السبت، 28 نوفمبر 2009

سكة سفر " قصة قصيرة - 1992 "


بمجرد أن انتهيت من طعام الإفطار وكنت قد ارتديت ملابسي قبله، صليت المغرب وحمدت الله أنني تناولت إفطار أول أيام رمضان مع أهلي بعد أن استأذنت الضابط لمدة " أربع وعشرين " ساعة فقط، كان عليَ أن أقطع المسافة بين بيتنا ومحطة القطار في عشر دقائق، هي الباقية على تحرك القطار في السابعة ...

كان الطريق خالٍ تماماً فيما عدا بعض الذين آثروا الصلاة في المسجد وأمثالي الذين هم في طريقهم للسفر، كانت المحال مغلقة ونوافذ المنازل مضيئة ولا أحد في الشرفات، الهدوء التام وصوت نغمات الملاعق والأطباق الآتية من تلك البيوت الصغيرة جعلني أشعر أن خطواتي بدأت في القِصَر والبطء حتى كأنني سأقف بعد قليل، فأسرعت خطاي حتى لا أتأخر عن موعد القطار، فترامى إلى مسمعي صوت دقات حذائي الثقيل الذي أَحافظ على لمعانه وبريقه، أحسست بفرحة غامرة تنتابني حتى كدت أبتسم وحدي، ربما إحساس بالزهو والفخر أنني صرت جندياً ..

كنت لا أخجل من تلك الملابس الزيتية التي أحرص على كيها، ما زال الطريق خالٍ وحتى أصل في الميعاد كان علي أن أسلك طرق كثيرة معوجة لم تطئها قدماي منذ زمن بعيد حينما كنت صبياً صغيراً أستأجر الدراجات من عم " حسن "..

