كأن هناك من يطارده وفاجأه المطر في الطريق، لم تُصدِّق نفسها، أغلقت الباب، أحضرت له إناء من الماء وغطاءه القديم، شرب .. نام .. هز ذيله في فرح .. لم يَعُدْ لها سواه، كانت قد افتقدته منذ ثلاثة أيام، حتى ها هو الآن، ربتت بيدها على جسده، نبح معلناً أسفه ..

الجمعة، 4 ديسمبر 2009

لدغة الخوف " قصة قصيرة - 1991 "


وَثَبْتُ من نومي فزعاً، كانت القطرات تتساقط على وجهي ورأسي كطلقات الرصاص، لكنها لم تفزع أحداً غيري، تَلَفَّتُ يميناً ويسارًا لم يصحُ أحد، لم أرَ سوى تلك الفئران القذرة، كعادتها تغدو وتروح في دأب باحثة عن كسرة خبز، اعتدت رؤيتهم حولي، أحياناً كنت أشفقُ عليهم .. ولمَ لا ؟! هذه وسيلتهم للعيش، خاصة عندما ينتابني الجوع في الليل فلا أجد حتى تلك الكسرة من الخبز، حينها أفقد رؤيتهم حولي، عدت أنظر يميناً ويساراً للأموات النائمين كأهل الكهف، ربما أنهكهم التعب من عمل اليوم فلم يشعروا بَعْدْ بغزارة المطر المتساقط من بين أعواد الغاب وسيقان الشجر وأكياس النايلون الممزقة التي تغطي سقف العنبر .. " الملجأ " فهكذا يسمونه، بظنهم ستحميهم من المطر، تلك الجدران الطينية وأعواد القش المتساقط من المراتب، يذكرني بحظائر المواشي، حتى هي الآن تطورت، أصبحوا يولونها قسطاً من الرعاية والنظافة، حتى لا تصاب أبقارهم وأغنامهم بالمرض ...
منذ أيام مرض أحدٌ، زميل لنا، جندي مثلنا، إنسان مثلهم، رفضوا أن يذهب للمستشفى، لم يصدقوه، كان يتلوى في فراشه كالطير المذبوح، سقط فجأة من بيننا أثناء العمل، مر يوم ويومان .. يصرخ .. يتأوه حتى شحب وجهه، سمحوا له بالذهاب، اصطحبناه معنا في السيارة .. ما أن رآه الدكتور صرخ 
في وجهنا : ( كيف تركتموه حتى هذا اليوم ؟ كان ممكن علاجه .. أصيب بتليف كبدي) .. أصابنا الوجوم والحزن، توقعنا أن تهتز الكتيبة، أن يهتموا أو حتى ينزعجوا، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، عدنا فاستكملنا خلط الماء بالإسمنت لنتم بناء المكتب لسيادته، حتى انتهينا من نقل الأثاث وفرش النوم، فقط اليوم ..
ما زال المطر يتساقط ولم يعد في الليل سوى ساعات قليلة ولابد لي من النوم، كانت هناك مظلة من الخشب أمام المكتب، سأذهب وأفترش بطانية على الأرض وألتحف بالأخرى، أسرعت بحذر حتى لا تنزلق قدماي فأغوص في الوحل، كانت الأرض أسمنتية جافة، تخيرت " على ضوء المصباح الصغير الذي يعلو الباب بقليل " مكان مستوٍ، لم أكد أنام ولم تمضِ بضع دقائق حتى لمحته، غليظاً طويلاً بطول ذراعين، يتحرك نحوي، تجمد الدم في عروقي، شعرت بغزارة العرق برغم برودة الجو ، تمنيت لو لم أبرح مكاني وأتحمل المطر، فكرت أن أقف بحذر وأضغط عليه بكلتا قدماي، بحذائي الثقيل الذي لا أخلعه في النوم، خشيت الفشل فربما يشعر بحركتي ويكون أسرع مني، فجأة انحرف سيره متجهاً ببطء إلى الباب، دنا منه، راحت رأسه تعمل بحركة خفيفة لأسفل الباب، ولم تمض ثوان حتى تسلل فاختفى عن آخره، نهضت من يقظتي كمن أصابه مَسْ، لا أعرف ماذا أفعل، فسيادته نائم بالداخل، وجندي حراسة المكتب غير موجود، فكرة غريبة لاحت بخاطري، طافت بعقلي، راودتني حتى تمكنت مني، أن أتركه وليكن ما يكون، لكن المشكلة الآن أنني لا أستطيع النوم، اقترب الفجر من البزوغ، قررت أن أطرد تلك الفكرة الشيطانية وأتناسى ما فعله بنا، لذا طرقت الباب بشدة بكلتا يدي بل وبقدمي، ثم ما لبث أن طرقت نافذة غرفته، سمعت حركة بالداخل، أصوات مضطربة مرتبكة .. زجاج يتكسر .. مقاعد تتناثر .. وانفتح الباب ثم انغلق .. وابتعدت قليلاً فابتسمت في نفسي، وكتمت أنفاسي حتى لا تتعالى ضحكاتي، كان وجهه كالطفل الصغير، تلحف ببطانية وسار وأنا معه حتى مبيت الضابط النوبتجي الذي كان نائماً هو الآخر، سمع هو ما حدث فأرسل جنديين ليفتكا بهذا الثعبان المزعج، تعجب الضابط أن يظهر الثعبان في هذا البرد والمطر، فجأة نظر سيادته إليَ بدهشة وانهال عليَ بأسئلته، لِمَ نمت أمام المكتب ؟! ولِمَ لَمْ تقتل الثعبان بنفسك ؟ لكنه لم ينتظر جواب كأنه أراد فقط أن يبث فيَ الرعب الذي ملأه، ثم ما لبث أن حدق في طويلاً ثم شكرني وانصرفت ..