هناك مررت بفرن العيش وكأنني لأول مرة أراه، فلأول مرة أشاهده دون صفوف البشر المكتظة حول فتحتين صغيرتين بحجم الرأس، إحداها للرجال والأخرى للسيدات، تمنيت لحظتها أن أنتظر لأرى أول قادم يُكَوِّن تلك الكتلة البشرية الممتدة قاطعة الشارع الصغير الضيق، وأرى كيف تبدأ أول مشاجرة حول رغيف العيش، لكنني واصلت السير بدون انقطاع حتى وجدت نفسي أمام المحطة، حمدت الله أنني " قطعت " التذكرة في العصر عندما كنت أسأل على مواعيد القطارات، فقد كان الطابور طويل ممتد هو الآخر وكأنه لن ينتهي، كان الإتفاق مع زميلي " محمد " أن أجلس في آخر عربة حتى لا يبحث عني طويلاً، فلولاه لما ركبت القطار ولاستقليت تاكسي أو أوتوبيس، ولأن المسافة طويلة كان لابد من رفيق للطريق، ثم أنه أقنعني بأننا سنستطيع النوم، وذّكَّرّنِي حين عودتنا بالفرق الكبير بينه وبين أجرة السيارة، ولكنني ذّكَّرْتَه أنه لا فرق إذا أخذنا الدرجة المُكَيَّفة، فضحك قائلاً : ( كلها توصيلة ) ..
تخيرت مقعدي بجوار النافذة حتى أُسَلِّي نفسي بمتابعة أرقام أعمدة الكهرباء أو التليفون لست أدري ؟ وحتى أستطيع أن أراه عندما يأتي، الساعة تعدَّت السابعة بدقائق، فوجئت بها تقف بجانبي، بيضاء نحيفة، شعرها بني مُسْدَل على كتفيها، خضراء العينين، تبدو في نظرتها كطفلة صغيرة، فقط ينقصها أن تحتضن عروس صغيرة، حائرة بحقيبتها السوداء الكبيرة ويبدو أنها ثقيلة، فلم تستطع أن تضعها أسفل المقعد ولا أن ترفعها فوق على الحامل، بدون أن أسألها وضعتها إلى أعلى، فرمقتني بعينيها ببراءة وتحركت شفتاها الصغيرتان بدون أن أسمع لهما صوت، فهززت رأسي أنا الآخر وجَلَسْتُ ُ وجَلَسَتْ بجانبي ..
بدأ القطار في التحرك وشعرت برغبة أن أحادثها ولكني أخجل أن تأبى الحديث، ولن أستطيع الجلوس مكاني طويلاً فالعيون مصوبة إليها من بعيد وقريب وكأنها طير صغير جميل لم يروه من قبل، بَدَأْت أعد الأرقام على الأعمدة وأسابق في العد سرعة القطار التي أخذت تتزايد شيئاً فشيئاً حتى تطايرت خصلات شعرها ولامست وجهي، حاولت أن ألمسها بأصابعي ولكني لم أجرؤ خوفاً ألاَّ تتطاير ثانية ..
بصعوبة استطعت أن ألتقط تلك الكلمات القليلة من تلك العجوز الجالسة أمامي ..
قالت : ( إنت فين في الجيش يا ابني ؟؟ ) ..
لم أرد بسرعة، ماذا أقول ؟! الجيش في الجبل ولن تعرفه، وسيحتاج لشرح وأمامي ما هو أهم، أن أحادث تلك النحيفة البيضاء ذات الشعر البني، وجدت نفسي أقول : ( هناك .. بعيد يا حاجة ) .. قالت لكي لا تنهي الحديث : ( يعني فين ؟ في مصر ؟! ) .. قلت : ( أيوه يا حاجة في مصر ) ..
فعادت تعدل من جلستها ثم قالت : ( تعرف إسماعيل ابني ؟.. ماهو معاكم في الجيش في مصر ) ، لم تعطني الفرصة لأرد، وربما أعفتني من الرد فاستطردت قائلة : ( بس يا عيني عليه بقى له ست جُمع ويومين ! .. أنا عدَّاهم .. كنت فاكراه هيرتاح .. ويقعد يِفَلَّح معايا في الأرض زي ما قال البيه الكبير .. بيه من بتوع زمان .. رحت له علشان يساعد ابني، طلب بنت بنتي تشتغل عند ناس قرايبه أكابر هناك، وقاللي هيريحوا إسماعيل ويعملوا له أبصر إيه .. قام ابني قاللي وديها يامَّه، أهي تنفعنا هي بتعمل إيه ؟.. ومن ساعتها يا ابني ولا حس !! .. خليت البيه لما جه البلد ورحت له إداني ورقة وقاللي روحي العنوان ده في مصر، هتلاقي البنت هناك .. وياريتني ما سمعت كلامه يا بني .. رحت .. لا لقيت بنت ولا ست ! ولقيت جوز رجاله قاعدين يلاوعوا فِيَّ، وبعدين قالوا لي البنت طفشت .. طب وهتروح فين يا ولاد هي تعرف حاجة في مصر؟! دي يتيمة بنت اتناشر سنة .. رجعت للبيه زعقت له وقلت له هاشكيك للعمدة، قام ضحك واداني العنوان ده يا بني، وأهو ربنا موجود )، وأخرجت منديل وأخذت تمسح دموعها ثم سألتني : ( هو اللي بيموت في مصر مش الحكومة بتعرف برضه ؟! ) .. 
ولم تنتظر رد، فوجدتها تعدل من جلستها وكأننا وصلنا ولا يزال أمامنا أكثر من ساعة، التفت بجانبي بهدوء، ربما تبتسم أو تتمتم بشفتيها، ولكنها كانت قد أغمضت عينيها وراحت في نوم عميق، فبدت رموشها كسهام تحذر من يقترب أو ينظر إليها وكأنها في حلم جميل ..
عدت أسابق القطار في عد الأرقام على الأعمدة وأتعمد ألَّا أتحرك حتى لا تستيقظ، فقد التصق كتفي بكتفها ودنا أكثر كلما زاد القطار من سرعته، وتطايرت خصلات شعرها تداعب وجهي ثم تختفي حين تتعالى أصوات الباعة، ومازالت العجوز بين الحين والآخر تلوي شفتيها قائلة : ( يعني ما شفتش إسماعيل خالص ؟! دا هُوَا معاك في الجيش !! سايقة عليك النبي يا بني ما تجيب له سيره لما تشوفه ) ..

شيء غريب !! لم يكن هناك سوى خمس دقائق ونصل حين اسْتَيْقَظَتْ فجأة تلك النحيفة البيضاء وكأنها لم تكن نائمة ولم تكن تحلم، ثم عَملت يديها في شعرها وتوقف القطار، أنزلتُ حقيبتها فابتسمت حتى تحركت وجنتاها وتمتمت بكلمات غير مسموعة مشيرة بيدها من النافذة للواقف هناك ، ثم رمقتني بنظرة خاطفة كمن نسيت شيئاً، وما زالت العجوز تردد : ( سايقة عليك النبي ما تجيب له سيرة لما تشوفه ) !!

الجمعة، 27 نوفمبر 2009

إخلاء طرف " قصة قصيرة - 1992 "


لم أجد نفسي مرة أرغب في السفر إليها لغير أمرٍ مُلِح، ولم أتمنَّ يوماً العيش فيها على العكس من كثيرين يحلمون بها ولو على سطح عمارة، لماذا ؟! .. لا أدري !! .. ولكن ماذا أفعل، فلابد أن أحصل على إخلاء طرف من بنك ناصر الاجتماعي يفيد أنني لم أحصل على قروض، هكذا قالوا لي في الكلية لأسحب أوراق التخرج، الغريب أنني حاولت أن أشرح لهم أن من شروط القرض خطاب من الكلية، وبالتالي فالكلية على علم بمن أخذ قروض، ولكنهم لم يعطوني الفرصة، فقط قالوا لي أنَّ البنك في عين شمس وتقديم الأوراق في الثامنة صباحاً، والاستلام يبدأ في الواحدة ظهراً، يعني لازم أكون هناك ثمانية صباحاً، وأنسب وسيلة هي أوتوبيس الساعة الخامسة الذي يصل في السابعة والنصف ..
كعادتي ليلة السفر لا أستطيع النوم حتى لو ضبطت المنبه، أجدني أستيقظ قبل موعدي بخمس دقائق، ربما كان القلق، ألقيت بجسدي على المقعد مسنداً رأسي على زجاج النافذة، ورحت في سُبات عميق ولم أشعر بالوقت، حتى لكزني جاري في المقعد قائلاً : ( حمداً لله على السلامة، هتنزل هنا ولا في القُللي ؟ )، هززت رأسي مؤكداً القُللي وشكرته ..
نفس الشعور أحسه بمجرد أن تطأ قدماي أرضها، رغبة ملحة أن أحك أنفي وكأن أصابه عطب مفاجيء بسبب تغير درجة الحرارة المفاجئة له ..
أسرع كعادتي إلى المقهى الصغير ذي المقاعد والطاولات الحديدية الصغيرة المثبتة بالأرضية، أطلب شاي مؤكداً على كوب الماء .. بجوار المقهى دورة مياه صغيرة يجلس على مدخلها نفس المرأة تحمل طفلها الصغير بيد، واليد الأخرى لتتناول بها النقود ما بين خمسة وعشرة قروش، صدقة أم رسم دخول لا أدري !! ربما كانت مقابل نظافة، أبلل وجهي بالماء وأتركه ليجف حتى يهدأ أنفي، أرتشف كوب الشاي الساخن، نفس الطعم، ماء ساخن مُحلى !! .. 
لم أجد وسيلة لأصل بها إلى عين شمس سوى نفس وسيلتي، لأنني لو سألت المارة في الشارع لخُيلَ إليَ أنهم جميعاً أغراب عن البلد، وقفت بجوار إشارة مرور لأنتظر الأوتوبيسات القادمة وأسأل أحد راكبيها في تلك الكتلة البشرية المعلقة على الباب؛ حتى أشار لي أحدهم بالصعود، كدت أنفجر ضحكاً، فقصده بالصعود أن أضع قدماً وأتسلل بيد حتى أقبض بها على عامود حديدي قصير، لم يستغرق ذلك ثوان إلا وقد وجدتني أفعلها تلقائياً ..
هاجس غريب لاح بخاطري، وهو ماذا لو انفلت ذلك العامود من جسم الأتوبيس ؟! بالطبع سيُلْقِي بنا جميعاً ! ولكن العالِم بالأحوال موجود، عالَم غريب فنحن المعلقون لم نكن أسوأ حظاً من الجالسين، فلو أني جالس لاضطررت للتأهب للنزول قبل محطتي بمحطتين تقريباً، حتى أستطيع أن أخترق ذلك الحصن البشري، فما بال لو كنت أنثى ؟! لاحْمَرَّ وجهي وكرهت الخروج ..
من حين لآخر كنت أسأل عن محطتي، حتى أشار لي آخر بالنزول، كانت الساعة تعدت الثامنة بقليل عندما وجدت نفسي أمام شباك تقديم الأوراق، كنت الخامس في الطابور، ولم تمضِ نصف ساعة حتى جاء دوري، ولسوء الحظ كانت تنقصني صورة البطاقة، نظرت حولي، الطابور طال وطال، سألت عن مكان للتصوير، قالوا : ( خارج الجامعة .. أعطه الأصل )، فنظرت له، فهز رأسه بالموافقة، على أن يردها لي عند الاستلام في الواحدة، شكرته وانصرفت ..
الساعة قاربت العاشرة .. (ما زال أمامي ثلاث ساعات .. فرصة لأشبع متعتي .. ساعة مواصلات وساعتان للبحث والاختيار من بين الكتب)، مازال يخطر ببالي صورة منزل محمد علي باشا التي كانت بكتاب التاريخ في الإعدادي؛ عندما ترن في أذني كلمة الأزبكية أو سور الأزبكية المكان الوحيد الذي يحتوي على جميع الكتب القديمة ..
لم أشعر بنفسي إلا عندما تصبب العرق مني وانتبهت إلى ذلك العدد من الكتب وكيف سأحمله ؟ اثنا عشرة كتاباً ومجلة في الأدب والنقد ،في الفلسفة والتاريخ وبعض القصص الإنجليزية، لو أني اشتريتها من إحدى المكتبات لكان ثمنها أضعافاً، قاربت الساعة الثانية عشر ولابد لى من العودة، شعرت بعطش شديد، التفتُ حولي باحثاً عن مقهى أو أي مكان لأتناول منه كوب ماء، لاحظت كثيراً من المارة يبطئون خطاهم متجهين برؤوسهم على بعد غير قليل مني، نظرت في نفس الاتجاه ناحية سور الأزبكية، كان قليلون يقفون هناك وكأن على رؤوسهم الطير، عندما اقتربت منهم قال لي أحدهم شيء عجيب بدون أن ينظر لي، ثم  أشار ناحية شاب أسمر ملامحه حادة، طويل متسخة ثيابه، وقال أنه خرج من ذلك الخندق الصغير بالحديقة، وقد رآه آخرون وهو يدخل ومعه طفلة صغيرة من حوالي ربع ساعة، ولا أحد يستطيع أن يقترب ليرى ما يحدث بالداخل، تسمرت قدماي وكاد عقلي أن ينفجر.. ماذا أفعل ؟! والوقت يمر وربما لن أستلم إخلاء طرفي ..
قادتني قدماي إلى قسم الشرطة، كان الضابط يبدو عليه الذهول وهو يراني مندفع نحوه حاملاً تلك الكتب، ربما ظن بي الجنون، وبعد تأكيدي له عمَّا حدث؛ أشار إلي عسكري يقف بجواره أن يذهب ليتحرى الأمر، هممت بالإنصراف .. فناداني ثم سرعان ما انفض الجمع حوله وأخذ يعد بعض الأوراق ثم سألني ما اسمك ؟
فأجبت .. طلب بطاقتي ،فحكيت له وأنني سأستلمها في الواحدة، فضحك آمراً أحد الواقفين حوله أن يُفتشني، فلم يعثروا إلا على كارنيه عضوية بجامعة أدبية، أخذه وأخذ الكتب يتفحصها لتصلني سخريته عند كل صفحة في كل كتاب يتصفحه، حتى أودعني الحجز ليتحرى أمري ..
مر وقت طويل .. غفلت فيه عيناي كثيرا، استيقظ لأغفو ثانية، حتى استيقظت أخيراً على لطمة قوية على وجهي ونداء الله أكبر، برقت عيناي وجمدت حركتي، وحمدت الله فكانت اللطمة يد أخي النائم جواري، والله أكبر صوت منبهي !!..

الخميس، 26 نوفمبر 2009

الرُّكن الشمالي " قصة قصيرة - 1989 "


برغم اختلاف طبائعنا أدمن كلانا الآخر، صرنا شخصاً واحداً، أصبح الناس يعرفونني به ويعرفونه بي .. أخذت عنه بعض الجد وكان من الطبيعي أن يأخذ مني قليل من بساطة الأمور، فأنا في نظره دائماً لا أُبالي الأشياء، وأعتبره أنا يُعطي الأمور أكثر من حقها، فهو على رأي المثل " يعمل من الحبة قبة " ..
حتى كان هذا اليوم، تأخرت عن موعدي معه في الثامنة، كان الجو ممطراً، ترددت في الخروج، إلا نبرة صوته في التليفون كانت توحي بأن شيئاً ما، لم أستطع إلا الخروج له، لم أتوقع ألَّا أجده بمنزله، فمن النادر أن يخرج بمفرده، ذهبت إلى حيث نلتقي، مكتبنا الدائم، هكذا اتفقنا أن نطلق عليه، وهي المقهى، ولم لا ؟ وهو المكان الوحيد الذي يأوينا منذ أن تخرجنا، قارب العامان ونحن نرتاده، حتى النادل نفسه حَفِظَ مكاننا ...
الركن الشمالي دائماً جلستنا، كان من المدهش أنني وجدته بمفرده ينتظرني، القلق يبدو عليه، حدثته فلم يجاوبني الحديث، تذكرت حدة صوته، قررت أن أُفَرِّج عنه، وأنا محتاج من يشاركني همومي، وقع نظري على مجموعة من الطاولات الجديدة فوقها أرفف خشب جانبية ناحية اليمين، تقابلها ثلاثة أرفف محملة بأكواب من جميع الأحجام، ومجموعة الشيشة متراصة بطريقة هندسية تعلن عن مدى نظافة ومستوى الخدمة بالمكتب، أقصد المقهى ..
أخبرته ألم تسمع ما قرره لنا مسئول كبير من أجلنا نحن الخريجين ؟
قال بتهكم : ( ماذا؟! لمَ أسمع ! )، قلت : ( أنه لاحظ أن أعدادنا تتزايد على المقاهي مما يحدث تكدس خاصة أيام العطلات، فاجتمع على الفور مع أصحاب المقاهي الكبيرة والصغيرة على حد سواء بالغرفة التجارية، وأخبرهم أنه توسط لدى برنامج المعونة الأمريكية ليقدموا كافة التسهيلات لتقديم قروض ميسرة بدون فوائد، لشراء ما يستلزمه كل مقهى من عدد جديد من الطاولات والشطرنج والدومينو، حتى يستطيع جذب الشباب ومنعهم من الإنحراف خاصة هذه الأيام، فهم على شفا حفرة من النار)، وأعلن المتواجدون أن هذا قرار جريء وسياسي، ما أن سمع هذا وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجنتيه ولم يعلق، ثم مالبث أن عادت حالة القلق تبدو عليه ..
كانت عيونه زائغة ينظر لجميع الموجودين، سألت : ( ماذا بك ؟! )، حدق فيَّ طويلاً، ثم قال وهو يشير في جميع الإتجاهات بإصبعه : ( تُرى فِيمَ يفكر هذا، وذاك المنزوي هناك ؟! )، ثم استطرد قائلاً : ( اللي بيفكر في مين سيدفع الحساب، والآخر انتهت علبة سجائره وينتظر من سيقذفه بسيجارة، وآخر يُحدث نفسه لِم َ تورطت في هذه الجلسة وبها من لا أطيقه ! .. انظر .. انظر .. هذا نظر فجأة لساقه الممدودة في كبرياء، وتذكر أن حذاءه يناديه " الرحمة "، فتقهقر بقدمه وراء الكرسي حتى يُواريها عن الأنظار كمن يعلن الاستسلام وكأن الجميع رأوه )، أنهى حديثه ثم امتط شفتيه بحزن وهز رأسه وقال : ( هكذا أصبح حال الشباب ) ..
كان النادل قد وضع السحلب والطاولة أمامنا كالعادة، ثم ألقى النرد أيضاً، أشعلت سيجارة ولصديقي أخرى وبدأنا اللعب ..

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

لعله خير " قصة قصيرة - جدة -2 أغسطس 1990 "


اليوم يشعر أنه قد عانق السماء، وأن العالم بأسره يشاركه فرحته، أخيراً قد صفحت عنه الدنيا واليوم فقط قد حَلَّ الفقر عنه ولم يعد اليأس رفيقه .. يدخل محطة القطار منتشياً مزهواً بنفسه، متأبطاً مظروف كبير، جواز سفره إلى الدنيا الجديدة .. ساعات معدودة وتنتهي الإجراءات، يُحدث نفسه : ( لولا وفاة عمي لانتهت الإجراءات منذ أسبوع .. " لعله خير " .. يتحسس ثيابه الجديدة .. يُضايقه بعض الأتربة على حذائه .. يمسح بيده على شعره، ويعدل من قامته، ويتجه بخطي ثقيلة ناحية شباك التذاكر لينتظر دوره في الطابور الطويل .. يبتسم في نفسه محدثها : ( شيء غريب !! كل هذا الطابور (درجة أولى) ؟! واليوم يزداد راكب جديد وإلى حدٍ ما سيؤثر في رصيد اليوم بالزيادة، بالتأكيد .. يصل إلى الشباك، وبصوت يملؤه الثقة يطلب تذكرة ( درجة أولى )، يشير له الموظف بحركة سريعة قائلاً : ( الشباك الأخير )، يحمر وجهه خجلاً، يحاول إخفاءه وهو ينظر إلى الطابور باستياء قائلاً في نفسه : ( كل منا معرَّض للخطأ ) ..
يصعد عربة القطار، يتفحص وجوه الركاب من حوله، كان هناك على اليمين شخص يعتقد أنه يعرفه من قبل، أكد ذلك نظرات هذا الشخص له، حاول أن يتذكره لكن دون جدوى ..
أسند رأسه إلى نافذة القطار وابتسم داخله متخيلاً لو أنه في الدرجة الثالثة الآن، لكان يعاني من لهيب الشمس، فاليوم بداية شهر أغسطس، جميل ألَّا أشعر بالحر أو البرد أثناء السفر، فهذا وحده كفيل بأن يخفف من مشقة السفر، العام القادم لابد أن أقضي هذا الشهر بالمصيف .. لا.. بل شهور الصيف كلها .. ما أمتع أن تجلس على شاطيء البحر تتنفس الهواء النقي، وستكون هي معي طبعاً .. سيعرف الحاج "سليمان " أنني كنت صادقاً معه حين صارحته أن ما أدخره فقط لزوم السفر، وأنني لم أبخل على ابنته بشيء ..
ثم أنني سأعوضها كل هذا طبعاً .. العام القادم سأوفر لها كل شيء تحتاجه وسيكون عرساً لن تعرفه البلدة من قبل .. ينزل من القطار تدفعه خطواته نحو عربات الباص، ثم يتوقف قائلاً لنفسه : ( ..لا.. لن أتحمل زحام الباص، ثم أن اليوم الخميس ويجب أن أنتهي وإلا تأخرت إلى السبت، سأشير إلى تاكسي، نعم هناك صعوبة لكن بعدها راحة .. سأحاول .. ) ..كانت حركة الناس بدأت تدب في المدينة حين لفت نظره زحام على جانب من الرصيف، سرعان ما تراءى له من بينه صبي صغير قد افترش الأرض من حوله بجرائد ومجلات الصباح، دفعه فضوله أن يعرف ما في الأمر .. اتجه نحو الصبي .. كلما دنا من هذا الجمع ازدادت في أذنه كلمات متشابهة .. التقط جريدة وقلب صفحاتها .. قرأ العناوين بسرعة، ثم التفت حوله قائلاً : ( لا يُعقل !! أهذا معقول ؟!، ماذا أقول للحاج " سليمان" ؟! أسأعود ثانية للناظر ليُسمعني كلمات التوبيخ كل صباح !! ) ما هذا الحر الشديد .. ألا يكفي صوت البائعين ؟! أكاد أختنق .. يتأمل الوجوه من حوله .. يرى نفس الشخص الذي حاول أن يتذكره .. كان يبتسم قائلاً لصديقه : ( سبحان الله، أمس فقط اتصلت لأمد أجازتي أسبوع ! ) سمع تلك الكلمات وقال في نفسه : ( ماذا حالي لو لم يتوفَّ عمي ؟! .. لكنه قدر !! أيستطيع الحاج " سليمان " أن يمنع الوفاة ؟ ) .. !!
جدة 2 أغسطس 1990

الخميس، 19 نوفمبر 2009

تحت الطلب " قصة قصيرة - 1990 "


شعور شديد بالضيق، وقلقٌ مستمرٌ يُلازمني، وتفكير في لاشيء ، وحوارات لأشخاص أسمعها بداخلي، لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، وميل للانعزال والوحدة والمكوث لأطول وقت بمفردي، وإحساس بالخمول والكسل، تلك المرة الثانية التي أَمُرُّ بهذه الحالة .. كانت الأولى أثناء فترة التجنيد، وأثناؤها قمت محاولاًعلاجي بنفسي، بعد ما فشلت تلك الأقراص المهدئة التي أعطاني إياها صديقي الصيدلي، قرأت كتاب في الأمراض النفسية رجَّحت بعدها أني مصاب باكتئاب ، وبالطبع فأنا القادر وليس سواي على حل مشكلتي والتكيف معها .. وقد كان .. فكنت أعامل نفسي على علتها، محاولاً الوقوف على السبب الخفي الداخلي، متجنباً الخوض في أحاديث مع أناس قد يؤذون شعوري، عامدين أو غير متعمدين .. مطمئناً نفسي أن تلك المرحلة مؤقتة وستنتهي، ولابد أن أستفيد من معاملة تلك النوعية من البشر التي ربما لا ألقاها ثانية، فأزيد من رصيد خبرتي في الأمور الحياتية، ولم أشعر متى تم شفائي  ..

أما تلك الحالة فهي أعمق بكثير، فلم يعد من الصعب عليَّ التكيف مع من حولي مستفيداً من حالتي السابقة .. الآن وقد مر أيام، لا أعرف ولا أستطيع أن أضع يدي على سبب هذا الشعور الذي عاودني من جديد، فالساعة تعدت الثانية بعد منتصف الليل ومازلت مستلقٍ على ظهري، أتحايل على النوم وأفكر وأحادث نفسي، أهو التفكير في المستقبل المظلم الماثل أمام عينيك والذي لا أمل فيه ؟! .. أو لربما يكون إحساس بالوحدة لعدم وجود صديق، تُسمعه شكواك أو تأمنه على سرك، وَكُلٌ أصبح في شُغل عنك لاهون ؟! أم لعلك ترنو لحبيبة تبث إليها نجواك ؟! تحنو عليك، فيزول تعبك وكدرك، وقد وأدت الحبَ بقلبك وهو مازال في المهد بين النظرات والهمس .. أم شظف العيش الذي أنت فيه ؟! ماذا أنت فاعل ؟! فأبواب العمل طرقتها ولتتنتظر قدرك، شئت أم أبيت ! .. وجدتني أقولها وأعتدل في ظلمتي، متكئاً قليلاً أتحسس جهازي الصغير بجانبي على شعاع الضوء المتسلل من بين فتحات النافذة، فأدير محطاته فلم أجد سوى تلك المحطة ساهرة في الثالثة بعد منتصف الليل.. " صوت العرب ".. أمجاد يا عرب أمجاد، يتبعها صوت المذيع قائلاً : ( وهكذا صرَّحت المتحدثة باسم الوفد الفلسطيني، بأن المفاوضات المتعددة ما زالت متعثرة بسبب التعنت الإسرائيلي، ولكنها تعود لتؤكد عن تفاؤلِها الحذر بشأن الوصول إلى حل سلمي في المنطقة ) ..

لاح في ذاكرتي صورته، كان يسكن أسفلنا في الدور الرابع، مرتان فقط رأيته، كانت المرة الأولى في بداية العام الدراسي بملابسه القديمة الغير متناسقة الألوان، والتي ربما لا يخلعها إلا إذا نَبَّهَه أحد زملائه، حتى نظارته سميكة قديمة جداً، ذكرتني ببائع الحلوى العجوز الذي كان يقف أمام مدرستنا الابتدائية، ويربطها بخيط سميك حول أذنيه، لدرجة اعتقادنا أن عينيه بيضاء اللون كقطعة قطن وليس كعيون بقية الناس ..

تعمدت يومها أن أثير قضيتهم، وهو القادم حديثاً من فلسطين ولم يتأثر بعد بشيء يُنسيه ما يحدث هناك، لذا فقد سألته : ( هل ستعود بعد الدراسة إلى فلسطين أم ستظل هنا ؟ ) ..

رد بحماس : أمنيتي أن أسافر لأدرس القانون الدولي، وأطوف دول العالم لأدعو وأدافع عن القضية ..

- يعني بعد عشر سنين على الأقل ..

-ولو بعد مائة سنة لن أتراجع ..

-يعني فرضت أنها لن تُحَل قبل العشر سنين القادمة ؟!

-والله ما أنا شايف لها حل ..

لحظة صمت مرَّت، فقطعتها بسؤالي له : (على فكرة يا أخ بسام، يا ترى هل لكم بطاقات شخصية ؟ويا ترى إيه مكتوب فيها ؟ ) .. لم يرد، وكسا وجهه سحابة من الحزن كمن ذكَّره بجرح عميق أو حادث مؤلم ..

فقط أخرج من جيبه بطاقة في غلاف بلاستيكي شفاف، أخذتها منه وما كدت ألمسها لتقع عيناي على كلمة "إسرائيل" المطبوعة بحروف مضغوطة عليها؛ حتى شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وكأنني لمست شيئاً نجساً، واحتبس لساني في فمي وبحركة لا إرادية وجدتني رددتها إليه .. ولم تمضِ دقائق حتى استأذنت بعدها منصرفاً، شاعراً بخجل من نفسي كون أنني عربي وتلك القدس عربية !!

شعرت بعدها بإعجاب لا أعرف كنهه بذلك الفلسطيني ..

ربما للحماس الذي كان يأخذه، ولكنني سألت نفسي لو تلك بلدي، وطني، هل أتركها لأتعلم وأدرس وأنجو بنفسي ؟! أم أدافع عنها حتى آخر عمري ؟! ولم اهتدِ لجواب ..

أيام قليلة مضت وكانت المرة الثانية التي قابلته فيها، ولم أحاول رؤيته ثانية، فقد خُيِّل إليَ أنه شخص آخر، فَأَشَد ما أذهلني هو تسريحة شعره البني المجعد الذي أرسله على جبينه وأذنيه، ونظاراته الجديدة ذات العدسات المضغوطة والتي تظهر عينيه الخضرواتين بوضوح، وقميصه الحريري المنقوش بالورود، وتلك الرائحة التي تخرج من فمه والتي أفقدته وعيه، دقَّ باب شقتنا متأهباً للدخول وحين فتحت ،لم يُعرني اهتماماً، يومها زال ذلك الإعجاب السريع به ولم أعد أراه أو أهتم بأخباره ..

لكني تمنيت اليوم أن أراه أو أذهب له إلى الكلية، تخيلت أنني أحدثه، أُطمئنه أن لا داعي لأن يجهد نفسه ويدرس القانون، فهناك متحدثة باسم الوفد بدلاً منه، وجدتني ابتسم وجفناي يتثاقلان بدون أن أشعر، حينما جاءني صوت المذيع قائلاً : ( وفي القدس المحتلة ألقت فتاة فلسطينية بنفسها فاصـــ......  ) ، فنهضت مسرعاً وأغلقت المذياع حتى لا تتوه بسمتي فلا أستطيع النوم ..

في الصباح تسلمت رسالتين، أحدهما طلب حضور لتسلم أول عمل لي، والأخرى طلب استدعاء بتسليم نفسي لأقرب وحدة قوات مسلحة في خلال أربع وعشرين ساعة، أيكون من أجل البوسنة والهرسك، أم الصومال ؟؟ لا أدري .. ضغطت بكلتا يدي على أذني، فقد تعالت الحوارات بداخلي من جديد أكثر وأكثر، ولا تكاد تبدأ حتى تنتهي، ولا زلت جالساً أفكر كيف أعتذر لبسام حين أقابله، فهذا أول عمل لي ..